شاهدت شاباً قالوا عنه أنه مجنون ، يهيم في الطرقات ، ويتكلم وكأنه مذيع ربط يعلن عن برنامج إذاعي ديني !
وشاهدت رجلاً قالوا عنه أنه مجنون ، يقف في أحد الميادين ، ويتحدث كزعيم وطني يطالب بالعدالة ، والمساواة ، والحرية !
وشاهدت امرأة قالوا عنها انها مجنونة ، تجلس على كرسي في مقهى باحدى محطات السكك الحديدية ، تتمتم من آن لآخر بجملة واحدة : "احنا ولايا ..احنا الولايات المتحدة الامريكية" !
عندما شاهدت هؤلاء الذين قيل عنهم انهم مجانين ، ورأيت معقوليات جنونهم ، ادركت لأول مرة ، ان الجنون ليس في ذهاب العقل ، انما في ذهاب الحدود التي تحيط كالأم الرؤوم بالعقل ، مثل : القانون ، والعادات والتقاليد.
لعل بعضنا ما زال يتذكر ذلك الرئيس ، الذي كان يردد دائماً قبل أن يغيّبه الاغتيال ، أنه : "رئيس مسلم لدولة مسلمة" ، فخرج عقله من اطار التاريخ والمنطق إلى رحـاب التعظّم المريض ، والعنصرية البغيضة !
ولا ننسى ما قالته استاذة جامعية عن نظرية : "الاقل ديناً ، والدين الأفضل"، وكأن هناك ما هو سماوي رديء ، وما هو سماوي آخر رائع !
كما لا ننسى ما قاله أحد القضاة في ساحة العدالة : "من يدخل المسيحية يعلو درجة ، ومن يدخل الاسلام يعلو درجتين" ، وكأن هناك إلهيّ درجة أولى ، وإلهيّ درجة ثانية !
وكما أن هناك مجانين يصنعون الجحيم لغيرهم ، هناك جنونيات رجال عقلاء ، يصنعون الجحيم لأنفسهم ؛ لنعيش نحن في نعيم من صنعهم ، أو على الأقل نتمثل بهم :
ألا نتذكر العالم الإيطالي جاليليو ، الذي تأكد من صحة نظرية كوبرنيكس ، فجاهر بها .. وإذا بالاصوليين ينددون به ، قائلين : "انه كاذب كافر ملحد فاجر لا يعرف الله ، وهو أيضاً جاهل لا يعرف الكتب المقدسة ، ويجب أن يموت" .. وعندما استحثه اصدقاؤه على الخروج من المأزق ، وقالوا له : "هل تريد أن تعيش ؟ إذن كن عاقلاً وافتد رأسك بالانكار" ، اجابهم : "نعم أريد أن أعيش ، لكن الأرض تدور حول الشمس" ، فقالوا له : "أنت عالم في الطبيعة والرياضيات والفلك ، فاحسبها جيداً وحافظ على حياتك " ، اجابهم ثانية : " نعم .. حسبتها ألف مرة ، ولا أريد أن أموت ، لكن الأرض تدور والشمس ثابتة ، ولا أقدر أن أقول غير ذلك" !
ومن ينسى ذلك الرجل الذي ترك كيس الذهب والنخلات العشر ، واختار أن يُقطع رأسه على يد الخليفة العباسي المعتمد على الله ؟!..
فقد خرج مندوب القصر يجول في شوارع البصرة ، يحمل في يده اليمنى كيساً من الذهب ، وفي يده اليسرى جمجمة تقطر منها الدماء ، ونادى في الناس قائلاً : "يا أهل البصرة .. يا زنج البصرة .. كل يتحسس عنقه .. كل يتحسس كيس نقــوده .. كل يتدبر أمره : كيس الذهب ونخلات عشر للطائع ، أما للعاصي ، فهذا الرأس المقطوع " .. وخرج إليه عبد الله بن محمد قائد ثورة الزنج ؛ ليقول قولته الشهيرة : "اخترنا الرأس المقطوع" !
،...،...،...
قد يكون من المعقول أن نصف البعض بالجنون ؛ لأنهم يتصرفون كالمجانين ، ولكن من الجنون أن نتهم البعض بالجنون ؛ لأنهم يتصرفون كالعقلاء في عالم مجنون !...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق