كنتُ قبل أن أشرع في كتابة هذه المقالة، قد استحضرتُ من الذاكرة ما كان يردده الفنان السوري نُهاد قلعي في مسلسل "صح النوم" ولو كان بصورة محاكية لمشهد الأحداث الراهنة؛ إذا أردت أن تعرف مايحدث في "باكستان " عليك أن تعرف ما يحدث في "النمسا". وإذا أردت أن تعرف ما يحدث في "أفغانستان" عليك أن تعرف ما يحدث في " أمريكا " وهكذا . وبغض النظر عن الاختلاف طبيعة الاختلاف بين مشهد وآخر إلا أنه ليس بالإمكان فصلها عن بعضها من حيث الجوهر ، فقد تكون دراما الاحداث تأخذ طابع "ردة الفعل" الظرفية وغير المباشرة، لكننا لا نستطيع أن نُبرئها من ساحة التأدلج الديني ومختلف الأفهام البشرية المستغلقة، وليس بمستغرب ونحن نعيش ذكرى أحداث 11 سبتمبر من أن تتصاعد وتائر موجات العنف والتطرف، وكل ما من شأنه أن يدفع بخطاب الكراهية إلى الواجهة من جديد كتعبير وظيفي للعمل بصورة امتلاك الحقيقة المطلقة!.
اليوم لا تكاد تخلو ساحة الأحداث من مظاهر العنف ونفث سموم الكراهية، سواء كانت ناجمة عن فهم خاطئ للمحتوى الديني والمسعى الأيدلوجي أو تلك التي جاءت كنتيجة لتخرصات وظروف تفرضها طبيعة العلاقة بين أبناء البشر على وجه العموم، غير متغافلين عن التغاير السيوسولوجي بين بيئة وأخرى، فلا مندوحة إذا ما ساد الاعتقاد في تضخيم الصورة السلبية وتعميمها، فقد أُلحق الخاص بالعموم، واستُتبع السلوك الشاذ والفرداني بالجوهر اللاهوتي العام، وأُخذت الأديان بجريرة الأفهام البشرية المستغلقة؛ مما أدى لتعطيل نظام البحث عن الحقيقة، فلا يكاد يرى العقل البشري أي بصيص للأمل إلا بالمزيد من الانغلاق. عندها تبدأ حالة التطور السلبي تجاه الآخر، لتتحول من لغة الحوار والتسامح إلى العنف والتصادم.
بالعودة للنظرية الفيزيائية الذي كان قد ذكرنا بها "حسني البرظان" حيث الفعل ورد الفعل؛ لا سيما والخصوصية الاتصالية لكافة أبناء البشر أخذت بعدًا متطورًا في سرعة وانتقال المعلومات والثقافات، ساهم ذلك ولا شك في ما يسمى بـ " التدويل السلوكي " ليتشكل الخير والشر لدى الإنسان بالمستوى والحجم الذي تنتجه الكثافة الإعلامية المبرمجة حسب ما تقتضيه البرغماتية، وهنا تكمن الخطورة، فاللغة التداولية التي يتزعمها الإعلام تساهم بشكل أو بآخر في رسم وتشكل الصورة السلوكية السائدة، فكما أن التسامح باعتباره محورًا أخلاقيًّا، يكون -أيضا ولو بصورة أقل - العنف وخطاب الكراهية والتعصب الديني؛ عناوين بارزة لمرحلة يعيشها العالم اليوم.
ونحن نقترب من الذكرى التاسعة للحدث الأبرز من مطلع القرن الواحد والعشرين؛ أحداث الحادي عشر من سبتمبر، يعيش العالم مظاهر من التطرف والعنف، وهي وإن كانت محدودة وضمن نطاق بيئي معين؛ كل ذلك لا يقلل من حجم ومستوى الأثر الذي تعكسه سلبًا على البشرية عامة. اليوم يتمظهر العنف والتطرف والعصبية في أشكال مختلفة، حسب خصوصية البيئة وطبيعتها، إلا أنه ليس بمقدرونا نفي العلاقة الفيزيائية بين حادثة وأخرى، وإلا فالعمل الإرهابي الذي استهدف مسيرة تضامنية مع الشعب الفلسطيني في يوم القدس؛ والذي حدث مؤخرًا مدينة "كويتا الباكستانية" وقد ذهب ضحيته العشرات من الأبرياء لا يمكن فصل العلاقة ما بينه وبين أي رد فعل متطرف آخر في أي مكان آخر من العالم ، بغض النظر عن طبيعته أو صورته، ومن جهة أخرى لايمكن فصل الخطاب الديني المتطرف وفتاوى التكفير ومختلف الدعاوى والسلوكيات الطافحة بالكراهية عن تلك دوائر العنف؛ وفيزيائية لكل فعل رد فعل.
حزب الحرية النمساوي ذو النزعة الراديكالية ابتكر مؤخرا لعبة اسماها "وداعًا للمساجد" مستهدفًا منها الدعوة الجهورة في تدمير أماكن العبادة للمسلمين في النمسا، علما بأن هذا البلد ومنذ عام 1979م قد أقر بالإسلام بشكل رسمي وبنحو متساوٍ مع سائر الأديان الأخرى. وهذا ما هو واقع القوانين والدساتير لغالبية الدول الغربية، والأوربية منها بالذات، غير أن مجريات الأحداث الدولية تثبت تزايد الأصوات المنادية بالعدالة والمساواة بين أبناء الأديان وفق مبدأ حرية المعتقد والتعبد، بحيث لا يقتصر الأمر على بلد دون الآخر، وعلى هوية دينية دون الأخرى، فما ينبغي أن يلتزم به المسلم تجاه المسيحي؛ وعلى نحو مماثل يكون المسيحي تجاه المسلم، بمعنى آخر أن يتفهم أحدهما الآخر بأن لكل ديانة – من الديانات الإبراهمية خاصة – طابعها اللاهوتي الخاص بها، وأن اللغة الوحيدة التي لا ينبغي تجاوزها هي لغة الحوار والعقلانية وثقافة التسامح والتي تفضي لمبدأ التعايش الواحد والمشترك.
واستطرادًا؛ ساءني ما اطلعتُ عليه من ردود أفعال موافقة الرئيس أوباما إزاء بناء "مسجد قرطبة - مانهاتن نيويورك" والذي من المقرر إنشاؤه على نحو مجاور من المنطقة التي شهدت وقوع أحداث 11 سبتمبر ، فلم يكتفِ مقدم إحدى البرامج الإذاعية والمشهورة في أمريكا "ميتشل بيري" بتسجيل معارضته لمثل هذا القرار ، وبالرغم من تأكيده ووفق الدستور الأمريكي على أحقية المسلمين وغيرهم من ممارسة الحرية الدينية والعبادية، إلا أنه ساهم وبصورة صارخة في التحريض والكراهية عندما قدم دعوة مجانية وعلى الهواء مباشرة مستغلا مهنته الإعلامية بالمسارعة بتفجير المسجد إذا ما تم إنشاؤه!.
وفي سياق متصل وتقصيا لردود الأفعال؛ كشفت إحدى الكنائس بولاية " فلوريدا " عبر موقع لها على " الفيس بوك" عن اعتزامها بتنظيم "يوم عالَمي لإحراق القرآن الكريم" اليوم المصادف لأحداث سبتمبر ، لأجل أن تكون الذكرى التاسعة يومًا عالميًّا لحرق القرآن، وعلى الموقع نفسه توالت العبارات الاستفزازية والمهينة للدين الإسلامي والمسلمين، وأن هذه الحملة لن تتوقف عن مطلبها ولو تطلب الأمر الاستعانة بمنظمات دينية مسلحة!.
وعلى نحو آخر ولا يقل أهمية عن سابقه هو ما أثاره مؤخرا عضو إدارة البنك المركزي الألماني والحزب الاشتراكي الديمقراطي تيلو زاراتسين في كتابه المثير للجدل " ألمانيا تلغي نفسها" من تصريحات محرضة على الكراهية ضد المهاجرين المسلمين، بعد أن نعتهم بأقذع عبارات الاحتقار والاستفزاز، وبأنهم شريحة جاهلة وغبية، وباتوا يشكلون عبئًا هائلا على الأمة الألمانية. وقد لاقت مثل هذه التصريحات ردود أفعال غاضبة من المجتمع الألماني نفسه، خاصة وأن ألمانيا ولفترة ليست بالقصيرة قد تبنت سياسة الاندماج الاجتماعي بين كافة الأديان والاثنيات بمختلف تنوعاتها، وإن مثل هذه الإثارة لا تعبر بالضرورة عما ينص عليه الدستور الألماني، مع ذلك لا ينفي المراقبون بأن القضية باتت في حكم الاختبار الحقيقي للمجتمع الألماني وقدرته على التخلص من كل ما يدعو للتحريض على الاستفزاز والكراهية.
وكنتيجة طبيعية لذكرى حادثة مانهاتن أن نشهد تصاعدًا لوتيرة الخطاب التحريضي، وشتى أشكال الممارسات الاستفزازية؛ الفردية منها والجماعية، وكما يبدو أن عامل الزمن ونحن نعيش الذكرى التاسعة من سبتمبر لم يستطع أن يخفي ما تجيش به النفوس بين أبناء الأديان في المجتمع الواحد، بل وأن المساعي والجهود السلمية طوال هذه الفترة لم تتمكن من تخفيف حدة السجالات والمماراسات الاستفزازية وكل ما من شأنه أن يدفع الأمور إلى ما لا يُحمد عقباه. كما يحدث في بعض البلدان بعد أن أخذ الصراع طابعًا دمويًا. لذا ينبغي إعادة النظر في الأساليب والتدابير التي تم العمل بها طوال هذه الفترة، للوقوف عند مواطن الخلل والضعف، وتعزيز أماكن القوة منها، ومحاولة تكثيف الجهود ليس في ابتكار أساليب وطرق فحسب، بقدر ما يكون هناك استراتجية واضحة المعالم، وقانون واضح وشفاف يُلزم كافة دول العالم فيه.
بالتأكيد لا بد أن تتضافر الجهود وعلى المستوى الدولي في " تدويل ثقافة التسامح بين الأديان " وجعلها بمثابة القانون العام والخاضع لمعاهدات ومواثيق تتماهى من شرعة ومبادئ حقوق الإنسان، ويكون شأنها كشأن سائر الاتفاقيات الدولية التي توقعها مختلف الدول، فثقافة التسامح هي قابلة للتدويل والتعميم لا سيما وأنها من صميم الأديان، وتتوافق مع فلسفة السلوك والعلاقة بين بني البشر، بل أنها مقاربة في جوهرها مع كافة الأيدلوجيات الإبداعية ومختلف العناوين الديمقراطية. وصحيح بأن دراما الأحداث النافثة بالكراهية والاستعداء والتي حدثت مؤخرا جاء معظمها في بلدان تعترف قوانينها ودساتيرها بالحرية الدينية والعبادية إلا أن ذلك لا يثنينا في مواصلة لعب الدور في بث ثقافة التسامح ونشرها، وتعزيز كل ذلك بجعلها قانونًا يحمل سمات التدويل. ليكون يوم الحادي عشر من سبتمبر يومًا – آخر- لتسامح الأديان، ويومًا عالميا للمحبة والإخاء والسلام.
– السعودية
مركز آفاق للدراسات والبحوث
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق