أفلاطون
[[ذكرتُ في الحلقة الثالثة بأنَّ خصائصَ المدينة هي ثلاث: التغذية، الدفاع والحكومة. إعطاء هذه الخصائص للمدينة العادلة لم يكن إعتباطيا بل كان مُتعمَداً من قِبل أفلاطون. فكل خاصية تعكس صفة داخل الروح البشرية حسب معتقده. إذ أن الروح البشرية بحاجة إلى تغذية وحماية وحاكم عليها. الروح حسب معتقد أفلاطون تتغذى من الملذات وتحتمي بالشجاعة وتحكم بالعقلانية ... من ناحية أخرى يمنح أفلاطون الحرية لكل إنسان أن يختار الطبقة التي تتناسب مع صفاته الروحية. وبذلك يثبت على أن كل أنسان سينتسب إلى الطبقة التي تتناغم مع تقنياته ومهاراته وقدراته العملية حسب صفاته الروحية / قرطبة عدنان الظاهر ـ بحثها بعنوان : الفلسفة الإغريقية في السياسة
و الدولة ـ الجزء الخامس ـ أفلاطون ( الحلقة الرابعة ) ... نُشر في العديد من المواقع منها الهدف الثقافي والناس مثلاً ]] .
بدأتُ بأفلاطون لأنه يُمجّدُ الروح ويحتقر الجسد بل ويعتبره مصدر العمى والتشويش لأنَّ أساسه حسّيٌ أي يعتمدُ على الحواس الخمس المعروفة. أما الروح فإنها أساسُ النظر الصحيح لأنَّ أساسها عقليٌّ (1) . [ لكي تُصبح فيلسوفاً حكيماً ينبغي أنْ تمارسَ على نفسك تحويلاً ينتهي بك إلى الإنشطار إلى ثنائية متنافرة تغلبُ فيها سلطة الروح على الجسد / نفس المصدر الصفحة 109 ] . يُضيف أفلاطون [[ ينبغي التخلص من حَمَق الجسد . إنَّ إنطواء النفس على ذاتها وبُعدها عن الجسد إنما هو التفلسف على الحقيقة ]] . هنا تكلم أفلاطون عن النفس بدل الكلام عن الجسد ! فهل ، تُرى ، الروح بالنسبة له هي النفس ؟ نفهم ذلك من منطوق كلامه الأخير. هذا الكلام ذو مغزى خطير لأنَّ الديانة المندائية تنهج النهج المعاكس إذْ تمجّدُ النفس وتحتقر الروح لإنها مصدر الشرور في حياة المندائي . النفسُ هِبةٌ من الله ، من مليك النور الحي الأزلي حسب معتقداتهم . وسأعود إلى هذا الموضوع لاحقاً مع شيء من التفصيل. لذلك لا أرى من غرابة في قول أفلاطون السابق الذي استهللتُ به مقالي هذا مقتبساً من مقالة قرطبة الظاهر آنفة الذكر .
وما كان موقف أرسطو ، تلميذ أفلاطون ، من الجسد والروح والنفس ؟ إنه خالف معلّمه في هذا الشأن خلافاً كبيراً وطرح فكرةً جديدة لم يسبقه إليها أحدٌ من الفلاسفة والمفكرين . قال ما يلي [ جسدٌ باعتبارهِ آلةً تملكُ أدواتِ النطق ، وروحٌ بوصفها نفساً تفكّرُ / المصدر الأول الصفحة 60 ] . أعترضُ كما يعترضُ غيري على كلام أرسطو طاليس هذا بأنْ ليس جسدُ الإنسان آلة للنطق حسبُ ، إنما هو مركز وأداة السمع والبصر والشم واللمس والتفكير والخيال والقوة الحافظة ( الذاكرة ) وغيرها الكثير . ثمَّ إنه ربط الروح بالنفس ، روح تفكّرُ ولكن بجهاز آخر هو النَفْس ! خالف أرسطو بأطروحته هذه ، خالف الجميع فلاسفةً وأدياناً كما سنرى لاحقاً . نعرفُ أنَّ الدماغ هو مركز التفكير ومكانه معروف محدد في رأس الإنسان فما موقع ومكان النفس في جسد البشر ؟ وإذا كانت الروحُ تفكّرُ بالنفس فما وظيفة الدماغ ؟
الدين الإسلامي والروح
الآن ، ماذا قال القرآن الكريم عن الروح ؟ جاء ذِكرُ الروح في القرآن مرّاتٍ عديدة في العديد من الآيات وجاء في البعض منها مرتبطاً بالملائكة حتى يُمكن الإستنتاج أنَّ الأرواحَ ملائكةٌ وأنَّ جبريلَ نفسه مَلَكٌ أو ملاكٌ وهو ناقل الوحي والواسطة بين النبي المُوحى إليه والرب الموحي . ففي سورة القدر نقرأ ما يلي [[ ليلةُ القدرِ خيرٌ من ألفِ شهرٍ تَنَزَّلُ الملائكةُ والروحُ فيهِا بإذنِ ربّهم من كلِّ أمرٍ. سلامٌ هي حتّى مطلعِ الفجرِ / الآيات 3 و 4 ]] . فهل المقصودُ بالروح هنا هو الملاك جبريل أم الروح القدس أم أنَّ ملائكةَ ليلة القدر هذه يُنزلها اللهُ وهي جزء من روحه كما هو الحال في آياتٍ من قبيل ( ونفختُ فيه من روحنا أو ونفختُ فيها من روحي ) ؟ نقرأ في آياتٍ أُخَرَ ما يلي [[ٌ وإنه لتنزيلُ ربِّ العالمين . نَزَلَ به الروحُ الأمينُ / سورة الشعراء الآيتان 192 و 193 ]] . هنا دلالة ثانية على أنَّ جبريل الوسيط هو المقصود بالروح الأمين وأنَّ الملاكَ هو روحٌ وهو جزءٌ من روح الله . لذا دأبت طائفة معينة من طوائف المسلمين على تسمية كبار علمائها ب " روح الله " . ونقرأ أيضاً [[ من اللهِ ذي المعارج . تعرجُ الملائكةُ والروحُ إليهِ في يومٍ كان مقدارهُ خمسين الف سنةٍ / سورة المعارج الآيتان 3 و 4 ]] . [[ يُنزِّلُ الملائكةَ بالروحِ من أمره على مَنْ يشاءُ من عبادهِ أنْ انذروا أنّهُ لا إلهَ إلاّ أنا فاتقونِ / سورة النحل الآية 2 ]] . [[ نَزَلَ به الروحُ الأمينُ / سورة الشعراء الآية 193 ]] . [[ يا أهلَ الكتابِ لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلاّ الحقَّ إنّما المسيحُ عيسى ابنُ مريمَ رسولُ اللهِ وكلمتُهُ ألقاها إلى مريمَ وروحٌ منهُ فآمِنوا باللهِ ... إلى آخر الآية / سورة النساء الآية 171 ]] . المسيحُ هنا رسولُ الله وكلمة الله ثم هو روحٌ من الله فأي مقام في الدين الإسلامي أعلى من مقام الروح ؟ الربط دقيق ومحكم بين الله والروح وبين الروح والملائكة لذا ، فالروح في الدين الإسلامي ذو منزلة قدسية فهو ملاك أو لا ينفصلُ عن الملائكة من جهة وهو جزءٌ من روح الله في عين الوقت وهذا هو الدليل الآخر [[ والتي أحصنتْ فرجَها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آيةً للعالمين / سورة الأنبياء الآية 91 ]] . [[ إذْ قال ربّكَ للملائكةِ إني خالقٌ بشراً من طين . فإذا سويّتهُ ونفختُ فيهِ من روحي فقعوا له ساجدين / سورة ص الآيتان 71 و 72 ]].
[[ فإذا سويّتُهُ ونفختُ فيه من روحي فَقَعوا لهُ ساجدين / سورة الحجر الآية 29 ]]. [[ ومريمَ ابنةَ عِمرانَ التي أحصنتْ فَرْجَها فنفخنا فيهِ من روحِنا وصدّقت بكلماتِ ربّها وكُتُبهِ وكانت من القانتين / سورة التحريم الآية 12 ]] . [[ ثمَّ جعلَ نَسلَهُ من سُلالةٍ من ماءٍ مَهين . ثم سوّاهُ ونفخَ فيهِ من روحهِ وجعل لكُمُ السمعَ والأبصارَ والأفئدةَ قليلاً ما تشكرون / سورة السجدة الآيتان 8 و 9 ]] . [[ وكذلكَ أوحينا إليكَ روحاً من أمرنا ما كنتَ تدري ما الكتابُ ولا الإيمانُ ولكنْ جعلناهُ نوراً نَهدي بهِ مَنْ نشاءُ من عبادنا وإنكَّ لَتهدي إلى سِراطٍ مستقيم / سورة الشورى الآية 52 ]] . ربط الروح بأمر الرب مسألة تستحق النظر . فلقد تكررت مرتين في القرآن وفي سورتين فهل أنَّ هذا " الأمر " مُشتّقٌ من الفعل أمرَ يأمرُ أمْ أنّه يعني الشأن ، شأن الله ؟ [ أوحينا إليكَ روحاً من أمرنا ] وفي سورة أخرى نقرأ [[ ويسألونك عن الروحِ قلْ الروحُ من أمرِ ربّي وما أوتيتمْ من العلمِ إلاّ قليلا / سورة الإسراء الآية 85 ]] . على أيّة حال ، سواءً كان فعل الأمر الربّاني هو المقصود أو الشأن الربّاني فالنتيجة واحدة لأنَّ الشأنَ من المشيئة والمشيئةُ إرادةٌ وإرادةُ اللهِ أمرٌ أو بحكم الأمر . فضلاً عن " روح الله " الواردة في الأمثلة السالفة ، نقرأ في القرآن " روح القدس " وعلينا التمييز ومعرفة الفرق بينهما إجتهاداً ثم رجوعاً إلى ما قال في ذلك بعض مفسري القرآن الكريم . قبل محاولات التمييز ومعرفة الفروق أذكر الآيات التالية التي ورد فيها تعبير روح القدس [[ ولقد آتينا موسى الكتابَ وقفّينا من بعدهِ بالرسلِ وآتينا عيسى ابنَ مريمَ البيّناتِ وأيدناهُ بروحِ القدسِ أفكلما جاءكم رسولٌ بما لا تهوى أنفُسُكمْ استكبرتم ففريقاً كذّبتم وفريقاً تقتلون / سورة البقرة الآية 87 ]] . [[ قلْ نزّلهُ روحُ القُدسِ من ربّكَ بالحقِّ ليُثبّتَ الذين آمنوا وهُدىً وبُشرى للمسلمين / سورة النحل الآية 102 ]] . [[ تلك الرُسُلُ فضّلنا بعضَهم على بعضٍ منهم مَنْ كلّمَ اللهَ ورفعَ بعضَهم دَرَجاتٍ وآتينا عيسى ابنَ مريمَ البيّناتِ وأيدناهُ بروحِ القُدسِ ولوشاءَ اللهُ ما ... إلى آخر الآية / سورة البقرة الآية 253 ]] .
بدل روح القدس نقرأ في الآية التالية تعبيراً آخرَ لا أحسبه إلاّ مطابقاً تماماً لروح القدس ألا وهو الروح الأمين [[ وإنه تنزيلُ ربِّ العالمين . نزلَ به الروحُ الأمينُ. على قلبكَ لتكونَ من المُنذِرِين . بلسانٍ عربيٍّ مُبين / سورة الشعراء الآيات 192 و 193 و 194 و 195 ]] .
ما قال المفسّرون في موضوع " القدس / روح القدس " ؟ نجد في المجلّد الأول من مختصر تفسير ابن كَثير / الصفحات 86 و 87 ما يلي : [[ وتأييده بروح القدس ـ وهو جبريل ]] . ثم نقرأ استطراداً [[ والدليلُ أنَّ روحَ القدسِ هو جبريلُ كما نصَّ عليه ابنُ مسعود في تفسير هذه الآية { من سورة البقرة } ما قال البُخاريُّ عن أبي هُريرة عن عائشة أنَّ رسولَ الله وضع لحسّان بن ثابت منبراً في المسجد فكان يُنافحُ عن رسول الله ، فقال رسول الله : اللهمَّ أيّدْ حسّان بن ثابت بروح القدس كما نافحَ عن نبيّك . وفي بعض الروايات أنَّ رسولَ الله قال لحسان " أهجِهِمْ ـ أو هاجِهمْ ـ وجبريلُ معك . وفي شعر حسّان قوله :
وجبريلٌ رسولُ الله فينا
وروحُ القدسِ ليس به خَفاءُ
وعن ابن مسعود : أنَّ رسول الله قال " إنَّ روحَ القدس نفثَ في روعي أنه لن تموتَ نفسٌ حتى تستكملَ رزقها وأجلها فاتقوا اللهَ وأجملوا في الطلب " . وحكى القرطبي عن مجاهد : القدس هو الله تعالى وروحهُ جبريلُ . وقال السدّيُّ : القدسُ البَرَكة وقال العوفي عن ابن عباس : القدسُ الطهْرُ . وقال الزمخشري : بروح القدس بالروح المقدّسة ]] . أكتفي بهذا القدر مما قال المفسرون بتلخيص ما قالوا في هذا الموضوع :
روح القدس هو جبريل / إبن عباس
روح القدس هو جبريل / يُنسب هذا التفسير إلى عائشة ، نقله عنها إبن مسعود عن البخاري عن أبي هُريرة .
القدس هو الله تعالى وروحه جبريل / القرطبي عن مجاهد .
القدسُ هو البَرَكة : السدّي .
القدسُ : الطُهْرُ / العوفي عن ابن عبّاس .
بروح القدس : بالروح المقدّسة / الزمخشري .
واضح من هذا العرض المركّز ومتابعةً دقيقة عميقة سبقته في محاولات استقراء ما في الآيات السالفة الذكر من معانِ تخصُّ " روح القدس " : ... واضح أنَّ التفسير الأقرب للصواب محصور بين الله وجبريل . أما السدي والعوفي فقد شذّا ولم يحالفهما الحظ في تفسيريهما لروح القدس . يبقى الإشكال العويص قائماً فالفرق كبير بل وأكبر من الكبير بين الله وملاكه جبريل فهذا واحد مما خلق اللهُ من ملائكة فكيف يستوي وكيف يتساوى الخالق والمخلوق ؟ مشكلة عويصة حقاً . هذه واحدة من عيوب المفسرين ونتائجها وخيمة على القرّاء حيث يتعسّرُ عليهم إدراك الصحيح إنْ لم يكونوا من المتبحرين في علوم القرآن والعارفين بأصول التفسير واللغة العربية ألفاظاً ونحواً . وإلاّ فما الذي يجمع اللهَ بالبركة أو الطهْر ؟ وهل البركةُ مقدّسةٌ والطهرُ قداسةٌ وتقديسٌ ؟ لا من أحدٍ يصدّق ثم يقبّل مثلَ هذا الكلام أبداً . ثمَّ ، هل تصلحُ البركةُ أنْ تكونَ بديلاً من الله ؟ وهل يصلحُ الطُهرُ ؟ في التراث المسيحي الذي يقول بالتثليث (( الأبُ والإبنُ وروحُ القدس )) أو (( الأبُ والإبنُ والروحُ القدسُ )) ، الأب هنا هو الله والمسيح هو الإبن فما معنى الروح القدس في هذا المثلّث ؟ لم يبقَ أمامنا إلاّ القول إنه الملاك جبريل حسب تفسير العديد من أئمّة المفسرين المسلمين أو إنه مدينة القدس حسبما يعتقد المسيحيون .
لا أجدُ بأساً من الرجوع ثانية لإبن كَثير في تفسيره لآية وردت في سورة النحل / المجلد الثاني [[ يُنزّل اللهُ الملائكةَ بالروحِ من أمرهِ على من يشاءُ ... ]] . قال إبن كَثير : يُنزّلُ الملائكةَ بالروح أي الوحي كقوله : وكذلك أوحينا إليكَ روحاً من أمرِنا . هنا يُضيف إبنُ كَثير تفسيراً جديداً فيزيدُ الأمرَ تعقيداً ، خاصةً والكلُّ يعلمُ أنَّ الإيحاءَ والوحيَ مرتبطان بتنزيل القرآن على صدر النبيِّ محمدٍ وقد جاءَ النصُ القرآنيُّ صريحاً (( إنْ هو إلاّ وحيٌّ يُوحى ]] والقرآنُ آياتٍ وسوراً هو المقصود . رُبَّ قائلٍ يقول إنَّ القرآن موجودٌ يتداوله ويقرأهُ الناسُ منذ أكثر من أربعة عشر قرناً ولكن أين الملائكةُ وأين الروحُ ؟ وعلى مَن تُنزَّلُ ولِمَ هذا التنزيل ؟ بالنسبة لي يبقى الإشكال قائماً في التفريق بين الله والقدس وروح القدس رغم أنَّ إستخدامها في الآيات سالفة الذكر يكادُ يكونُ متطابقاً في المعاني وتوظيفها محكماً ودقيقاً رغم إختلاف المناسبات وأزمان نزول الآيات واختلاف الظروف الدينية والسياسية والإجتماعية وتطوّر الدين الإسلامي التدريجي وانتشاره مساحةً ومن حيث تزايد عدد منتسبيه من الذين آمنوا بالله ورُسُلهِ وكُتُبهِ واليوم الآخر من مشركي قريش وعَبَدة الأوثان ومن باقي النِحل وأصحاب الديانات الأخرى من أهل الكتاب وغيرهم .
الروح مُقدّسٌ إذاً في الدين الإسلامي حيث يلتقي معه في هذه المسألة الحيوية الفيلسوف الألماني هيكل رغم أنه لم يتكلم عن قدسية للروح إنما بالغ في تمجيدها إذ اعتبرها العنصر الأسمى والأنقى والأعلى وأنَّ الروح الكونية العظمى هي القوة التي تُسيّرُ هذا العالم . فهل أراد الإشارة إلى { إله } مُدبِّر لكنه لم يقل ذلك لأسباب تخصُّهُ ؟
الروح في الديانة المندائية
تختلفُ الديانة المندائية في موضوع الروح جذرياً عن باقي الأديان ولا سيّما الدين الإسلامي (2) . نقرأ في الصفحة 427 من المصدر الثاني ما يلي [[ يعتقدُ الصابئةُ المندائيون أنَّ للإنسانِ روحاً ونفساً ، وأنَّ النفسَ هي هِبةُ الله للإنسانِ التي فيها من سنا وجلال موطنها الأصلي ونوره وكماله وجماله وسلامهِ لإعانتها من شرور الأرض ومُغرياتها ، تكونُ عُرضةً للحساب . أما الروحُ التي حلّت جسدَ الإنسانِ مع نفسه فهي التي تدفعُ الإنسان إلى الشر والفساد والمخالفة ، لأنها مجموعة من الخلايا الحية والغرائز والعادات المختلفة التي حملت معها كلَّ ما في عالم الظلام من خبثٍ ومكر وكذبٍ وشرٍّ ورياءٍ وفساد وإغراءٍ للخطيئة والمعصية ]] . هذه هي الروح المندائية حسب العقيدة المندائية وهي على النقيض من الروح في الدين الإسلامي وعن الروح في فلسفة أفلاطون قبل الدين الإسلامي ثم في فلسفة تلميذه أرسطو ثم حسب تصورات ومعتقدات المتصوّفة المعروفة ، وسأعود إليهم عندما أعالجُ مسألة النفس في الأديان وفي فلسفة أئمة رجال التصوّف الإسلامي كالحلاّج وإبن سينا . هل يعتقدُ متصوّفةُ الإسلام أنهم ، كالمسيح ، فيهم روح الله كلاًّ أو جزءاً ؟ إنهم كأفلاطون أو شديدي التأثر بفلسفته وموقفه من الروح . فشعر الحلاّح الشهير يقول :
أنا مَنْ يهوى ومَنْ يهوى أنا
نحنُ روحان أحلاّ بَدَنا
يقصد الحلاّجُ به حلولَ روحه في روح الله ... وكان هذا دأب وديدن هؤلاء المتصوِّفة وجهادهم الكبير في كبح جُماح الغرائز البشرية الطبيعية وخاصة الجنس والطعام حيث حثّوا على رياضة الجسد أو ترويضه وتنقيته من أدرانه وتحصينه من مغريات الدنيا بالتعبّد المستمر والصوم حتى تصفو الروح خالصة إستعداداً للعروج والإتحاد بذات الله ذوباناَ فيه وحلولاً .
النفس المندائية
لم تتعمق الأديان ولا الفلاسفة في الحديث عن النفس كما فعل الدين المندائي . لقد تفرّد هذا الدين من بين الجميع فخصَّ نفس الإنسان بخصائص ومزايا لم تألفها بقية الأديان المعروفة . [[ النفس هي نفحةٌ من الذات العليا بعالم الأنوار ، لا بدَّ لها أنْ تعودَ إلى موطنها الأصلي في الملكوت الأعلى الذي هبطت منه أصلاً ... والنفسُ هي النشمة باللغة المندائية وتعني النسمة السماوية المباركة أو نسمة الحياة التي وضعها الله ـ سبحانه ـ في جسد آدم الأرضي . فإذا أتمَّ الإنسانُ قدَرَهُ
على الأرض تتحررُ نفسُهُ التي عرفت الإيمانَ الحقَّ فتتحدُ بالكون الأعظم الخالد تاركةً جسدَ الإنسانِ فانياً لا أهميةَ له بدونها / المصدر الثاني ، الصفحة 427 ]] . هل كل نفس تحررت بموت صاحبها تتحد بالكون الأعظم الخالد ؟ الجواب كلاّ . تمر النفس المندائية التي حررها الموتُ من جسدها الفاني بمراحل تطهيرية سبع. وتنقسم هذه الأنفس إلى أربع فئاتٍ من النفوس حسب درجات طهارتها ونقاوتها وحسن سلوكها وعفّتها ومطابقتها أو مباعدتها لتعاليم الحي الأزلي مليك النور الرب المندائي :
الفئة الأولى / الفئة الطاهرة التامّة النقاوة السامية الخلق والسلوك تتحد بخالقها بعد تحررها من جسدها بعد أنْ تمرَّ بنهر يدعونه ( كشاشة ) هو بمثابة سراط الإسلام المستقيم .
الفئة الثانية / الأنفس غير الطاهرة أو غير المستوفية لمتطلبات الوفاة ... تلاقي هذه حساباً عسيراً ... فقط ، أي تمر بعمليات تثقيف وغسل دماغ ثم الإعتراف الكامل بما صنعت في الحياة بحيث لم تكتملُ طهارتها ... ثم تتحدُّ بخالقها العظيم رب السماوات والأرضين خالق كل شيء .
الفئة الثالثة / الأنفس الشريرة والفاسدة ... تلاقي عذاباً أليماً فيعفو خالقها عنها بعد العذاب لتتحد به كما هو شأن الفئتين السابقتين .
الفـئة الرابعة / هي الأنفس التي لاتصلحُ للتطهير والنقاوة {{ لكثرة سيئاتها وفسادها وكذبها وريائها وسرقتها أو غشّها وقتلها وشرّها }} ... مصير هذه الفئة من النفوس النارُ المستعرة ... لا تُقبلُ توبتها ولا تمرُّ أساساً بمراحل التطهير السبع لأنَّ طريق عروجها للحيِّ الأزليِّ مُغلقٌ أمامها ولأنَّ التطهيرَ لا ينفعها أبداً ولا ينفع معها إلاّ الكي بالنار المستعرة . لا من تفصيلات في الكتب المندائية تخص النار الساعرة أو المستعرة هذه . هي بالتأكيد لا تشبه نار جهنم المسلمين وليس فيها من أدوات ووسائل التعذيب السادية المفصّلة في القرآن الكريم .
الغريب والطريف في هذا الأمر أنَّ العقيدة المندائية لا تذكرُ أبداً الشِركَ بالخالق أو سبَّهُ أو عبادةَ سواه كشروط لإدخال بعض النفوس الشريرة إلى عالم النار الساعرة ! هذا في نظري مثالٌ آخرُ على تواضع خالقهم وترفعه عن مفاهيم الدنيا بحيث لا يكونُ الخلودُ والإتحادُ به مشروطاً بعامل شخصي ضيّق هو الإعتراف به قوّةً عظمى وحيدةً في هذا الكون فهو أكبرُ من ذلك وأسمى وأجلُّ .
إذاً هناك مرونة كبيرة وعفو وسماح بحيث لا يُحرمُ الشرير وغير الطاهر ( الفئتان الثانية والثالثة من النفوس المندائية ) من حق الإتحاد بمليك الأنوار ربِّ الأزلِ الحيِّ الذي لا ينامُ . الحسابُ المندائيُّ والتعذيبُ لا يستهدفان قتل النفس ولا الإنتقام منها أو من صاحبها الذي كان معها على سطح الأرض المادية كما هو الحال مما نعرف من العقوبات الإسلامية وما يعانيه سَكَنة جهنم والجحيم في العالم الآخر حيث لا من مجال للتفكير في جنّة الخُلْد أبداً فالأبواب موصدة والحكمُ نهائيٌّ غيرُ قابلٍ للنقض أو الإستئناف ولا تنفعُ شفاعةٌ ولا مالٌ ولا بنون ولا وساطات ... إلاّ مَنْ تاب في حياته وآمن بالله ورسله وملائكته وكتبه واليوم الآخر وعملَ بالمعروف ونهى عن المنكر . على النقيض من الإسلام ، الحساب والعذاب المندائيان يكونان بعد الموت لا قبله وخلال مراحل التطهير السبع . بعد التطهير والتثقيف والإعتراف بالذنوب والخطايا تدخل هذه النفوس ملكوت خالقها نور الأنوار الأزليِّ الحيّ الذي ربما يقابل جنّة المسلمين التي أفاض القرآنُ في وصفها وتعدد منافعها وطيّباتها وما تشتهي أنفسُ المؤمنين من أطايب الأطعمة والمشروبات أنهرَ عسلٍ ولبنٍ وخمرٍ لذّةً للشاربين ومن حورٍ عينٍ لم يطمثهنَّ من قبلُ لا إنسٌ ولا جان أزواجاً مُطَهَّرةً ومن ألبسة السندس والإستبرق وأساور الذهب . لا وجودَ لمثل هذه التفصيلات الشديدة الإغراء في عالم النور العلوي المندائي الخالد ، وربما أفسّر ذلكَ بتواضع المندائيين وزهدهم المعروف في دنياهم وتعففهم وحفاظهم على عفّتهم وعفافهم بين الأمم على مدار الحقب وكرّ القرون منذ أبيهم ونبيّهم آدم الأرضي المادي المندائي [ حسب عقيدتهم ] حتى يومنا هذا . الخمرة محرّمةٌ عليهم في دنياهم فما حاجتهم بها بعد الموت ؟ وزواجهم في الحياة الدنيا من إمرأة مندائية واحدة فماذا عساهم يصنعون بالعديد من نساء العالم العلوي ؟ وما حاجتهم بعد فناء الجسد بالموت لأساورَالذهب وباقي الحليّ وأواني الفضة والذهب وكانوا هم في حياتهم صاغة وسادة الذهب والفضة والنقش بالميناء ؟ زاهدون في حياتهم وكذا يزهدون في آخرتهم لا يبغون إلاّ الخلود ، خلود نفوسهم ، بالإتحاد ببارئهم العليّ القدير باسط النور وسيد الكون لا تغمضُ له عينٌ ولا تأخذهُ سِنةٌ من النوم .
أخيراً لا بدَّ من التنويه أنَّ الديانة المندائية لا تؤمن بالقيامة بعد الموت ولا بيوم حشرٍ وبعثٍ جديد وقيام الرِمم من الأجداث لا أحدَ يعرف موعد حدوثها الدقيق . النفسُ البشريّةُ تتحررُ بموت صاحبها فورَ موته لتمرَّ بمراحل العروج السبع التي سبق شرحها وليس أكثر من ذلك . في الدين الإسلامي يقوم الإنسانُ من موته كاملاً جسداً ونفساً وروحاً وكتابُه معه ليُلاقي وجهَ ربّه في يوم حسابه المعلوم ولكن متى ، متى هذا الوعدُ ؟؟؟ لا من أحدٍ يدري .
النفس في الدين الإسلامي
ليس في الدين الإسلامي تفاصيل كثيرة عن النفس ، فقد وقف القرآنُ منها موقفاً حذراً بل وشديد الحذر ولم يربطها إلاّ بالقليل من الأمور مثل خلق زوجها منها أو أنها تأمر بالسوء أو بدعوتها ـ مرةً واحدةً في آية واحدة في القرآن ـ للعودة إلى ربّها بعد موتها راضيةً مَرضيّة . لا يضعُ القرآنُ حدوداً فاصلة بيّنةً بين الروح والنفس في العالم الآخر ، عالم ما بعد الموت . لا يتكلمُ عنها حين يكون المؤمنون في جنات الخلد أو الكافرون في جهنم يَصلوَنَ السعيرَ ويعانون من العذاب الدائم المُقيم . هناك نواجه الأجساد فقط ، فإنها هي التي تُسعد في الجنة وتنعم وتأكل وتشرب وتتزوج من قاصرات الطرف الحورٍ العِين ، وإنها هي التي تشقى وتتعذبُ في نار جهنم في الجحيم . لاتنسلخُ النفسُ بعد الموت من الجسد فهل تبقى معه في قبره إلى أبد الآبدين حتى تقومَ الساعةُ وينشقُّ القمرُ ويُنفخُ في الصُورِ ؟
نتجوّلُ في رحابِ القرآنِ لنرى حالات النفس البشرية كيف تتبدلُ وكيف تتكيّفُ وإلامَ بعد الموتِ تؤولُ . وردت حالة واحدة في آية واحدة قَرَنت فيها النفسَ
بالأمر على إتيان السوء [[ وما أُبرِّئُ نفسي إنَّ النفسَ لأمّارةٌ بالسوء إلاّ ما رَحِمَ ربّي إنَّ ربّي غفورٌ رحيم / سورة يوسف الآية 53 ]] . النفسُ إذاً تأمرُ بالسوءِ إذا لم يرحم الربُّ وإلاّ فهي تأمرُ بالسوء . هذا إستثناء واحد وحيد في القرآن الكريم يبرره سياق تفصيلات قصة يوسف مع إمرأة عزيز مصر المعروفة . كان هناك إغراءٌ فوق العادة ولقد كاد أنْ يستجيبَ يوسفُ لهذا الإغراء ويضعف أمام مراودة زليخا له عن نفسه ( ولقد همّت به وهمَّ بها لولا أنْ رأى برهانَ ربّه ... / سورة يوسف الآية 24 ) . في هذا الموقف الدقيق الحرج نفهمُ الإستجابة لأمر السوء . قد يجادلُ البعض ( وقد فعل بعض الأصدقاء ) في هذا الشأن محتجّاً بما ورد في سورة التغابن [[ هو الذي خلقكم فمنكم كافرٌ ومنكم مؤمنٌ واللهُ بما تعملون بصير / الآية 2 ]] . وفي سورة الشمس [[ ونفسٍ وما سوّاها . فألهمها فجورَها وتقواها / الآيتان 7 و 8 ]] من أنَّ الإنسانَ قد خُلق وفيه الإستعداد للفجور وللتقوى وعلى هذا الإنسان أنْ يقررَ أيَّ نهجٍ ينهجُ في حياته فالقرار قراره وعليه أنْ يتحمّلَ النتائج المترتبة على ذلك . السلبُ والإيجابُ موجودان في نفس الإنسان ، الظُلمةُ والنورُ ، وكلاهما إلهامُ من الله . الإنسانُ ساحة صراع بين عنصري الشر والخير ، الفجور والتقوى فلمن تكون في نهاية الأمر الغَلَبة ومن الذي يقرر هذه النهاية ويتحكم بها ، مَنْ ؟ لماذا وكيف يكون الإنسانُ مرةً فاجراً ومرةً أخرى صالحاً نقياً تقيّا ؟ النفسُ تأمرُ بالسوءِ فمن ذا الذي يُنفّذ ومن الذي يستطيع المقاومة ولا ينصاع لأمر السوء ؟ الأنسانُ نفسهُ ، أي نفسُ الإنسان ، هو الذي يحسم الصراع حسب الظرف والمناسبة والمصلحة والحالة العقلية والجسدية . هل كان يوسفُ يعفُّ ويعتصم ويأبى الإستجابة لطلب زليخا لو لم يكن ربيبَ زوجها عزيز مصر ؟ إنه أبى واستعصمَ لهذا السبب لا لغيره والدليل في سورة يوسف وفي حجّة يوسف [[ وراودته التي هو بيتها عن نفسهِ وغلّقت الأبوابَ وقالت هَيتَ لك قالَ معاذَ اللهِ إنّه ربّي أحسنَ مثوايَ إنه لايُفلحُ الظالمون / الآية 23 ]] . هنا سر إستعصام يوسف ورفضه الإستجابة لرغبات زُليخا ، زوج سيّده الذي تكفّله ورعاه وربّاه في بيته [[ إنه ربّي أحسنَ مثوايَ ]] . لقد أصاب هذا اليوسف إذْ قال [[ وما أُبرّيءُ نفسي إنَّ النفسَ لأمّارةٌ بالسوء ]] . هذا هو الإنسان خليطٌ من التقوى والفجور . وهكذا كان الرمز في كلكامش السومري : ثلثاه مثال سماوي إلهيٌّ وثلثه الباقي مادي من تراب وطينة البشر . نقاء ووساخة .
في القرآن آيات عديدة يأتي فيها ذكرُ النفس الواحدة منها على سبيل المثال :
[[ وهو الذي أنشأكم من نفسٍ واحدةٍ فمُستَقرٌ ومُستَودعٌ قد فصّلنا الآياتِ لقومٍ يفقهون / سورة الأنعام الآية 98 ]] .
[[ هو الذي خلقكم من نفسٍ واحدةٍ وجعلَ منها زوجَها ليسكُنَ إليها فلمّا تغشّاها حملت ... / سورة الأعراف الآية 189 ]] . هنا إعتراف صريح أنَّ الذكر هو المخلوق الأول من قبل الرب : وجعل منها زوجها ليسكن إليها ... إليها فهي أنثى.
يتغيرُ جذرياً موقف القرآنُ من النفس في مواقف أُخَرَ مغايرة من قبيل [[ يا أيتها النفسُ المطمئنة . إرجعي إلى ربّكِ راضيةً مرضيّة . فادخلي في عبادي . وادخلي جنّتي / سورة الفجر الآيات 27 و 28 و 29 و 30 ]] . ألا يذكّرنا القولُ : " إرجعي إلى ربّكِ راضيةً مرضية " بصعود النفس المندائية بعدَ الموتِ للسماءِ للإتحادِ بمليك النور الحيّ الأزلي ؟ مع فارق : أنَّ الرجوعَ في الإسلام بعد الموت للرب لا يعني ولا يتضمن الإتحاد به كما هو الشأن في الحالة المندائية ، إنّما يعني الدخول في الجنّة مع باقي العباد الصالحين من سَكَنة النعيم الأبدي . لقد تكرر الحديثُ في القرآن عن نفسٍ واحدةٍ خلق منها زوجها . لم يخلق اللهُ من الروح روحاً أخرى أبداً كما رأينا في موضوع الروح في الدين الإسلامي . وهذا دليلٌ ساطعٌ قويٌّ على أنَّ الروحَ في الإسلام هي غير النفس . الروح مرتبطة بالقدس { الله ؟ } وبالوحي ثم بالملائكة كما رأينا سابقاً . أما النفس فشأنها مختلفٌ كل الإختلاف . نقرأ [[ يا أيها الناسُ اتقوا ربّكم الذي خلقكم من نفس واحدةٍ وخلق منها زوجَها وبثَّ منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تَساءَلون به والأرحامَ إنَّ اللهَ كان عليكم رقيبا / سورة النساء الآية 1 ]] . مَنْ كان المخلوقُ الأوّلُ ، الذكرُ أم الأنثى ؟ لم يحدد ذلك القرآنُ في هذه الآية ولم يبتَّ به ، فالزوج في اللغة قد يكون أنثى وقد يكون هو الذكر . خلقكم من نفس واحدة ... أكانت هذه النفسُ نفسَ ذكرٍ أم نفسَ أنثى ؟ علمُ ذلك عند ربّي . نفس واحدة انشطرت على نفسها وتكاثرت جرّاءَ هذا الإنشطار فكان أحد الشطرين أنثى وكان الآخر ذكراً [ صُدفةً ؟ توافقاً ؟ محاصصةً ؟ ] أو هو مبدأ وحدة الضدين ؟ حسب الديانة المندائية صُنعت حوّاءُ من ضلع آدم أو خرجت منه. نقرأ مثل هذا القول في آية أخرى [[ خلقكم من نفسٍ واحدةٍ ثم جعلَ منها زوجها وأنزلَ لكم من الأنعام ... إلى آخر الآية 6 من سورة الزُمر ]] . لمفسرّي القرآن رأيٌ محدد صارم في مسألة المخلوق الأول فإنهم يرون أنه آدم . نجد في المجلّد الأول من مختصر تفسير ابن كَثير حول الآية الأولى من سورة النساء ما يلي :
(( وخلق منها زوجَها وهي حوّاء عليها السلام ، خُلقت من ضلعه الأيسر مِن خلفه وهو نائم فاستيقظَ فرآها فأعجبته ، فأنسَ إليها وأنست إليه . وقال ابنُ أبي حاتم عن ابن عبّاس : خُلِقت المرأةُ من الرجل فجُعِلتْ نهمَتها في الرجل وخُلقَ الرجلُ من الأرض فجُعِلت نهمته في الأرض فاحبسوا نساءَكم " رواهُ ابنُ أبي حاتم عن قتادة عن ابن عبّاس " . وفي الحديث الصحيح أنَّ المرأةَ خُلقت من ضلعٍ ، وإنْ اعوجَّ شيءٌ في الضلع أعلاه ، فإنْ ذهبت تُقيمهُ كسرته ، وإنْ استمتعت بها استمتعت بها وفيها عَوَج )). لا أحسبُ أنَّ باقي مفسري القرآن يختلفون في تفسير هذا الأمر عن ابن كثير . وإنهم جميعاً يرون أنَّ الرجل الذكر آدم هو أول من خلق الربُّ إذِ جبله من تراب أو طين أو من حمأٍ مسنون . لم يرد في القرآن أيُّ ذِكرِ لمسألة أنَّ حوّاءَ كانت قد خُلقت من ضلع آدم سواءً أكان نائماً أو صاحياً فمن أين وكيف سوّلت نفوسهم لهم أنْ يخترعوا قصة لم يذكرها أحدٌ قبلهم { عدا الديانة المنداية } ولم يتعرض لها القرآن وهو مصدر معارفهم وعلومهم كافة ؟ " خلقكم من نفسٍ واحدةٍ ثم جعل منها زوجَها " تحتمل الوجهين : قد تكونُ الأنثى حوّاءُ هي أول من قد خلق الربُّ ثم اشتقَّ منها الرجل الذكرَ آدم . الزوج في اللغة العربية يُطلق على الرجل والمرأة . كل مفسّري القرآن كانوا رجالاً ذكوراً لذا مالوا إلى جانب الرجل في تفسيراتهم كافّةً وغمطوا حقوق المرأة ولهم في بعض آيات القرآن أسانيد وحجج يتكئون عليها ويتحججون بها ويضعونها في مرتبة المقدسات التي لا يطالها شكٌّ ولا تحتمل نقاشاً أو مساءلةً من قبيل " الرجالُ قوّامون على النساء " أو " وللرجل مثلُ حق الأنثيين " وغير ذلك مثل ما ورد في سورة الأعراف آنفة الذِكْر [[ هو الذي خلقكم من نفسٍ واحدةٍ وجعلَ منها زوجها ليَسكُنَ إليها ... ]] . الدين المندائي صريح في القول أنَّ حوّاءَ خرجت من ضلع آدم ولكنهم لا يحددون من أية جهة ولا يتطرقون لذكر هيئة هذا الضلع أكان مستقيماً أم أعوج الهيئة . هم كذلك يعتقدون أنَّ آدمَ كان أول مَنْ خُلِقَ وقد صنعه الملاك هيبل زيوا بأمر من ربّه من تُراب لذا فإنه ماديٌّ ترابيٌّ خلاف آدم الآخر آدم المستتر في العالم الآخر . قصة خلق حوّاء من ضلع آدم فيها مغزى كبير الدلالة مؤدّاهُ أنَّ المرأةَ جزءٌ من الرجل تابع خاضع له وستبقى ، بل يريدونها أنْ تبقى كذلك ، حتى قيام الساعة بل وإلى ما بعد قيام الساعة ... ففي جنّات الخُلد نراهن [[ فيهنَّ قاصراتُ الطّرفِ ... حورٌ مقصوراتٌ في الخيام . لم يطمثهنًّ إنسٌ قبلهم ولا جان / من سورة الرحمن ]] أي أنَّ النساء هناك لا يجرؤن على رفع أبصارهنَّ في حضرة الرجال المؤمنين حياءً واحتراماً وهيبةً فللرجال المقام الأعلى والمكانة الأولى . ثمَّ إنهنَّ جميعاً باكرات عذراوات لم يمسسهن رجلٌ في دنياهنَّ ولم يمارسن الجنس أبداً وهذه إحدى أماني رجال الدين الإسلامي العزيزة على قلوبهم . وماذا عن الأرامل والمطلقات المؤمنات وسواهنَّ من غير العذراوات ؟ ألا يصلحن لدخول جنّات الخلود أسوةً بالرجال المؤمنين ؟ هل إيمانُ هذه الفئة من النسوة يختلف عن إيمان الرجال وفيم يختلف ؟ الدين المندائي يميّزُ بين العروس العذراء وغير العذراء { الثيّب } ، فلتلك رجلُ دين من الدرجة الأولى يقوم بمراسيم عقد الزواج حسب الشريعة المندائية وللأخرى رجل دين من الدرجة الثانية أي من درجة أوطأ ... وأرى ذلك ظلماً وعدواناً على المرأة وحطّاً من قيمتها الإجتماعية . ولعله الأمر الوحيد الذي يشذُّ عمّا نعرفه عن عمق إنسانية هذا الدين وشموليته السمحاء واحترامه للمرأة . هل نعود لموضوع النفس في فكر بعض الفلاسفة والمفكّرين المسلمين ؟ لا من بأس فلنعد والعودُ أحمدُ .
النفس والروح لدى إبن سينا
يضعُ ابنُ سينا النفس في المقام الأعلى فيقول [ وإنمّا أعني بالنفس ذلك الجوهر الكامل الفرد الذي ليس من شأنه إلاّ التذكّر والتحفّظ والتفكّر والتمييز والروية ويقبلُ جميعَ العلوم ولا تميلُ عن قبول الصورة المُجرّدة المُعرّاة عن المواد . وهذا لكونه رئيس الأرواح وأمير القوى ، والكل يخدمونه ويتمثّلون لأمره . وللنفس الناطقة ، أعني هذا الجوهر ، والقرآن يسميه النفس المطمئنة والروح الآمري ، والمتصوفة تارةً يسمّونه الروح وتارةً يسمّونه القلب والخلاف في الأسامي وأمّا المعنى فواحد لا خلافَ فيه . فالقلبُ والروحُ عندنا ، والمُطمَئِنة كلها أسامي النفس الناطقة . فالنفس الناطقة هي الجوهر الحيّة العلاّمة الفعّالة المُدرِكة ، وحيثُ نقولُ الروح المطلق والقلب إنمّا نعني به هذا الجوهر ] (3) . ما قد حيّرني في أمر هذا الرجل إبن سينا أنه سبق بقية علماء الدين الإسلامي وفقهائه ومفسري القرآن وفلاسفة الإسلام بل وأكثر الفلاسفة الغربيين الماديين وعلى رأسهم كارل ماركس ... سبقهم جميعاً في تفسيره وتبريره لمسألة خلود الروح والنفس البشرية تفسيراً جدلياً " دايالكتيكياً " لكنه دايالكتيك مثالي إذْ قال
[ أمّا مَنْ جهل الموتَ ولم يدرِ ما هو فأنا أُبيّن له : الموتُ ليس شيئاً أكثر من ترك النفس إستعمالَ آلاتها ، وهي الأعضاء التي مجموعها يُسّمى بَدَناً ، كما يتركُ الصانعُ مثلاً إستعمالَ آلاته . فإنَّ جوهر النفس جوهرٌ غير جسماني ، ليست عَرَضاً وأنها غير فانية ... فإذا فارق هذا الجوهرُ البدنَ بقيَ البقاءَ الذي يخصّه وتصفّى من كدورات الطبيعة وسعدَ السعادةَ التامّة ولا سبيلَ إلى فنائه وعَدَمه فإنَّ الجوهرَ لا يفنى من حيثُ هو جوهر ولا يبطلُ ذاته وإنما تبطلُ الأعراضُ والخواصُّ والنسب والإضافات التي بينه وبين الأجسام بأضدادها . فأمّا الجوهرُ فلا ضدَّ له ، وكلُّ شيء يفسدُ فإنما يفسدُ من ضدّه ] (4) . هذا هو الأمر المحيّر في فكر وقول إبن سينا . " وكلُّ شيء يفسدُ فإنما يفسدُ من ضده " . ولما كانت النفس الناطقة جوهراً وليس للجوهر ضدٌّ فإنها خالدة لا تفنى ولا تعرف العدم . هذا أحد قوانين الدايالكتيك الماركسي القائل بوحدة وصراع الأضداد . لكنَّ إعتراضي على إبن سينا في هذا المقام ما يلي : إنه يضع مقدمة محددة ، مشكوك فيها أصلاً ومطعون فيها ، ثم يبني عليها إفتراضات لينتهي إلى نتيجة محددة يؤمن بها ويريد من الآخرين أنّْ يؤمنوا مثله بها . فهو يفترضُ أنَّ النفسَ جوهرٌ وأنَّ الجوهرَ لا ضد له لذا فهي خالدة لا تفنى لأنَّ الشيءَ لا يفنى إلاّ بضدّهِ أو أنَّ الضدَّ يُفني ضدَّهُ . أسألهُ ( لو كان حيّاً أو ليته كان حيّاً ) : ما تعني بالجوهر ومن قال لك أنَّ الجوهرَ لا ضدّ له ؟ كيف تثبِتُ لي أنَّ النفسَ جوهرٌ أزليٌّ خالدٌ ؟ وأقول له إنَّ النفس من التنفس والتنفس عملية حياتية تمارسها الكائناتُ الحيّة وإنها تتوقف بموت الجسد فأين الخلود أولاً ثم أليس الموتُ هنا هو ضدّ النفس لأنه أوقف عملية التنفس ؟ للنفس إذاَ ضدٌّ هو الموت لذا فإنها ليست جوهراً خالداً يا إبنَ سينا . الطريفُ أنَّ هذا الرجل كذلك يُسمّي الروحَ جوهراً لذا فالروح كالنفس خالدٌ لأنه ـ حسب قناعاته ـ ليس له ضدٌّ ينفيه حسب قانون الديالكتيك مار الذكر . إعجابي به أنه إجتهد وقدمّ تفسيراً لخلود النفس والروح وهو أمر لا وجودَ له في الدين المندائي الذي يقدّس النفس ويعتبرها خالدة وخلودها من خلود الرب الحيّ الأزلي مليك النور إذْ تعود إليه وتتحد معه بعد مفارقتها للجسد بعد الموت . وهذا كذلك قولٌ ضعيفٌ مردود لأني أسألهم : كيف تثبتون وجود هذا الرب الأزلي الخالد إلى الأبد وكيف تبرهنون على أنَّ النفس المفارقة لجسدها ، لحظة موت الإنسان ، تلتحق بخالقها وفي أي مكان يتم هذا الإلتحاق والإتحاد ؟ هذه الأسئلة توجّهُ لكافة الأديان على حدٍّ سواء . كذلك لا يقدّمُ الدين الإسلامي تفسيراً لخلود النفس أو الروح والإسلام يحترم النفس كثيراً باعتبارها المخلوق الأول ويقدّس الروح لأنها من أمر الرب ولكنْ لا من ذكرٍ لهما في العالم الآخر ، عالم الجنة الخالدة والنار الأبدية ، عالم ما بعد الموت سواءَ ذهب الإنسانُ إلى الجنّة أو النار . خلا ما ورد في آية واحدة حيث الدعوة للنفس بالرجوع إلى ربّها [[ يا أيتها النفسُ المُطمئنة . إرجعي إلى ربّكِ راضيةً مرضية . فادخلي في عبادي . وادخلي جنتي / سورة الفجر ]] .
أخيراً ... مع إبن خلدون
موقف إبن خلدون من الفلسفة موقف سلبي بل وسيء وإنه لا يثق برجال الفلسفة والمنطق . لقد خصص في مقدمته للفلسفة فصلاً كاملاً يحمل الرقم 25 وتطرق فيه إلى ما قال مناطقة وفلاسفة الإغريق كأفلاطون وأرسطو ثم فلاسفة الإسلام وخصَّ بالذكر الفارابي وإبن سينا . واضح أنَّ الرجل قد قرأ ذلك التراث واستوعبه جيداً ولم يضفْ إليه شيئاً ذا بال . أُلخّص ما كتب إبن خلدون بشأن الوجود والشعور والجسد والنفس والروح كما يلي ( المصدر 5 / الصفحتان 428 و 429 ) :
أولاً / زعموا أنَّ الوجودَ كله الحسّي منه وما وراء الحس تُدركُ ذواته وأحواله بأسبابها وعللها بالأنظار الفكرية والأقيسة العقلية ...
واضح من هذا الكلام أنَّ إبن خلدون قد أدرك الفرق بين الحس وما وراء الحس وهو ما يسميه علماء النفس اليوم بالعقل الباطن أو اللاشعور ...
ثانياً / ... لأنَّ التصوّر التام عندهم هو غاية لطلب الإدراك وإنمّا التصديق وسيلة له وما تسمعه في كتب المنطقيين من تقدّم التصوّر وتوقّف التصديق عليه فبمعنى الشعور لا بمعنى العلم التام وهذا هو مذهب كبيرهم أرسطو ثم يزعمون أنَّ السعادةَ في إدراك الموجودات كلها ما في الحس وما وراء الحس بهذا النظر وتلك البراهين . وحاصل مداركهم في الوجود على الجملة وما آلت إليهِ وهو الذي فرّعوا عليه قضايا أنظارهم أنّهم عثروا أولاً على الجسم السفلي بحكم الشهود والحسّ ثمَّ ترّقى إدراكُهم قليلاً فشعروا بوجود النفس من قِبلِ الحركة والحس في الحيوانات ثمَّ أحسّوا من قوى النفس بسلطان العقل ووقف إدراكهم فقضوا على الجسم العالي السماوي بنحوٍ من القضاء على أمر الذات الإنسانية ووجب عندهم أنْ يكونَ للفلك نفسٌ كما للإنسان ...
أستطيعُ وضع مُلخّص الصورة حسبما شرحها إبن خلدون كما يلي :
لقد تدرّج فلاسفة الإغريق من الجسم الذي عرفوه بحواسهم وبالمشاهدة العيانية لأنه موجود أمامهم ... ثم إرتقت مداركهم بفضل الجسم فعرفوا النفس بدليل الحركة والإحساسات سواء في الإنسان أو الحيوان ، ثم عرّفتهم قوى النفس ودلّتهم على قوّة أو سلطان العقل . أي تسلسلت معارفُ الإنسان ومداركه ووعيه متدرِّجةً من الجسم المادي المُشاهد والملموس ـ إلى النفس بفضل الحركة وحواس البشر الخمس ـ إلى العقل والفضل للنفس ، أي : لا نفس بدون جسم ، ولا عقل بدون نفس . يقرر العلم الحديث والفلسفة المادية الحديثة أنَّ حواسنا هي مصدر معارفنا وهي الجبهة العريضة التي نتلقى بواسطتها العالم الخارجي المحيط بنا أفعالاً وردودَ أفعالٍ . لكنَّ إعتراضي الكبير على هذا الطرح المتسلسل هو : مَنْ يستطيعُ البرهنةَ على علاقة العقل بالنفس ؟ خاصة وقد إطلّعنا على رأي أرسطو في بدايات هذا البحث القاضي بأنَّ الروحَ نفسٌ مفكّرة . لم يذكر أرسطو علاقة النفس بالعقل إنمّا ربطها بالروح جزءاً منه لكنه الجزء المفكّر .
المصادر
1ـ هيدجر والميتافيزيقا . المؤلف : محمد طواع . الناشر : إفريقيا الشرق ، الدار البيضاء ، الطبعة الأولى 2002 .
2ـ حقيقة الصابئة المندائيين " بحث في تأريخ أمّة حاضرة منسيّة " . المؤلف : حامد نزّال السعودي : الناشر ؟ 2009 .
3ـ التفسير القرآني واللغة الصوفية في فلسفة إبن سينا . المؤلف : د. حسن عاصي . الناشر : المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع . بيروت ، لبنان الطبعة الأولى 1983 . الصفحة 188 .
4ـ المصدر السابق، الصفحة 273 .
5ـ مُقدّمة إبن خلدون . دار العودة ، بيروت 1981 . الصفحات 428 و 429 .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق