بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أرسل رسوله محمدا بدين الحق و الفطرة ليظهره على الدين كله و جعلنا من أمة هذا النبي العظيم و الرسول الهادي الكريم صلوات الله عليه و سلامه و على صحابته و من تبعهم و على آل كل أجمعين.
أما بعد فلقد استخرت الله تعالى مدة سنين عديدة قبل أن يشرح صدري لكتابة هذه الرسالة الشرعية في تبيان أمر خطير عظيم من أمور هذا الدين كادت تغطيه الجهالات و الاقتباسات عن أقوام لم يهتدوا بوحي و لا كتاب منير ، ثم شرح الله صدري لكتابة هذه الرسالة و نشرها و أرجو أن تكون من الأعمال التي قبلها سيدي و خالقي مني و جعلها ذخيرة لي يوم ألقاه و أن يجعل آية من آيات قبوله لها عموم النفع بها و انتشار الفائدة منها بين عباده المؤمنين إنه سميع الدعاء.
أبدأ بثوابت من الواقع الإنساني نزلت الشريعة لتصويبها و تقويمها لتكون كما يرضي الله تعالى و كما ينفع الناس.
مسلمات و بديهيات:
تنقسم المجتمعات البشرية جميعها إلى قسمين لا ثالث لهما و هما :
الطبقة الحاكمة و تتكون من أقلية تتمتع بالنفوذ و السلطة و تسيطر على عموم الموارد الإقتصادية في الوطن الذي تحكمه ، و تتألف هذه الأقلية من تجمع لقيادات المجتمعات الصغيرة التي يتشكل منها المجتمع الكبير ، هذه القيادات يتحكم كل منها في حيز جغرافي أو اقتصادي أو سلطوي أو عسكري تحكمه حكما شبه مطلق ، و يطلق على هذه الطبقة اسم "النبلاء" و باللغة اللاتينية تسمى "الأرستقراطية" .
كانت هذه الطبقة قبل ظهور التطور الصناعي تتكون من المحاربين الذين تشكلت الممالك بقوة سيوفهم فملكوا المدن و القرى و من عليها و أورثوا هذه السيطرة لأحفادهم فبقيت السلطة و الثروة فيهم ما دامت مملكتهم ، و يصطلح على تسميتهم "الإقطاعيون" نسبة إلى الإقطاع و هو الحيز الكبير جدا من الأرض الزراعية التي تملكها أسرة واحدة تسيطر على التراب و على ما فوقه من بشر و زروع و دواب.
و لأن الثروات كانت قبل التطور الصناعي محصورة في الزراعة و منتجاتها تكونت الطبقات النبيلة في كافة الممالك تقريبا من ملاك الأراضي الكبار ، و لتمييزهم عن سواهم من الناس تلقبوا بألقاب خاصة تتبعها مميزات و حصانات لا يملكها عامة الناس تعود في أصلها إلى الرتب العسكرية التي كان يحملها أجدادهم من المقاتلين الذين استحدثوا ملك الأراضي أولا.
و مع تقادم الزمن أصبح المقاتلون يعملون لدى هؤلاء النبلاء الإقطاعيين و غالبا ما تكونت جيوش الممالك من تجمع الجنود الذين يخدمون لدى القادة الإقطاعيين الموزعين على أقاليم البلاد.
و ربما اعترت الممالك غزوات أو تغيرات من داخلها أو خارجها أدت إلى سيطرة قوة جديدة على المدن و القرى فانتزعت أملاك الإقطاعيين الموجودين و استحدثت طبقة جديدة من الإقطاعيين "النبلاء" يحلون محل المهزومين و يملكون البلاد و العباد.
و الذي يقرأ تاريخ كل الممالك على وجه الأرض يجد أن الممالك جميعا إنما هي انعكاس للترتيب الذي أوردناه آنفا لا تشذ منها أمة أو مملكة مهما صغرت أو كبرت.
و حتى في وقتنا الحاضر لا نجد أمة من الأمم لا تحكمها طبقة صغيرة من الناس يسيطرون على الحكم و الثروة بشكل كامل بينما تعمل بقية الأمة في خدمة مصالح هذه الطبقة أولا ثم في خدمة مصالح بقية الأمة ثانيا.
و مهما كانت تسميات هذه الطبقة و صفاتها فإنها موجودة دوما في قمة المجتمعات ، فالإقطاعيون و أمراء المماليك و باشوات الأتراك و خانات المغول و دوقات أوربا و باروناتها و الرأسماليون و العسكريون المحترفون و أعضاء القيادات الحزبية (في الأنظمة الشمولية) و رجال الدين (في الدول الدينية) و أصحاب المصارف أو حتى أصحاب الفنادق السياحية (كما في بعض جزر الكاريبي) كلهم في النهاية يدخلون تحت المسمى القرآني "الكبراء" أو تحت المسمى العربي "السادة" أو تحت الإسم الاصطلاحي "النبلاء".
هؤلاء "الكبراء" أو "النبلاء" لدى كل منهم سيطرة غير محدودة على قطاع مشترك من البشر و المنافع لا يقل في الواقع عن ما يوازي حجم مدينة أو منطقة واسعة من الأرض تتنتج إمكانيات غير محدودة من اطاقة البشرية و الاقتصادية.
و يتمتع كل واحد من هؤلاء النبلاء بولاء غير محدود في منطقة نفوذه و سيطرة كاملة على هذه المنطقة ، و نستطيع أن نعطي مثالا لمدى عمق نفوذ هؤلاء النبلاء على مناطق نفوذهم : إنه يشبه الولاء الذي تعطيه أسرة من البدو تعيش في قبيلة إلى شيخ هذه القبيلة ، فلو فرض أن خلافا نشب بين أحد أبناء هذه الأسرة و بين شيخ القبيلة فإن هذه الأسرة ستخاطر إن ناصرت إبنها على شيخ القبيلة بمواجهة القبيلة بأسرها بشكل ما ، و لذلك لن تجد هذه الأسرة بدا من الضغط على إبنها ليعود إلى طاعة شيخ القبيلة حفاظا على أمن الأسرة و سلامتها و على موارد عيشها التي ترتبط بمجموع القبيلة و برضا الشيخ.
الخلاصة : إن كل أسرة تعيش في منطقة نفوذ النبيل تقدم ولاءها اهذا النبيل على ولاءات أفرادها لبعضهم البعض و هذه هي السلطة المطلقة ، و ذلك يعني أن هذا النبيل يقدر على توجيه الإمكانات البشرية و الإقتصادية في منطقة نفوذه إلى الوجهة التي تلائم مصالحه دون كبير عناء.
هذه الطبقة هي التي تحدد شخصية رأس السلطة السياسية في أي بلد و تحدد مدى سلطاته و مجال نفوذه و تملك وحدها حمايته أو إزالته و هي التي تتبعها الأمة بأسرها فيما تقرره بشأن كل كبيرة و صغيرة من سياسات البلد.
حتى في البلاد التي تتبع الأنظمة الديمقراطية التي نتظم عمليات تداول السلطة عبر صناديق اقتراع و تشارك فيها كل الأمة تقريبا في تحديد الحاكم و شكل الحكم و سياساته فإن الواقع يقول أن الطبقات العليا من المجتمع في تلك البلدان تبقى هي المسيطرة على كل شيء في البلاد من رأس الدولة إلى أبعد زاوية في البلد ، و عملية الانتخابات لا تكون في الحقيقة سوى وسيلة لتداول للسلطة بين أعضاء هذه الطبقات أو بين من يساندهم كبراء هذه الأمم.
هذا الترتيب الطبيعي لتوزيع السلطة و الثروة و التعب بين الناس لم ينخرم مرة واحدة في التاريخ الإنساني و لم يأتي نبي أو رسول بما يقوضه و إنما جاءت الرسالات السماوية لضبطه و تقويمه بما يسمح بتجدد الطبقات المسيطرة من الأمة في تداول دائم يصعد فيه أناس و يهبط آخرون و بما لا يسمح بتعسف الطبقات العليا في استعمال سلطانها و قوتها لظلم عموم الأمة و هضم حقوق أبنائها.
ثوابت و بديهيات أخرى:
كثيرا ما تطغى السلطة الحاكمة متمثلة برأسها (الملك – الرئيس..) على الأمة و هذا بستدعي ردود أفعال متباينة القوة من عامة أبناء الأمة دون الطبقة الحاكمة فيها و ذلك أن هذا التعسف غالبا ما يطاول أذاه و ضرره العامة دون أن يضر بمصالح الطبقة الحاكمة ، فلو أن بعضا من الناس ذوي النجدة و الحماسة قرر أن يرد على هذا التعسف بما يزيل الحاكم الباغي عن سدة الحكم فإنه سيكون أمام طريقين لا ثالث لهما :
1 – أن يتمكن من إقناع الطبقة الحاكمة بتغيير الحاكم الباغي و هذا غالبا ما يكون صعبا جدا و يأخذ وقتا طويلا و يحتاج إلى صبر و دأب ، و هذا هو الطريق الذي سلكه الأنبياء و المصلحون المعرفون الذين أناروا حياة الإنسانية بثباتهم و صبرهم في فترات الظلم الحالك.
2- أن يعمل على تنظيم مواجهة عسكرية بينه و بين جيش الحاكم لغاية هزيمة هذا الجيش و إسقاط هذا الحاكم بالقوة ، و هذا الطريق له اتجاه إجباري واحد هو :
أ – لا بد أن يعمل على الاستعداد لهذه المواجهة سرا لأن الحاكم الباغي إن علم بأمره سيقضي عليه فورا و دون إمهال و هذا يعني أن دعوته ستكون سرية للغاية و مموهة جيدا و يجب أن لا تنكشف قبل أن يستكمل هذا الثائر استعداداته.
ب- لا بد له من رجال ينضمون إليه ليكونوا جيشه الذي سيهزم جيش الحاكم و هذا يعني أنه سيتبع برنامجا دعويا خاصا لإقناع الرجال بالانضمام إليه و هذا البرنامج سيكون بالطبع متضمنا لخطابات تثير سخط السلطات المتعسفة و تستدعي استنفارها بمجرد وصول بعض هذه الخطابات إلى علم هذه السلطات .
ج- لا بد له من سلاح و ذخائر و مؤن و نفقات يجمعها ليجهز الرجال الذين يجمعهم و لا بد أن تكون كافية لهزيمة المعدات و الأسلحة التي بحوزة السلطات ، و طبعا هذه المؤن سيكون جمعها صعبا للغاية و لن تكون كافية لأكثر من مواجهة واحدة كبيرة مع السلطة في أفضل الحالات دون أية فرصة في تعويض ما سيفقده الثائرون في مواجهتهم مع السلطات و ذلك أن هؤلاء الثوار سيكونون حتما من ذوي الإمكانيات الاقتصادية المحدودة جدا مقارنة بإمكانيات السلطات.
و ستأخذ الأمور المنحى التالي في أفضل الأحوال:
سيعمل الثائرون على تجميع جيشهم سرا و لكنهم لن يتمكنوا من الاستمرار في التغطية على سرهم طويلا لأن طبيعة الأشياء تحتم ذيوع السر مهما كان أصحابه من أهل الحرص بمجرد أن يصبح في متناول أكثر من اثنين من الناس و سيطلع الحكام البغاة على أمرهم قبل أن يستكملوا استعداداتهم و هذا ما حصل دوما على مر التاريخ.
عندما تعلم السلطات بوجود هذا الجيش المعادي ستبادر فورا إلى استطلاع أحواله و ستبدأ بمهاجمته فور التمكن من ذلك و طبعا بمجرد أخذ العلم بهذا الجيش الثائر سيستنفر الحاكم أركان حكمه و سيجتمع أركان و زعماء الطبقة الحاكمة التي تنصره (لولا نصرها و تأييدها له ما بقي في السلطة) و سيسخرون كافة المصادر البشرية و المادية التي يسيطر كل منهم عليها في منطقة نفوذه لتكون في خدمة إمدادات جيش الحاكم في المواجهة القادمة بمعنى أن البلد سيكون كله في حالة طواريء حربية.
بمجرد وقوع الصدام الأول بين السلطة و الثوار ستكون المواجهة كبيرة و قد يصمد لها الثوار (في أحسن حال)و لكنهم حتما سينفقون فيها معظم مواردهم و معداتهم و لن يستطيعوا تعويضها لأن السلطة هي التي تسيطر على المصادر الأساسية للتموين و الإمداد و التجنيد و ستحرص على أن تنضبط تماما فلا يصل منها شيء إلى الثوار.
سيستعد الفريقان للمواجهة الثانية الكبرى بكل ما لديهم و ستكون السلطات عنيفة أكثر من أي وقت مضى و ستتخذ الأمور منحى وعرا جدا و ستقمع السلطة بقوة زائدة جدا أية إشارات تعاطف من عامة الأمة نحو الثوار و في نفس الوقت ستوجه كل موارد الأمة لشحن جيش السلطة و ستقع المواجهة الثانية بين ثوار ضعفاء و بين سلطات لا تنتهي إمداداتها و متجددة استعداداتها و سيهزم الثوار دون شك و سيهيم من بقي منهم على وجهه في البلاد فارا بحياته ، طبعا ستفصل بين المواجهتين فترة من المناوشات و التوتر و التفاوض الغير بريء و الشد و الجذب.
أما عامة الأمة فإنهم سيجبرون تحت ضغط الاستنفار السلطوي (قوانين الطواريء) على العمل كجواسيس للسلطة على الفارين من الثوار ذلك أن السلطة ستثيب من يمكنها من رقبة أحد هؤلاء (المتمردين) بأجزل العطايا و ستمنحه النفوذ و ستعاقب من يحمي أيا من الثوار الفارين بأشد ما سيسمع به الناس من العذاب ليكون عبرة لسواه.
أما الثوار الفارون فسيعودون إلى أنفسهم بعد الهزيمة ليسألوا أنفسهم أسئلة كثيرة عن السبب الذي وقف وراء هزيمتهم و لماذا لم تنصرهم الأمة طالما أنها كانت تعاني ما يعانون من تعسف السلطة و طالما أن عامة الناس يعلمون بشكل أكيد أن الثوار قاموا من أجل مطالب عادلة و منصفة؟
لو كان الحاكم من ذوي الحكمة و اللين سيصدر عفوا عن الثوار و سيعود من بقي منهم إلى بيته قانعا من الغنيمة بالسلامة و أما لو مضت السلطة في ملاحقة الثوار فستهيم فلولهم في البلاد ثم سيعيدون تنظيم أنفسهم ليقوموا بحرب عصابات على السلطة لأنها لم تترك لهم أي خيار سوى ذلك، و طبعا سيكون العامة من الأمة ضمن قائمة أعداء الثوار ؛ ذلك لأن العامة سيمعنون في الوشاية بهؤلاء الثوار خوفا من بطش السلطات و طمعا في مكافآتها (إذا سقطت الدابة كثرت السكاكين).
و هكذا سيستعمل الثوار سلاحهم ضد الأمة التي خرجوا على السلطات ثائرين حمية لها و نصرة لحقوقها المهضومة و طلبا لإنصافها من الظلم.
هذه الصورة هي صورة جميع الثورات على مر التاريخ البشري ، و لم يحدثنا التاريخ عن ثورة قام بها العامة و نجحت في قلب نظام حكم متعسف ، و إنما عرفنا ثورات انتصرت بتضامن بعض الطبقات الحاكمة معها أو ثورات قادها القادة العسكريون الكبار أو ثورات دعمتها جيوش من خارج الدولة التي قامت فيها هذه الثورات.
و لقد جاءت الشريعة الإسلامية موافقة لسنن الواقع و أجمع فقهاء المذاهب الأربعة على أن (الثورة) "خروج العامة" على الحكام عمل محرم حتى لو جار هذا الحاكم و تعسف و ذلك أن هذا الخروج سيترتب عليه إزهاق لأرواح كثيرة و تدمير لممتلكات معصومة دون طائل و لا نفع يرتجى ، لا بل قد يزداد الحاكم ظلما و طغيانا بعد أن يسحق الثائرين كما حصل مرارا و تكرارا في عشرات و مئات القصص التي حدثت على شاكلة نموذجنا الآنف.
و لقد أجاز الفقهاء المسلمون للطبقة الحاكمة أن تخلع الحاكم الظالم في حالات محدودة يرتكبها هذا الحاكم و هي : (الخوض في الدماء المحرمة – الاعتداء على الأعراض – أن يفقد بعض حواسه) و طبعا بشرط أن تكون العملية آمنة و أن يرتب بديل فوري مستقر لهذا الحاكم و أن لا يترتب على هذا الخلع من الضرر على الأمة أكثر من ما يترتب لو بقي هذا الحاكم.
و لقد أوجب الفقهاء على الطبقة الحاكمة أن تطيع الحاكم و تنصره ضد أي عدو يتهدده و يتهدد سلطانه و لو كان هذا الحاكم فاسقا و ظالما إلا أن يرتد هذا الحاكم عن الإسلام فعند ذلك يجب على الطبقة الحاكمة أن تخلع هذا الحاكم و أن تطبق عليه أحكام الردة و لا يعاد للسلطة لو عاد إلى الإسلام ، طبعا هذا الخلع في كافة الحالات لا بد من أن يتم بعد استشارة العلماء الكبارالمؤهلين للفتوى و موافقتهم .
المقدمة:
لقد بدأت بشرح هذه الرسالة بطريقة الخطف خلفا فبدأت بسرد ما قد يسوغ له أن يكون ختاما و هدفي هو جذب القاريء و جمع الصورة بكاملها أمام ناظريه من كل جوانبها حتى يكون أبلغ في الإيضاح .
أنتقل للحديث عن المصطلح الإسلامي السياسي الشهير "البيعة" و أصله في الشرع و معناه و ما يعنينا في هذه الرسالة من أحكامه.
"البيــعة" و أحكامها:
ظهر مصطلح "البيعة" في الإسلام بمعناه السياسي في العام الثالث عشر من البعثة النبوية عندما عقد النبي "صلى الله عليه و سلم" مع قادة الأوس و الخزرج عقدا شروطه ما يلي :
1 – ينتقل "رسول الله صلى الله عليه و سلم" مع أصحابه من مسلمي مكة و من ينضم إليهم من المسلمين من سائر الأرجاء إلى السكن في "يثرب" (مدينة الأوس و الخزرج) أعزة مكرمين.
2- يكون "رسول الله صلى الله صلى عليه و سلم" حاكما على "يثرب" و ما تبعها من الأراضي و يطيعه أهلها و يحمونه من أي هجوم عليه أو على أصحابه من الذين هاجروا معه.
3- الثمن الذي يحصل عليه "الأوس و الخزرج" مقابل وفائهم بالشرطين الآنفين و ما تبعهما هو "الجنة" بعد الموت و القيامة و يضمن "الله" لهم هذا الثمن إن صدقوا.
فكانت عقد "بيع" بين متعاقدين: "الله" و الموقع على العقد عنه جل جلاله هو رسول الله صلى الله عليه و سلم و الثاني هي القبائل اليثربية و وقع عنها سبعون من أكابرها و ساداتها الذين بايعوا في "العقبة".
و لقد روى لنا أصحاب السير ما حدث :
اجتمع في العقبة في بعض أيام التشريق سبعون رجلا و امرأتان من "الأوس" و "الخزرج" فقالوا: تكلم يا رسول الله وخذ لنفسك ولربك ما شئت .
فتكلم "رسول الله صلى الله عليه وسلم" وقال : أبايعكم على أن تمنعوني - إذا قدمت عليكم - مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم ، ولكم الجنة.
فكان أول من بايعه "البراء بن معرور" . فقال والذي بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا . فبايعنا يا رسول الله . فنحن أهل الحرب والحلقة ورثناها صاغرا عن كابر . فاعترضه "أبو الهيثم بن التيهان" ، وقال إن بيننا وبين الناس حبالا ونحن قاطعوها ، فهل عسيت - إن أظهرك الله - أن ترجع إلى قومك وتدعنا ؟ فتبسم "رسول الله صلى الله عليه وسلم" ثم قال : لا والله بل الدم الدم والهدم الهدم ، أنتم مني وأنا منكم . أحارب من حاربتم ، وأسالم من سالمتم.
فلما قدموا يبايعونه أخذ بيده أصغرهم - أسعد بن زرارة – فقال: رويدا يا أهل يثرب ، إنا لم نضرب إليه أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله وإن إخراجه اليوم مفارقة للعرب كافة وقتل خياركم وأن تعضكم السيوف . فإما أنتم تصبرون على ذلك فخذوه وأجركم على الله وإما أنتم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه فهو أعذر لكم عند الله.
فقالوا : أمط عنا يدك ، فوالله ما نذر هذه البيعة ولا نستقيلها.
فقاموا إليه رجلا رجلا يأخذ منهم ويعطيهم بذلك الجنة ، ثم كثر اللغط فقال "العباس": على رسلكم فإن علينا عيونا .
هذا هو المعنى الأول الذي عرف لـ "البيعة" عند ظهورها و نقف هنا على نقاط هامة:
1 – إن هذا العقد بين الله و بين المبايعين لم يكن إلا لـ "رسول الله صلى الله عليه و سلم" بمعنى أن يكون ثمن الوفاء هو "الجنة" مقابل الطاعة المطلقة ، ذلك أن "البيعة" بعد "رسول الله صلى الله عليه و سلم" لم تكن سوى عهد يقطعه المبايعون للقائد على أن يطيعوه ما أطاع "الله" و ما عمل بالشرع فإن عصى لم يكن له عليهم حق الطاعة ، و ثمن طاعة الحاكم ليس "الجنة" و إنما حسنات من الأعمال ثوابها عند الله يوم القيامة أي هي عمل من العمل الصالح قد تنفع إن وافقت شروط الشرع و قبلها الله و قد لا تنفع إن خالفت هذه الشروط لا بل قد تكون إثما و ينال المرء عليها العقاب الأليم.
2- لقد تم هذا العقد بين "قادة القبائل" اليثربية و بين "رسول الله صلى الله عليه و سلم" و كان بقية أبناء القبائل اليثربية تبع لأولئك السادة الذين بايعوا في "العقبة" و لم يذكر لنا أن هؤلاء القادة كانوا قد تشاوروا مع أبناء قبائلهم قبل أن يعقدوا "البيعة" لا بل على العكس ذكرت السير أنهم كانوا قد تواعدوا سرا و أن وفدهم كان يضم من وجهائهم من لم يكن له علم بما تم تدبيره إلا قبيل اللقاء بقليل و هو "عبدالله بن حرام" (رضي الله عنه).
3- هذه "البيعة" كانت نموذجا اتخذه الصحابة و من بعدهم كافة المسلمين و ثبته جميع الفقهاء للشكل الطبيعي لتنصيب حاكم عام للمسلمين.
و لقد اتفق الفقهاء على ما يلي :
في الحالة الطبيعية و عندما يموت الحاكم أو يقرر أن يعين حاكما يخلفه في حياته أو بعد مماته فإن قادة الأمة أي "أكابرها" أو بعبارة أخرى "أصحاب النفوذ و السلطة" يجتمعون أو يجتمع أقواهم و القادرون منهم على إنفاذ ما يقررونه فينتخبون من ذوي الفضل و الأهلية حاكما للمسلمين و يعاهدونه على أن يطيعوه و أن يحموه و يدافعوا عن سلطته.
و هؤلاء هم من يقرر نيابة عن الأمة الإسلامية شخص الحاكم ، و هم من يشاورهم الحاكم في شكل سياساته و يستعين بهم على وضع قراراته موضع التنفيذ.
و لقد اصطلح فقهاء الإسلام على تسمية هؤلاء "النبلاء" بـ "أهل الحل و العقد".
و هذا الإسم دقيق جدا في عبارته لأنه يدل حرفيا على المعنى المراد منه ، فكلمة "أهل" تعني أن هؤلاء لديهم "الأهلية" أي القدرة و الكفاءة على "الحل" أي إلغاء العقد مع "الحاكم" بمعنى آخر (خلعه) و "العقد" أي تعيينه و تنفيذ هذا التعيين و إخضاع الأمة بأسرها طوعا أو كرها لقرار التعيين هذا ، و طبعا هذه الأهلية حصلوا عليها بسبب الإمكانات التي يملكونها من النفوذ و السلطة على الأمة.
من المذاهب الأربعة:
في المذهب الحنفي يعتبر الحاكم شرعيا و يجب على الأمة عامة إطاعته في المعروف بمجرد أن يبايعه "أهل الحل و العقد" و لو كان هؤلاء رجلا واحدا فقط طالما أنه مطاع في الأمة قادر على تنفيذ التعيين فمثلا ورد في كتابهم "البحر الرائق": اعلم أنه لا بد أن يكون الإمام مكلفا حرا مسلما عدلا مجتهدا ذا رأي وكفاية سميعا بصيرا ناطقا ، وأن يكون من قريش وللإمام فيه منع ، وإن لم يوجد فمن العجم ، وتنعقد بيعة أهل الحل والعقد من العلماء المجتهدين والرؤساء لما عرف.
وتكفي مبايعة واحد وقيل لا بد من الأكثر ، وقيل لا يلزمه عدد وتمامه في "المسايرة" وعرف المحقق الإمامة العظمى في "المسايرة" (كتاب من كتب الحنفية) بأنها استحقاق تصرف عام في الدين والدنيا على المسلمين ، وظاهره أنه لا بد في الإمام من عموم ولايته ولذا قالوا : لا يجوز اجتماع إمامين في زمن واحد وقدمنا أولا عن "الخانية" بماذا يكون سلطانا.
و عند السادة الشافعية : تنعقد الإمامة أو الحاكمية لرجل إذا بايعه "أهل الحل و العقد" جميعهم أو بعضهم و تكفي بيعة واحد منهم طالما أنه مطاع و قادر على تنفيذ قرار التعيين ، و لقد ورد مثلا في كتابهم "فتح الوهاب": (وتنعقد الامامة) بثلاثة طرق: أحدها (ببيعة أهل الحل والعقد من العلماء، ووجوه الناس المتيسر اجتماعهم) فلا يعتبر فيها عدد بل لو تعلق الحل، والعقد بواحد مطاع كفت بيعته بحضرة شاهدين و(((لا تكفي بيعة العامة))) .
و عند السادة المالكية : نفس الشرط المذكور لدى الحنفية و الشافعية فلقد ورد في كتابهم "منح الجليل": تثبت الإمامة بأحد أمور ثلاثة إما ببيعة "أهل الحل والعقد" وإما بعهد الإمام الذي قبله له بها ، وإما بتغلبه على الناس وحينئذ لا يشترط فيه شرط لأن من اشتدت وطأته وجبت طاعته.
و عند السادة الحنابلة أيضا تثبت ولاية الحاكم على الأمة في حال مبايعة "أهل الحل و العقد" له بنفس شروط المذاهب الأخرى ورد في كتابهم "الإقناع" :القول فيما تنعقد به الامامة وتنعقد الامامة بثلاثة طرق: الأولى ببيعة أهل الحل والعقد من العلماء ووجوه الناس المتيسر اجتماعهم فلا يعتبر فيها عدد.
و هذا الترتيب الشرعي موافق تماما لواقع الحال الذي أقره الشرع الإسلامي من استقراء الحوادث و من نصوص لا حصر لها تروي طرقا في تعيين الحاكم مثالها كان "بيعة العقبة" التي تأسست بها دولة الإسلام.
و لقد وافق "الجويني" رحمه الله هذا الترتيب في كتابه "غياث الأمم" حين اختار أن يكون شرط النفوذ و القوة هو الأساسي الذي يجب أن يتصف به من يعتبر من "أهل الحل و العقد" و لقد صرح بهذا و ألمح له جميع الفقهاء المسلمين الذين ألفوا في "السياسة الشرعية".
لوازم من هذا الإجماع:
إن بيعة من لا يتصف بصفات "أهل الحل و العقد" المنصوص عليها لشخص ما و معاهدته إياه على السمع و الطاعة و تنفيذ أحكامه باطلة و لاغية و كأنها لم تكن لا بل تكون إثما و جريمة و لو كان هذا الشخص المبايع له أفقه أهل زمانه و أورعهم و أعلمهم خاصة إن كان المقصود منها العمل على خلع حاكم متمكن و لو كان ظالما بل هي تعتبر إثما أن وقعت من أحد "أهل الحل و العقد" إن قصد منها خلع الحاكم دون مشاورة شرعية و أسباب شرعية فكيف لو وقعت من غير مؤهل.
و لقد ورد هذا المعنى في نصوص كثيرة في كتب الفقهاء المسلمين و هي كلها عبارة عن الأحاديث الشهيرة في هذا الباب نورد بعضها :
روى "البخاري" في صحيحه من خطبة عمر بن الخطاب رضي الله عنه (من بايع رجلا عن غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا).
أي من عاهد رجلا على السمع و الطاعة من غير موافقة ذوي الرأي و المشورة من المسلمين (أهل الحل و العقد) فلا يجوز أن يتابع على فعله هذا مهما كان المبايع له فاضلا ذلك أن هذه البيعة ستؤدي إلى قتلهما و قتل من يتابعهما في نهاية الأمر.
و روى "مسلم" في صحيحه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم : من جاءكم وأمركم على رجل واحد ، يريد أن يفرق جماعتكم ، فاضربوا عنقه بالسيف كائنا من كان.
وَرَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (سَيَلِيكُمْ بَعْدِي وُلَاةٌ فَيَلِيكُمْ الْبَرُّ بِبِرِّهِ ، وَيَلِيكُمْ الْفَاجِرُ بِفُجُورِهِ ، فَاسْمَعُوا لَهُمْ وَأَطِيعُوا فِي كُلِّ مَا وَافَقَ الْحَقَّ ، فَإِنْ أَحْسَنُوا فَلَكُمْ وَلَهُمْ ، وَإِنْ أَسَاءُوا فَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ ) .
و روى مسلم بسنده عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال: (إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما). أي الذي تأخرت بيعته و أحدثت بعد بيعة الأول.
"أهلية التولية ":
إن من أهم اعتبارات الشريعة في العقود و التصرفات "الأهلية" ، و هي شرط في صحة كافة التكاليف و العقود ، و عقد "البيعة" من العقود الإسلامية الخطيرة لا بل يعد العقد الأخطر في الشريعة من بعد الدخول في الإسلام – لا يصح بدون أهلية- و "الأهلية" هي القدرة و الكفاءة على الوفاء بالعقد و إن فقدت هذه الأهلية في أحد أطراف العقد ينقص هذا العقد فإن كان ثنائيا و فقدت "أهلية" أحد المتعاقدين بطل العقد لعبثيته و لأنه غير مجد و لا ينتفع منه خاصة إن كان فقدان "الأهلية" متعلق بعدم القدرة على الوفاء بالتزامات العقد.
فمثلا هناك قاعدة شرعية مجمع عليها لدى المسلمين و هي مأخوذة من الحديث الذي رواه "ابن ماجة" و أصحاب السنن عن حكيم بن حزام قال قلت يا رسول الله الرجل يسألني البيع وليس عندي أفأبيعه قال صلى الله عليه و سلم : (لا تبع ما ليس عندك). و هذه القاعدة تمنع المسلم عن بيع ما لا يملكه و لقد حكم الفقهاء ببطلان العقود المتعلقة بغير المملوك المستحصل عليه من المنافع أو السلع أو العقارات.
و "البيعة" للحاكم عقد كسائر العقود و لا تنعقد إلا لقادر على أعباء السلطة ، و لا تنعقد إلا ممن يقدر على تنفيذ تعيين الحاكم.
"أهلية الخلع": أيضا خلع الحاكم لأسباب شرعية لا يكون واجبا إلا على القادر على خلعه و لا يأثم بذلك غير القادرين عليه و هذه الحقيقة الشرعية هي التي تجاهلها الكثيرون جدا في هذه الأيام فسفكوا الدماء و استحلوا الحرام من الأموال و الأعراض باستنباطات عجيبة و غريبة لأحكام أفتوا بها في وقائع حدثت في الإسلام بحجة "الإجتهاد في الحوادث" .
إن طروء الكفر على الحاكم أمر ليس حادثا في الإسلام لا بل هو أمر درسه الفقهاء الأولون المتبوعون و أفتوا بشأنه استنادا إلى قوله تعالى : {و أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم} ، و إلى الحديث الصحيح عن جنادة بن أبي أمية قال دخلنا على عبادة بن الصامت وهو مريض فقلنا حدثنا أصلحك الله بحديث ينفع الله به سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : (دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعناه فكان فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله قال إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان).
فأوجب الفقهاء خلع هذا الحاكم و استتابته من الكفر و أكثرهم على عدم جواز عودته إلى الحكم و أن تاب و عاد إلى الإسلام و اعتبر بعضهم أن طروء كفر الحاكم يشبه تماما خلو سدة الحكم عند وفاة الحاكم و هذا يوجب تعيين حاكم جديد فورا ، و لــكن :
إن مبايعة الإمام و الحاكم أمر يعتبر فريضة على الكفاية عند الفقهاء الذين أوجبوا اتخاذ الإمامة العظمى أو إقامة السلطان حال خلو سدة البلاد من سلطان مسلم ("الإقناع" عند الحنابلة :في شروط الامام الاعظم وفي بيان طرق انعقاد الامامة وهي فرض كفاية) و هي واجب على "أهل الحل و العقد" و إن لم يقم به بعض هؤلاء وقع الإثم على العموم ، و العموم المقصود هنا لا يشمل عامة المسلمين بحال من الأحوال ذلك أن الإثم يكون بسبب ترك القيام بالفريضة و العامة ليسوا من أهل القيام بهذه الفريضة لانعدام قدرتهم على القيام بها فكيف يقع عليهم إثم ترك ما لا قدرة لهم على القيام به ؟
إن الذي زعم أن الإثم بترك العمل لإقامة السلطان المسلم في بلد خلا من هذا السلطان يقع على عموم المسلمين متنطع و مخالف لأبسط و أثبت القواعد الفقهية التي جاء بها كتاب الله تعالى :{لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}.
ورد في كتاب "الموافقات" في أصول الدين للإمام "إبراهيم اللخمي الشاطبي" رحمه الله تعالى ما يوضح اتفاق فقهاء الأمة على هذا الأصل الشرعي الثابت: طلب الكفاية يقول العلماء بالأصول أنه متوجه على الجميع لكن إذا قام به بعضهم سقط عن الباقين وما قالوه صحيح من جهة كلى الطلب وأما من جهة جزئيه ففيه تفصيل وينقسم أقساما وربما تشعب تشعبا طويلا ولكن الضابط للجملة من ذلك أن الطلب وارد على البعض و لا على البعض كيف كان ولكن على من فيه أهليةالقيام بذلك الفعل المطلوب لا على الجميع عموما والدليل على ذلك أمور أحدها النصوص الدالة على ذلك كقوله تعالى {وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفرمن كل فرقة منهم طائفة} الآية فورد التحضيض على طائفة لا على الجميع وقوله {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف} الآية وقوله تعالى {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم} الآية إلى آخرها وفي القرآن من هذا النحو أشياء كثيرة ورد الطلب فيها نصا على البعض لا على الجميع والثاني ما ثبت من القواعد الشرعية القطعية في هذا المعنى كالإمامة الكبرى أو الصغرى فإنها إنما تتعين على من فيه أوصافها المرعية لا على كل الناس وسائر الولايات بتلك المنزلة إنما يطلب بها شرعا باتفاق من كان أهلا للقيام بها والغناء فيها وكذلك الجهاد حيث يكون فرض كفاية إنما يتعين القيام به على من فيه نجدة وشجاعة وما أشبه ذلك من الخطط الشرعية إذ لا يصح أن يطلب بها من لا يبدئ فيها ولا يعيد فإنه من باب تكليف ما لا يطاق بالنسبة إلى المكلف ومن باب العبث بالنسبة إلى المصلحة المجتلبة أو المفسدة المستدفعة وكلاهما باطل شرعا والثالث ما وفع من فتاوي العلماء وما وقع أيضا في الشريعة من هذا المعنى فمن ذلك ما روى عن محمد رسول الله وقد قال لأبي ذر {يا أبا ذر إني أراك ضعيفا وإني أحب لك ما أحب لنفسي لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم} "رواه مسلم" وكلا الأمرين من فروض الكفاية ومع ذلك فقد نهاه عنها فلو فرض إهمال الناس لهما لم يصح أن يقال بدخول أبي ذر في حرج الإهمال ولا من كان مثله وفي الحديث {لا تسأل الإمارة} وهذا النهي يقتضى أنها غير عامة الوجوب ونهى أبو بكر رضي الله عنه بعض الناس عن الإمارة فلما مات رسول الله وليها أبو بكر فجاءه الرجل فقال نهيتني عن الإمارة ثم وليت فقال له وأنا الآن أنهاك عنها واعتذر له عن ولايته هو بأنه لم يجد من ذلك بدا وروى أن تميما الداري استأذن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما في أن يقص فمنعه من ذلك وهو من مطلوبات الكفاية أعني هذا النوع من القصص الذي طلبه تميم وضي الله عنه وروى نحوه عن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه وعلى هذا المهيع جرى العلماء في تقرير كثير من فروض الكفايات فقد جاء عن مالك أنه سئل عن طلب العلم أفرض هو فقال إما على كل الناس فلا يعنى به الزائد على الفرض العيني وقال أيضا أما من كان فيه موضع للإمامة فالإجتهاد في طلب العلم عليه واجب والأخذ في العناية بالعلم على قدر النية فيه فقسم كما ترى فجعل من فيه قبولية للإمامة مما يتعين عليه ومن لا جعله مندوبا إليه وفي ذلك بيان أنه ليس على كل الناس وقال سحنون من كان أهلا للإمامة وتقليد العلوم ففرض عليه أن يطلبها لقوله تعالى {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر}ومن لا يعرف المعروف كيف يأمر به أو لا يعرف المنكر كيف ينهى عنه وبالجملة فالأمر في هذا المعنى واضح وباقي البحث في المسألة موكول إلى علم الأصول لكن قد يصح أن يقال أنه واجب على الجميع على وجه من التجوز لأن القيام بذلك الفرض قيام بمصلحة عامة فهم مطلوبون بسدها على الجملة فبعضهم هو قادر عليها مباشرة وذلك من كان أهلا لها والباقون وإن لم يقدروا عليها قادرون على إقامة القادرين فمن كان قادرا على الولاية فهو مطلوب بإقامتها ومن لا يقدر عليها مطلوب بأمر آخر وهو إقامة ذلك القادر و إجباره على القيام بها فالقادر إذا مطلوب بإقامة الفرض وغير القادر مطلوب بتقديم ذلك القادر إذ لا يتوصل إلى قيام القادر إلا بالإقامة من باب ما لا يتم الواجب إلا به وبهذا الوجه يرتفع مناط الخلاف فلا يبقى للمخالفة وجه ظاهر.
و معلوم أن أمر الحكم يحتاج إلى المال و السلاح و الرجال و غيرها من المتطلبات التي لا تتيسر للعامة و إن اجتمعوا فكيف يجوز أن يقال : إن عموم الأمة آثمة لأنها لا تعمل على نصب السلطان المسلم.
نعم إن نصب السلطان المسلم واجب على الكفاية و لكن على "أهل الحل و العقد" و لا يتعدى إثم التقصير في هذه الفريضة هؤلاء و من يقدر على إرغامهم (قادة جند أو علماء مطاعون) و أيضا إن طروء الكفر على السلطان يوجب خلعه و لكن إثم التقصير في هذا الواجب يقع على من هو منوط بهم القيام بفريضة نصب السلطان أولا و هم "أهل الحل و العقد".
أما العامة فلا يجب عليهم حال كفر السلطان إلا ما يجب عليهم في حال أمره للناس بالمعصية و هو عدم الإنصياع لأحكامه المخالفة للشريعة ما أمكنهم ذلك دون تعريض حياتهم و سلامتهم للخطر على يد جنوده و أتباعه ، و هذا اتباع لإرشاد رسول الله صلى الله عليه و سلم الذي قال : (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) ، و تنتقل الولاية على العامة ديانة إلى العلماء و يؤمرون بالاستفتاء في كل صغيرة و كبيرة و يؤدون الحقوق المالية إلى العلماء و يتحاكمون إليهم في الشجارات و تنفذ فيهم أحكام العلماء ديانة حتما و شريعة ما أمكن كما اختار الفقهاء حين وقوع داهية كهذه و كما صرح بذلك "الجويني" رحمه الله في "غياث الأمم".
البيعة المدمرة :
بعد سقوط الخلافة العثمانية انتقلت ولاية المسلمين إلى حكام أقاليمهم و صارت لهؤلاء الحكام على رعيتهم نفس الحقوق الواجبة على الرعية تجاه "الخليفة" أو "الإمام الأعظم" و هذا باتفاق العلماء أيضا الذين أجازوا تعدد الأئمة و الحكام عند الضرورة و ندبوا هؤلاء الحكام إلى العمل على نصب إمام أعظم لهم جميعا.
و لقد وقع في التاريخ الإسلامي أن خلى الزمان من "خليفة" و لم يحمل هذا العلماء و القضاة المسلمين على الدعوة إلى محاربة السلاطين في ذلك الوقت لحملهم على تولية "خليفة" لا بل لا يروي لنا التاريخ أن أحدا من الفقهاء أفتى بوقوع الإثم على سلاطين ذلك الزمان لأنهم لم يولوا خليفة فضلا عن إثباتهم لهذا الإثم على العامة ، و ظلوا يفتون بوجوب إطاعة حكام الأقاليم و بحرمة الخروج عليهم لغير الأسباب الشرعية.
إلا أن فريقا من الناس خرج على المسلمين بفتاوى عجيبة غريبة أخطرها هي المنهج التالي:
1 - إن أكثر أو جميع حكام المسلمين ليسوا من المسلمين لأنهم وقعوا في "الردة" لأسباب منها أنهم حكموا بأحكام مخالفة للشريعة الإسلامية و لذلك وجب خلعهم على عامة المسلمين و صار العمل على خلعهم و استبدالهم بحاكم مسلم فريضة من الله على كل مسلم بعينه كفريضة "جهاد الدفع" و فريضة "الصلاة".
2- و لأن "رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : (من مات و لم تكن في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية) فإن الواجب على كل من يعرف هذا الحكم من ثلاثة مسلمين فأكثر أن يبايعوا (سرا طبعا) واحدا منهم على السمع و الطاعة فيؤدون إليه الزكاة و يرجعون إليه في الأحكام و يسمونه "الأمير" ، و كلما التقت جماعة من هؤلاء بجماعة أخرى وجب على "الأمير" الأحدث مبايعة أن يخرج منها لـ "الأمير" لأقدم أو يفاضل بينهما بالتراضي حتى تصير لأحدهما ، و هكذا تكبر هذه الجماعات و تتوحد و تنتشر حتى تقوى ثم تثب على السلطان الكافر فتزيله و تحل محله.
3- و لأن هؤلاء الحكام كفار فإن ما بأيديهم من إمكانات و أموال عامة و خاصة تعتبر مستباحة لهذه الجماعات لا بل لعامة المسلمين و يجب أخذها من أيديهم ما أمكن و بأية وسيلة متاحة و لا يجوز تركها لهم كيلا يستعينوا بها على الكفر بالله ، و هذا طبعا يوجب من باب أولى حرمة إعانة هؤلاء الحكام بمال أو قوة و من فعل ذلك طائعا صار من جملة الكفار لأنه تولاهم و إن كل من يطيع هؤلاء الحكام و يناصرهم يعتبر بالحكم الأولي من هؤلاء الحكام و يسري عليه ما يسري عليهم من إباحة الدماء و الأموال ، لا بل يكاد هؤلاء أن يكونوا أشد كفرا و إثما من الحكام لأنهم هم ينصر هؤلاء الحكام و يثبت حكمهم.
و بناء على ما أوضحناه آنفا من أحكام "البيعة" فإنه صار واضحا أن هذا المنهج مفند باطل و مخالف لإجماعات الفقهاء المسلمين من وجوه نسردها :
1 – على فرض أن حكام الأقاليم الإسلامية صاروا مرتدين ، فإن الواقع يفرض أن هؤلاء الحكام إنما قيامهم بالسلطة يتم بمعونة و تأييد فريق كبير من أهل النفوذ و السلطة أي "أهل الحل و العقد" و لا يعقل أن يكونوا قائمين بكل أعباء السلطة بأنفسهم دون معونة من ذوي النفوذ ، و بما أن نصب الحاكم المسلم واجب منوط بـ "أهل العقد و الحل" و يكونون آثمين بترك هذه الفريضة دون سواهم فإن خلع الحاكم المسلم إن طرأ عليه الكفر يكون واجبا على هؤلاء فقط و لا يتعداهم إثم ترك هذا الواجب حتى لو وصل بهم الحال إلى أن يكونوا كفارا مثل الحاكم فإن إثمهم لا يتعدى إلى العامة بحال لأنه تكليف ما لا يطاق و عقاب على "إكراه"، و هذا المعنى ورد في كتب الفقهاء مبسوطا.
قال القاضي عياض : أجمع العلماء على أن الإمامة لا تنعقد لكافر ، وعلى أنه لو طرأ عليه الكفر انعزل ، قال : وكذا لو ترك إقامة الصلوات والدعاء إليها ، قال : وكذلك عند جمهورهم البدعة ، قال : وقال بعض البصريين : تنعقد له ، وتستدام له لأنه متأول ، قال القاضي : فلو طرأ عليه كفر وتغيير للشرع أو بدعة خرج عن حكم الولاية ، وسقطت طاعته ، ووجب على المسلمين القيام عليه ، وخلعه ونصب إمام عادل ((إن أمكنهم ذلك)) ، فإن لم يقع ذلك إلا لطائفة وجب عليهم القيام بخلع الكافر ، ولا يجب في المبتدع إلا إذا ظنوا القدرة عليه ، فإن تحققوا العجز لم يجب القيام ، وليهاجر المسلم عن أرضه إلى غيرها ، ويفر بدينه ، قال : ولا تنعقد لفاسق ابتداء ، فلو طرأ على الخليفة فسق قال بعضهم : يجب خلعه إلا أن تترتب عليه فتنة وحرب ، وقال جماهير أهل السنة من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين : لا ينعزل بالفسق والظلم وتعطيل الحقوق ، ولا يخلع ولا يجوز الخروج عليه بذلك ، بل يجب وعظه وتخويفه ؛ للأحاديث الواردة في ذلك.
2- حديث (من مات و لم تكن في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية) يشمل العامة بالتبعية لـ "أهل العقد و الحل" فإن نصب هؤلاء الخاصة إماما للعامة و قام بعض العامة بالامتناع عن طاعته أو عدم أداء الحقوق إليه وقع في محذور الحديث أما إن لم ينصب الخاصة المكلفون بأمر الإمامة من يقوم بها فإن الإثم المذكور في الحديث يقع على هؤلاء الخاصة فقط و لا يتعداهم إلا لمن يقدر على حملهم على القيام بهذا الواجب و من يقدر على إخضاع "أهل الحل و العقد" و حملهم على فعل ما يريد يكون منهم .
3- "البيعة السرية" التي أوجبها هؤلاء على عامة المسلمين لا يمكن لها أن تنعقد و لا تصح بحال من وجوه :
هي عقد يفتقد عاقدوه إلى "الأهلية" ذلك أن المبايع له (من العامة) غير قادر على القيام بأعباء حمـايـة و تسيير أمور من يبايعونه من قسمة الأموال و الحكم في القضية و فرض طاعته عليهم و حمايتهم من الصولة و هذه هي واجبات الإمام كما اختصرها نبينا في بعض جوامع الكلم التي أوحيت إليه :حدثنا إبراهيم عن مسلم حدثنى زهير بن حرب حدثنا شبابة حدثني ورقاء عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الإمام جنة يقاتل من ورائه ويتقى به فإن أمر بتقوى الله عز وجل وعدل كان له بذلك أجر وإن يأمر بغيره كان عليه منه).
هذا عدا عن أن هذه الـ"البيعة" إنما هي للقيام بما لا يجب القيام به أساسا على العامة الضعفاء العزل المحكومين.
أما الذين يبايعون فإنهم يوجبون على أنفسهم ما لا يجب عليهم مما لا يطيقون من العمل و لا يطيقون رد تبعاته عن أنفسهم فهم يعطون عهدا لا يقدرون على إنفاذه و لو عملوا لذلك دهرهم كله لفقدانهم القدرة و الإمكانية على القيام به و هم لا يقدرون على حماية أنفسهم من صولة الحكام فكيف يحمون إمامهم الذي يبايعونه من صولة الصائلين و كيف يقدر هو على حمايتهم و هو غير قادر على الدفع عن نفسه ؟؟!
و طبعا لا يقع الإثم على أحد من هؤلاء المتبايعين إن تخلى عن هذه المبايعة – الباطلة أساسا- لأنها بيع معدوم بمعدوم كالذي يشتري سطح القمر من بائع ألبسة في سوق شعبي بثمن آجل هو سطح المريخ.
و على العكس إن قيام هؤلاء بالدعوة إلى هذه "البيعة" إنما هو تغرير بالمسلمين و تعريض لهم للتلف و الهلاك على يد السلطان و أعوانه دون نفع و لا طائل ، و هذا عمل محرم لأنه تسبب في جر الأذى إلى المسلمين و فاعله آثم إن كان من ذوي العلم.
و لقد رأينا في تاريخنا الأول و المعاصر عشرات المبايعات على هذه الشاكلة جرّت على من قام بها موتا عقاصا و نكالا و إبادة و جرّت على البلاد التي حدثت فيها هذه المبايعات من البلاء و الدمار ما لا يمكن حصره و لا عدّه و بدلا من إقامة العدل و نصب الحاكم الشرعي ازداد الحكام الذين استهدفتهم هذه المبايعات قوة و سطوة و بطشا و راح ضحية سحق هذه الثورات أو مشاريع الثورات ملايين من النفس البريئة و أتلفت ثروات ضخمة لاحصر لها و حورب الدين و العلماء و الدعاة تبعا لذلك عقودا و انتشر بسبب ذلك الفساد و الرذيلة في تلك البلاد بشكل لم يكن ليحدث لولا تلك المواجهات الخائبة الغير متكافئة ، ثم تحول أصحاب هذا المنهج إلى فلول هاربة و خرج منهم من كفر العامة و الخاصة و أكثرهم إن لم نقل كلهم انتهى بهم الأمر إلى أن شهروا سلاحهم على إخوانهم من عامة المسلمين كما حصل للثوار في قصتنا الأولى ، و كثير جدا منهم من تحول إلى قاتل مأجور و مرتزق محترف يقاتل خدمة لمن يعطيه المال و السلاح و الأمان و لو إلى حين.
و ختاما أقول :
إن هؤلاء الذين شرعوا هذا المنهج إنما شرعوه خلافا لقواعد "الفقه الإسلامي" فلو أنهم ملكوا أهلية "الاجتهاد" –كما يدعون - لم يكونوا ليفتوا بهذا المنهج لخلافه البين لأصول الدين و الشريعة و الفقه ، أما إن كانوا قد شرعوه دون أهلية علمية كما هو واقع الحال فإنهم من أجرأ الناس على النار لأنهم تجرؤوا على الفتيا بغير علم فضلوا و أضلوا.
و إني و لأدعو السادة العلماء إلى وقفة جدية مع هذا المنهج المفسد الذي خرج أساسا من ضئضييء تلك الثلة التي قتلت "عثمانا" و "عليا" و تسببت في فتنة لم تنتهي إلا بالقضاء على الخلافة الراشدة و حملت إلى رأس الأمة أسرة حاكمة أحلت الملك الوراثي مكان منهج النبوة. و أدعو الشباب إلى التفكر مليا في هذه الرسالة و في الرسالة التي تليها عن "حكم ارتداء الحزام الناسف" قبل أن يقدموا على إعطاء أحد ما صفقة أيديهم و ثمرة قلوبهم ثم لاحقا رؤوسهم و مستقبل عائلاتهم.
الشيخ عبدالله خليل الحمد التميمي
حكم الإسلام في ارتداء الحزام الناسف
بــسم الله الرحــمن الرحــيم
الحمد لله رب العالمين الذي بعث إلينا الرسل و جعلنا من أمة خيرهم و خاتمهم محمد صلى الله عليه و سلم و أنزل علينا الكتاب المكنون و هدانا إلى الدين القويم و الملة الحنيفية السمحة.
أما بعد فلقد استخرت ربي الواحد الأحد علام الغيوب أنا الفقير إلى رحمة الله تعالى عبد الله بن خليل الحمد التميمي في كتابة هذه الرسالة الشرعية في حكم ارتداء الأحزمة التي تحتوي على مواد متفجرة و حكم ركوب الآلات المموهة المشحونة بمواد متفجرة أو حارقة بقصد الدخول إلى جموع العدو بأمان ثم تفجير هذه الأحزمة أو المركبات بحامليها أو ركابها في تلك الجموع.
مــقــدمــات تـاريــخــيــة
عايشت منذ تفتح صباي أخبار ظهور هذا النوع من الهجمات و الفتاوى التي صدرت بخصوص حكمها الشرعي و حكم مرتكبها أمأجور هو؟ أم مأزور؟ و ذلك في أوائل القرن الهجري الحالي الموافق لأوائل ثمانينيات القرن الشمسي الماضي.
و لقد كانت هذه الهجمات غير معروفة في الأمة المحمدية في سائر الزمن السابق لهذه الفترة التي ذكرتها آنفا ، و حتى في جميع الديانات التي سبقت ظهور الإسلام كاليهودية و النصرانية لم يوجد لهذه الهجمات أي ذكر يستحق الوقوف عنده و لم نعلم أن أحدا من أحبار تلك الديانات أجاز الانتحار من أجل أي مبرر كان.
إلا أن التاريخ يحدثنا عن بعض الأمم غير المسلمة وهي الأمة اليابانية و عن بعض الجماعات التي انتسبت إسميّا للإسلام و هي الفرقة الإسماعيلية (الحشاشين) كان الانتحار عملا مشروعا في ديانتها و أجازت لأتباعها أن يستعملوا أسلحتهم لقتل أنفسهم أو إيذاء أجسادهم بقطع بعض الأعضاء أو تحسي السموم أو التردي من المرتفعات.
في اليابان:
وجدت فئة من المحاربين المتدينين كانت مقربة من الإمبراطور الياباني تدعى "ساموراي" أو "نينجا" و لهذه الفئة فنون قتالية مرتبطة بطقوس ديانة اليابان "الشنتو" وهم يتدربون على هذه الفنون في معابدهم حيث يتعلم المحاربون كيف يضحون بأنفسهم و لو بالانتحار من أجل تحقيق رغبات إمبراطورهم ، و لقد كان هؤلاء المحاربون يعبدون إمبراطور "اليابان" بوصفه إلها رسميا للبلاد اليابانية و لكافة أتباع ديانة "الشنتو".
هذه الفئة من المحاربين كانت عماد القوات اليابانية التي شاركت في الحرب العالمية الثانية ضد "الولايات المتحدة الأمريكية" و لقد تشكلت منها القوات الجوية اليابانية ، و عندما انهزم الأسطول الياباني في المحيط الهادئ أمام الأسطول الأمريكي و اقتربت السفن الأمريكية من البر الياباني خرجت أمواج من هؤلاء المحاربين بطائرات مشحونة بأنواع المتفجرات و صدموا سفن الأسطول الأمريكي بهذه الطائرات و هم يقودونها فقتلوا أنفسهم و أغرقوا سفنا أمريكية و قتلوا الكثير من بحارتها ، إلا أن الأمريكيين طوروا تدابيرهم لمواجهة هذه الطائرات و لمنع وصولها إلى سفنهم و للتخفيف من الأذى الذي تلحقه هذه الطائرات بأسطولهم و بحارتهم ، و فشلت حملة طياري "كاميكازي" أو (الإعصار الإلهي) في منع الأمريكيين من الوصول إلى الجزر اليابانية و احتلالها في نهاية المطاف.
في بلاد الإسلام:
ظهرت في بلاد الإسلام ما بين القرن الخامس و السابع الهجريين فئة تدعى الإسماعيلية ، و لقد زعمت هذه الفئة أن الله تعالى قد اختار زعيمها فعصمه من الخطأ و منحه مفاتيح الجنات ليدخل إليها أتباعه و يحجب عنها من لا يرضى عنهم !.
أجاز زعيم هذه الفئة (حسن الصّبّاح) لأتباعه قتل أنفسهم لا بل زعم أن الانتحار هو السبيل الأمثل للوصول إلى جنات النعيم و فردوس السعادة الأبدية ، و لقد أطلق المؤرخون على هذه الجماعة اسم (الحشاشين) أو (النزاريين) أو (بنو الصّبّاح) , هي إحدى الطوائف التي زعمت التشيع للعلويين ، ولقد تمكنت هذه الفئة من إقامة عدة دويلات في (إيران) و(الشام) مابين عامي 470-650 هجرية من خلال السيطرة على قلاع نائية جعلوها مقرات لهم و منطلقا لهجماتهم على الجوار المسلم.
و يعود السبب في تسميتهم بـ "الحشاشين" إلى الطريقة التي كان زعيمهم "حسن الصباح" يقنع بها أتباعه بأنه يملك مفاتيح الجنات السماوية و سنعرض هذه الطريقة في سياق تعريفنا لـ "حسن الصّبّاح" هذا حتى تتضح معالم تفكير هذه الفئة و مدى استمرارية وجودها بالذات أو النظائر في أيامنا هذه.
الحسن بن الصّبّاح:
الحسن بن الصباح بن علي بن محمد بن جعفر بن الحسين بن الصباح الحميري الإسماعيلي رجل فارسى الأصل و الغالب أنه مولى أعجمي كان ينتسب إلى "حمير" بالولاء ، كان عالما بالهندسة والحساب والنجوم ولد بمدينة "طوس" وتتلمذ لـ "أحمد بن عطاش" و ذلك في القرن الخامس الهجري.
كان "الصّبّاح" يدين بالولاء لإمام العبيديين المتلقب بـ"المستنصر" و بأمره قام بتأسيس أول جماعة إسماعيلية مسلحة ادعت انتسابها إلى الإسلام وتاريخها مليء بعشرات ألوف القتلى والمغتالين وبحور الدماء.
كان "الصّباح" من أعيان الباطنية في عهد السلطان السلجوقي "ملكشاه" (رحمه الله) ثم كان مقدكبيرة,اعيلية في "أصفهان" ورحل منها وطاف في البلاد ودخل مصر وأكرمه "المستنصر" العبيدي وأعطاه مالا وأمره أن يدعو الناس إلى إمامته, فعاد إلى الشام والجزيرة وديار بكر وطاف في بلاد الروم (آسية الصغرى) وعاد إلى خراسان ثم دخل مدينة (كاشغر) وما وراء النهر ، داعيا لإمامة "المستنصر" العبيدي ، و في سنة 483هـ , استولى على "قلعة الموت " المبنية على جبل شاهق في خراسان كانت لملوك الديلم.
جعل "الصّبّاح" من "قلعة الموت" مقرا له و ألحق بها عددا آخر من القلاع و بدأ من قلعته بإعداد جيش الإسماعيلية الخاص و على طريقته الخاصة.
كان "الصباح" يقوم باختيار الأطفال حتى يتم تدريبهم تدريبا شاقا فيصبحون أطوع له من أصابعه و كانت الهجمات الأساسية التي يقومون بها هي القتل غدرا "الاغتيالات" ، و لقد كان "الصباح" يراعي في اختيار جنوده شروطا منها ألا يكونوا قد ذاقوا الخمر أو النساء أو أيا من ملذات الحياة , ولقد كانت الأسر الإسماعيلية تتبرع بأبنائها لترسلهم إلى (الصّبّاح) حتى يجاهدوا في سبيل توسيع الدعوة الصبّاحية المقدسة.
أوكَل (الصّبّاح) أمر هؤلاء الفتية إلى بعض المعلمين يعلمونهم أصول الديانة الإسماعيلية واللغة والشعر ..كما تعلموا العلوم العسكرية على يد قادة بارعين جدا وكانت تدريباتهم العسكرية قاسية بدرجة كبيرة ,حتى أن الكثيرين منهم كانوا يهلكون أثناء التدريب.
و مما كان يقوله هؤلاء المعلمون لفتيانهم : "إنه لا بد من أن يكون لعقل الإنسان وفكره وتطلعاته تحليق النسر إذا لم يعترضه عائق كبير ، هذا العائق هو جسدنا بكل مواطن ضعفه ، فجسدنا الميال إلى الكسل يخشى الصعاب التي بها تتحقق الأهداف السامية ، وقهر هذه الأهواء وتحرير العقول من قيودها هو الهدف من تدريباتنا إلى أن يصبح المرء قادرا على إنجاز المآثر العالية التي تقتضي التضحية بالنفس بشكل أعمى عندما يأمر سيدنا الأعلى "ابن الصّباح".
و عندما يموت المحارب الإسماعيلي وهو يقوم بواجبه يسمى "شهيد" وعندما ينجح ويبقى على قيد الحياة يُـرقّى إلى داعية أو أكثر و يتحول إلى قائد لعدد من المحاربين.
لقد غرس (الصّباح) في نفوس أتباعه أنه هو السّيد والإمام والمولى وأن الله تعالى قد أعطاه مفتاح الفردوس يفتحه لمن يشاء من أتباعه الإسماعيليين.
كانت وسيلة "الصّباح" لإقناعهم عجيبة جدا ؛ ذلك أنه أخفى عنهم قسما مغلقا خلفيا في قلعته كان قد بناه ملوك الديلم لنزهتهم و هو جانب من حدائق تخترقها الأنهار وتملأها الطيور والأزهار ، و كان "الصّباح" قد اشترى العديد من الفتيات شديدة الجمال و أسكنهن هذا القسم الجميل من القلعة وجلب لهن من يعلمهم الفنون والشعر والرقص ويجعل حياتهن ناعمة مثل الأميرات الناعمات ، وقبل كل شيء كان يقوم بتعليمهن طاعته والولاء التام له والطاعة العمياء لأوامره.
عندما كان "الصباح" يفكر في خطة لهجوم غادر على شخص أو زعيم فإنه كان ينتدب لها عددا من هؤلاء المقاتلين فيستضيفهم إلى مائدته و يسقيهم مخدرا من "الأفيون" (الحشيش) ثم بعد أن يفقدوا وعيهم كان يدخلهم إلى جنته الخلفية هذه فلا يفيقون إلا في فردوس (الصّباح)على أصوات الفتيات الجميلة اللواتي يزعمن لهم أنهن "الحور العين" ، ثم يأخذن بالغناء والرقص لكل منهم و هم الفتيان الذين لم يواجهوا في حياتهم أية فتنة أو إغراء و في هذا اليوم يقوم هؤلاء الفتيان بعمل كلّ شيء محرم عليهم في الجانب الأخر من القلعة ، فيرون أنهم في الجنة وأن سيدهم "الصّباح" فتح لهم باب الفردوس الحقيقي ، ثم في نهاية اليوم تقوم الفتيات بتخديرهم ثم يحملون إلى (الصّباح) فيفيقون بين يديه وقد آمنوا تماما بكل ما زعمه لهم مدربوهم عن السّيد و الإمام "الصّباح" و عن مفاتح الفردوس الأعلى التي بيده ، و لهذا سميت هذه الفرقة بـ "الحشاشين".
ثم يروي هؤلاء المقاتلون لأترابهم ما رأوه من معجزات إمامهم هذه ، و ليزدادوا يقينا كان "الصّبّاح" يختار منهم واحدا أو أكثر فيقول له أتريد العودة إلى الجنة ؟ فيتمنى عليه الفتى المخدوع أن يعجل له بالعودة فيأمره بأن ينحر نفسه أو أن يتردى من فوق أحد جدران القلعة فيفعل ذلك فورا و باندفاع ظاهر ، ثم يطلب "الصباح" من الباقين أن يذهبوا في مهمة الاغتيال التي كلفهم بها ليلحقوا بمن سبقهم.
ورد في كتاب (المنتظم) لـ "إبن الجوزي": كان "إبن الالأرض، يستقبل المبعوثين من خصومه السلاجقة (المسلمون) فكانوا يطلبون منه التنازل عن "قلعة الموت" والرجوع عن دعوته فكان يعمد إلى الردّ عليهم بواقع حال محاربيه الذين أذاقهم طعم جنته ، فيستدعي اثنين منهم ويقول لأحدهم : هل تريد العودة إلى الفردوس والخلود فيها ؟ فيجيب الفتى : نعم !، فيقول له اذهب إلى أعلى ذلك البرج وألقِ نفسك إلى الأرض ، فينطلق الغلام برغبة جامحة و هيام ظاهر ويرتقى البرج ويقذف بنفسه إلى الأرض فيتقطع ميتا ، ثم يلتفت إلى الفتى الآخر ملوحاً بالفردوس ويسأله : ألديك خنجر ؟ فيجيب: نعم، فيقول له: اقتل نفسك، فيديه:الفتى خنجره ويغرسه في عنقه حتى يموت... عندها يقول "ابن الصباح" للرسل بين يديه : أبلغوا من أرسلكم أن عندي من هؤلاء عشرين ألفا هذا مبلغ طاعتهم لي!!.
عاش "الصّباح" هذا حتى بلغ التسعين و هلك في "طوس" غير مأسوف عليه.
كيفية تنفيذ مقاتلي "الصباح" لمهماتهم:
كان من عادات "الحشاشين" في تنفيذ الاغتيالات التنكر بملابس الصوفية أو ارتداء ثياب النساء والشحاذين والفقراء أو انتظار المطلوب بين صفوف المصلين، أو تقديم أنفسهم كطالبي حاجات أو عابري سبيل، أو كخدم يبحثون عن العمل داخل القصور تحت أسماء مستعارة حتى تحين فرصة انقضاضهم على الضحية فيعترضون ضحيتهم وهو بين حرسه وشرطه وربما داخل ثكنة الجيش برسالة استرحام أو برسالة من صديق يتوسط بقضاء حاجة حاملها ، و عندما يقتربون من المطلوب يقتلونه طعنا بالخناجر في مقتل من جسده ، ولا يترددون في التضحية بواحد من السرية المبعوثة لتنفيذ المهمة إن أقتضى الأمر أو أن يقوم المهاجم بقتل نفسه حرصا على كتمان أسرار بقية المجموعة.
يروي المؤرخون أن عشرة من الحشاشين كانوا يستعدون لاغتيال الخليفة العبيدي "الآمر بأحكام الله" (496هـ)، فكمنوا في بيت يتحينون الفرصة للوثوب عليه، و تسرب خبرهم إلى شرطة القاهرة فاستنفرت في طلبهم، و ليستدل الحشاشون هل تعرف الحراس على وجوههم أم لا أمروا أحدهم بقتل نفسه فقال: أليس هذا من مصلحتنا ومصلحة مَنْ تلزمنا طاعته؟ فقالوا: نعم، فقال: وما دللتكم إلا على نفسي، وشرع في قتل نفسه بيده بسكين في جوفه فمات في وقته، فأخذ رفاقه رأسه ورموه ليلا في محلة "بين القصرين" و لمّا لم يتعرف الشرط على وجه صاحبهم و لم يفتشوا المحلة اطمأن التسعة إلى جهل الشرطة لأشكالهم فمضوا في مهمتهم ، و بعد جمع المعلومات الكافية حول حركة الخليفة، وجدوه يتردد على مكان يعرف بـ "جزيرة الروضة" ولا يصله إلا بعد اجتياز الجسر ، وفي اليوم الموعود اجتمعوا في فرن قريب من المكان، و ابتاعوا منه فطيراً بالسمن و العسل، ولما سمعوا بوصول الموكب هبّوا إلى رأس الجسر حيث يتأخر الحرس عادة لمرور الخليفة، فوثبوا عليه بالسكاكين، وللتأكد من قتله ركب أحدهم وراء ظهره وضربه عدة ضربات بخنجره فمات المطلوب بعد حمله إلى قصر اللؤلؤة، أما التسعة الحشاشون فقتلوا في الحال جميعاً.
و اغتال الحشاشون في السنة 521هـ وزير الأمير "سنجر" بدمشق بعد أن شن حملة كبيرة لتصفيتهم. احتالوا عليه ببعث سائس يخدم خيله حتى وجد الفرصة المناسبة، و عندما دخل الوزير يوماً يفتقد خيله، وثب عليه المذكور فقتله وقتل نفسه بعده.
استعمل "الصباح" أتباعه كوسيلة يكسب بها المال و السلطة ، و لقد كان يؤجرهم في اغتيالات لحساب أمراء و ملوك يدفعون له للتخلص من منافسيهم.
وقد روى "أبو الفداء" عملية الاغتيال هذه كالتالي: لما كان عاشر رمضان من هذه السنة بعد الإفطار، وهم بالقرب من "نهاوند" وقد انصرف الوزير "نظام المُلْك" إلى خيمة حرمه وثب عليه غلام ديلمي في صورة شحاذ، وضرب "نظام المُلْك" بسكين فقضى عليه، و أدرك أصحاب "نظام المُلْك" الغلام فقتلوه، وحصل للعسكر بسبب مقتل الوزير تشويش و صخب ، فركب السلطان وسكن العسكر ، وكان "نظام المُلْك" قد كبر، و قتله كان بتدبير من السلطان "ملكشاه ابن ألب أرسلان" الذي كان على خلاف معه، وشعر بخطورته وخطورة أولاده على مراكز السلطنة.
و لقد امتدت نشاطات الحشاشين على مدى القرنين الخامس و السادس الهجريين و استفحلت شرورهم حتى أن الكثير من القادة و الزعماء و القضاة من المسلمين كانوا لا يباشرون أعمالهم إلا و هم لابسون قمصان الزرد حماية لأنفسهم من خناجر الحشاشين المسمومة الغادرة.
لم تؤثر وفاة زعيم الحشاشين "الحسن بن الصبَّاح" سنة 518هـ وسقوط "قلعة الموت" بيد السلطان "مسعود السلجوقي" السنة 524هـ، في استمرار هجمات الحشاشين ، فقلعة "تعليم العقاب" أو "عش النسر" و قلعة "مصياف" كانت من عشرات القلاع التي لم تسقط كاملة إلا بيد عساكر المغول أسقطتها واحدة بعد واحدة حتى وصلت بغداد السنة 656هـ، بعد أن استجار بهم قاضي قضاة قزوين "شمس الدين" وهو يلبس الزرد تحت ثيابه وقاية من خناجر الحشاشين..
لم تكد تبق دار سلطنة و لا دولة في بلاد الإسلام ، بمأمن من خناجر الحشاشين، غُرزت في ظهر "الآمر بأحكام الله" العبيدي ، وقطعت أوصال الخليفة "المسترشد بالله العباسي" وذبحت ما ذبحت من سلاطين ووزراء السلاجقة، وأفزعت أوروبا بقتل حاكم القدس، وأخيراً تمكنت السنة 571هـ من الوثوب على السلطان الناصر "صلاح الدين الأيوبي" (رحمه الله) وهو يتفقد جيشه في "قلعة إعزاز" شمال "حلب" جاءه ثلاثة في لباس الأجناد، فضربه واحد بسكين في رأسه فلم يجرحه، وخدشت السكين خدَّه وقُتل الثلاثة فترك "صلاح الدين" القلعة إلى "حلب" إثر هذا الاعتداء.
نبذة عن عقائد "الحشاشين" :
تلتقي معتقداتهم مع معتقدات المتشيعة الإمامية عامة و الإسماعيلية خاصة من حيث ضرورة عدم خلو الزمان من إمام معصوم ومنصوص عليه من الإمام الذي سبقه و يرى الإسماعيلية أن العهد بالإمامة يجب أن ينحصر بالابن الأكبر للإمام السابق.
و كل الذين ظهروا من قادة الحشاشين إنما زعموا أنهم الحجة والداعية للإمام المستور (المتخفي) باستثناء (الحسن بن الصباح) وابنه فقد ادعيا بأنهما إمامان من نسل نزار.
كان للحشاشين وجود في "الشام" و كان إمامهم هناك "رشيد الدين سنان بن سليمان" قال بفكرة التناسخ زيادة على عقائد الإسماعيلية التي يؤمنون بها ، كما ادعى أنه يعلم الغيب ، و كان متعاونا مع الصليبيين ، و جماعته هم من أوصل لفظة Assassins (الحشاشين) إلى اللغة الإنكليزية و بقية اللغات الأوربية.
كانت وسيلتهم للبقاء و التوسع الاغتيال المنظم، وذلك من طريق تدريب الأطفال على الطاعة العمياء والإيمان بكل ما يلقى إليهم، وعندما يشتد ساعدهم يدربونهم على الأسلحة المعروفة ولا سيما الخناجر، ويعلمونهم الاختفاء والسّرية وأن يقتل أحدهم نفسه قبل أن يبوح بكلمة واحدة من أسرارهم ، وبذلك أعدوا طائفة "الحشاشين" التي روعت المسلمين آنذاك .
كانوا يمتنعون من سلاطين الإسلام في سلسلة من القلاع والحصون ، فلم يتركوا في منطقتهم مكانًا مشرفًا إلا أقاموا عليه حصنًا، ولم يتركوا قلعة إلا و وضعوا نصب أعينهم احتلالها.
كانت هذه الطائفة تستحل كافة المحرمات تقريبا في القرى و المدن التي تدين بدينها و يقول عنهم المؤرخ "كمال الدين بن العديم": في عام 572هـ/1176م "انخرط سكان "جبل السّماق" (مصياف) في الآثام والفسوق وأسموا أنفسهم المتطهرين ، واختلط الرجال والنساء في حفلات الشراب ولم يمتنع رجل عن أخته أو ابنته ، وارتدت النساء ملابس الرجال ، وأعلن بعضهم بأن "سنان بن سليمان" هو ربهم.
انطلقت دعوتهم من "كرمان" و "يزد" إلى أواسط "إيران" و "أصفهان" ثم "هضبة الديلم" واستقرت في "قلعة الموت" وشرقاً وصلوا "مازندران" ثم "قزوين" واحتلوا منطقة "رودبار" و "لاماسار" و "كوهستان".. واحتلوا كثيراً من القلاع وامتدوا إلى "نهر جيحون" ، وصلت دعوتهم إلى سوريا، وامتلكوا القلاع والحصون على طول البلاد وعرضها ومن قلاعهم "بانياس" و "مصياف" و "القدموس" و "الكهف" و "الخوابي" و "سلمية" التي كانت مقر دعوتهم..
كان زوالهم في "إيران" و "العراق" على يد "المغول" وفي "الشام" على يد السلطان "الظاهر بيبرس البندقداري" (رحمه الله).
في التاريخ الإسلامي الحديث:
لم نجد في القرن الهجري الماضي أي ذكر لهجمات يستعمل فيها مسلمون أحزمة متفجرة ينسفون بها أنفسهم بين أعدائهم ، و لا يكاد الباحث يجد سؤالا موجها إلى أحد العلماء المسلمين بهذا الخصوص خلال ذلك القرن.
في نهاية القرن الهجري الماضي وقعت في "سورية" معارك و مواجهات حربية بين مجموعات صغيرة من أعضاء جماعة "الإخوان المسلمين" و بين جنود و شرط حاكم "سورية" ، و لقد تعامل جنود هذا الحاكم مع سجناء و أسرى "الإخوان المسلمين" بشراسة غير مسبوقة في التاريخ و ارتكبوا فظائع هائلة بحق هؤلاء الأسرى حتى يستخرجوا منهم أسرارهم و أسماء إخوانهم و حتى إن لم يحقق هؤلاء الجنود مع الأسرى فإنهم كانوا يعذبونهم بطرق فظيعة لم يعرفها البشر من قبل.
و لقد استفتى عدد من هؤلاء الأسرى بعض قادتهم في جواز أن يقتل الأسير نفسه حتى لا يشي بإخوانه تحت التعذيب فصدرت بعض الفتاوى بإجازة قتل الأسير من "الإخوان المسلمين" نفسه حماية لإخوانه.
و لما تكاثر وقوع عناصر "الإخوان المسلمين" في أسر جنود حاكم "سورية" تباحث قادة الجماعة في حل يجنب أتباع الجماعة الوقوع في أسر الجند ، و اخترعوا لذلك أحزمة مشحونة بالمواد المتفجرة و فيها صاعق يشعل هذه المتفجرات ، و أجازوا لأتباعهم ارتداء هذه الأحزمة و أن يفجروها بأنفسهم إن خافوا الأسر حتى لا يقعوا بأيدي الجند فيعذبوهم بما يجعلهم يحلمون بالموت ليرتاحوا من آلامهم.
ثم قام عناصر من "الإخوان المسلمين" بشحن عدد من العربات بالمتفجرات و قادوها إلى أبنية و ثكنات تابعة لحاكم "سورية" و فجروها في هذه الأبنية و هم يقودونها فقتلوا و قتل معهم عدد من أتباع هذا الحاكم.
و بعد أن قضى حاكم "سورية" على خصومه من "الإخوان المسلمين" و احتل الصهاينة قسما من "لبنان" قامت مجموعات من الأحزاب اللبنانية التي يرعاها حاكم "سورية" بتنفيذ هجمات على قوات اليهود باستعمال مقاتلين يتحزمون بالمتفجرات أو يقودون عربات أو حتى بغال محملة بالمتفجرات فيقتلون أنفسهم وسط جنود يهود و يقتل معهم عدد من هؤلاء الجنود أو يجرحون.
بعد هذه الموجة من الهجمات ظهرت موجات واسعة من الفتاوى المتنوعة بخصوص حكم الشريعة المحمدية في هذه الهجمات و حكم منفذيها ، و راحت أجهزة إعلام حاكم "سورية" تنشر الكثير من التصريحات لمشايخ أطنبوا في تمجيد هذه الهجمات و منفذيها حتى أطلقوا عليها اسم "العمليات الاستشهادية".
انتشر اعتماد الجماعات المقاتلة باسم الإسلام في مشارق الأرض و مغاربها على هذا النوع من الهجمات و كثرت الفتاوى خاصة من علماء "الجزيرة العربية" التي تعتذر لمنفذي هذه العمليات و تعتبرهم من أفضل الشهداء عند الله مستندين إلى فتوى كان أصدرها مفتي "المملكة العربية السعودية" الشيخ "محمد بن إبراهيم" (رحمه الله) بإباحة الانتحار للأسير الجزائري خوف التعذيب و الاستجواب الوحشي على يد الجنود الفرنسيين.
و في نفس الوقت ظهرت فتاوى لعلماء كبار تحرم هذه الهجمات و تقرر أن منفذها منتحر آثم بقتل نفسه و أنه ليس بشهيد كالتي أصدرها الشيخ "محمد بن عثيمين" (رحمه الله).
و بين هؤلاء و هؤلاء ظهرت فتاوى حاولت أن تتوسط بين موقفي الفريقين و أن تضع قيودا على إباحة استعمال هذه الهجمات للتخفيف من الاعتماد عليها.
في الفترة التي ظهرت فيها هذه الهجمات كنت ما زلت طالبا صغيرا أتلقى التعليم من مشايخي رحمهم الله تعالى و لقد حضرت الكثير من المجالس التي وجهت فيها أسئلة إلى علمائنا بخصوص هذه الهجمات و حكمها و حكم منفذيها فسمعت من علمائنا مرارا و تكرارا ردودا جازمة متوافقة واضحة لا لبس فيها حول حكم هذه الهجمات ، و استمعت كثيرا إلى ردود على فتاوى علمائنا و إلى تفنيد مشايخنا رحمهم الله لهذه المحاورات بما أفحم محاوريهم تماما.
اليوم أجدني آثما بكتمان العلم إن توقفت عن الخوض في هذه المسألة التي كثر الجدل حولها و أثارت الكثير جدا من المشاكل و الخصومات ، و ها أنا أسطر هذا الكتاب على أمل أن ينفعني الله تعالى به فيجعله في ميزان حسناتي و ينشره بيانا واضحا لحكم الشريعة المحمدية كما بينه مشايخنا رحمهم الله تعالى في هذه الهجمات و منفذيها.
خطة الكتاب
سأبدأ مستعينا بالله تعالى بيان حكم الإسلام في الانتحار و أقوال المذاهب الإسلامية الأربعة في مرتكب هذا الفعل بأدلتها ثم استعراض أدلة المخالفين و استنباطاتهم و الرد على كل منها بالتفصيل.
حكم الانتحار في الإسلام
"الانتحار": لغةً من نًحَر بفتح النون و الحاء و الراء أي ذبح فقطع الأوداج (العروق الدموية على طرفي العنق) أو قطع الحلقوم و انتحر المرء أي أن يباشر قتل نفسه بنفسه بفعل أو ترك بسلاح أو دون سلاح.
و لا يختلف المعنى الشرعي عن المعنى اللغوي و لقد ذكر نصا في القرآن و الحديث الشريف في مواضع كثيرة و الانتحار محرم قطعا في الإسلام قولا واحدا بنصوص و إجماع و تواتر علم و باتفاق المذاهب الإسلامية الأربعة و الظّاهرية و الزَّيديَّة , و هذا التحريم مما علم من دين الإسلام بالضرورة كتحريم الشرك و الخمر و الزنا مما لا يسع المسلم الجهل به و منكره كافر مرتد.
اتفق الأئمة الأربعة و الظاهرية على أن تحريم الانتحار ورد صريحا بالنص القرآني في قول الله تعالى:
{يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما}(النساء). و لقد اتفق المفسرون أيضا على أن قوله تعالى {و لا تقتلوا أنفسكم} نص قرآني محكم على تحريم الانتحار و لقد فسره رسول الله بهذا إقرارا فيما ورد بالحديث الشريف كما ورد في تفسير "ابن كثير" : قال الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى حدثنا ابن لهيعة حدثنا يزيد بن أبي حبيب عن عمران بن أبي أنس عن عبد الرحمن بن جبير عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قال : لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم عام ذات السلاسل قال : احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك فتيممت ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح قال : فلما قدمنا على رسول الله صلى عليه وسلم ذكرت ذلك له فقال " يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب " قال : قلت يا رسول الله إني احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك فذكرت قول الله عز وجل " ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما " فتيممت ثم صليت فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئا . و هكذا رواه أبو داود من حديث يحيى بن أيوب عن يزيد بن أبي حبيب به ورواه أيضا عن محمد بن أبي سلمة عن ابن وهب عن ابن لهيعة وعمر بن الحارث كلاهما عن يزيد بن أبي حبيب عن عمران بن أبي أنس عن عبد الرحمن بن جبير المصري عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص عنه فذكر نحوه وهذا والله أعلم أشبه بالصواب . وقال أبو بكر بن مردويه حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن حامد البلخي حدثنا محمد بن صالح بن سهل البلخي حدثنا عبد الله بن عمر القواريري حدثنا يوسف بن خالد حدثنا زياد بن سعد عن عكرمة عن ابن عباس أن عمرو بن العاص صلى بالناس وهو جنب فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكروا ذلك له فدعاه فسأله عن ذلك فقال : يا رسول الله خفت أن يقتلني البرد وقد قال الله تعالى " ولا تقتلوا أنفسكم " فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
و لقد أورد المفسرون في تفسير هذا النص أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ثابتة تنص على حرمة الانتحار، و لقد ساق هذا "ابن كثير" الدمشقي رحمه الله تعالى في تفسير قائلا في معرض تفسير هذه الآية:
ثم أورد ابن مردويه عند هذه الآية الكريمة من حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها بطنه يوم القيامة في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا ومن قتل نفسه بسم فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا " . وهذا الحديث ثابت في الصحيحين وكذلك رواه أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه وعن أبي قلابة عن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة " . وقد أخرجه الجماعة في كتبهم من طريق أبي قلابة . وفي الصحيحين من حديث الحسن عن جندب بن عبد الله البجلي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كان رجل ممن كان قبلكم وكان به جرح فأخذ سكينا نحر بها يده فمابعضها:دم حتى مات قال الله عز وجل عبدي بادرني بنفسه حرمت عليه الجنة.
و لقد استدل الأئمة الأربعة و الظاهرية بهذا النص في آية (النساء) و بأحاديث كثيرة صحيحة محكمة و بألفاظ و روايات متعددة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم نورد بعضها :
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : "من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيها خالدا مخلدا فيها أبدا ومن تحسي سما فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا" صحيح أخرجه البخاري ومسلم والنسائي والترمذي والدرامي وأحمد وعنه أبو داود قضية السم فقط.
عن ثابت بن الضحاك : أنه بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "من حلف بملة غير ملة الإسلام كاذبا فهو كما قال ومن قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة وليس على رجل نذر فيما لا يملكه" ابن ماجه وأخرجه البخاري ومسلم
حدثنا أبوهريرة: أبي شيبة حدثنا وليع عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من شرب سما فقتل نفسه فهو ينحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا" وأخرج البخاري ومسلم أتم منه
و عن أبي هريرة : شهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنينا ، فقال لرجل ممن يدعي بالإسلام : "هذا من أهل النار" . فلما حضرنا القتال قاتل الرجل قتالا شديدا ، فأصابته جراحة ، فقيل : يا رسول الله الرجل الذي قلت له آنفا : "إنه من أهل النار" ، فإنه قاتل اليوم شديدا وقد مات ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "إلى النار" . فكاد بعض المسلمين أن يرتاب ، فبينما هم على ذلك إذ قيل : إنه لم يمت ، ولكن به جراحا شديدا ، فلما كان من الليل لم يصبر على الجراح فقتل نفسه ، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، فقال : "الله أكبر ، أشهد أني عبد الله ورسوله" ، ثم أمر بلالا فنادى في الناس : "إنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة ، وإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر".
عن جابر بن سمرة أن رجلا قتل نفسه فلم يصل عليه النبي صلى الله عليه وسلم . أخرجه ابن ماجه وأخرجه مسلم .
قال أبو عيسى هذا حديث حسن . وقد اختلف أهل العلم في هذا فقال بعضهم يصلى على كل من صلى إلى القبلة وعلى قاتل النفس وهو قول الثوري وإسحق و قال أحمد لا يصلي الإمام على قاتل النفس ويصلي عليه غير الإمام.
و لقد استدل الأئمة بهذه النصوص على حرمة مباشرة المرء قتل نفسه بنفسه و استقرأوا من تعداد رسول الله صلى الله عليه و سلم لصور قتل المرء نفسه بنفسه دليلا على عظم هذا الجرم و على وجوب سد الذرائع المفضية إلى ارتكاب هذه الكبيرة الكبرى و على تحريم كل صور ارتكابها بغض النظر عن العلل مهما كانت ذلك أن النصوص لم تورد عللا لتحريم هذه الجريمة.
و لقد أطبق الفقهاء رحمهم الله تعالى على التعامل مع النصوص القرآنية و السنية الكثيرة التي تبيح للمسلم التلفظ بالكفر و تناول المحرمات حفاظا على حياته حال الإكراه و الاضطرار على أنها أدلة تشير إلى حرمة الانتحار (بصور الفعل أو الامتناع) و تدل على وجوب سد الذرائع المفضية إليه ، فنجدهم يروون في كتب الإكراه التي عقدوها في مصنفات الفقه صورا عن اضطرار المسلم إلى أكل المحرمات في حالات فقدان الطعام و الشراب أو في حالات الإكراه على فعل المحرمات ، و لقد اجتمعوا على أن المسلم الممتنع عن تناول المحرمات بعينها (فضلا عن المباحات أو المحرمات لغيرها) آثم لأنه قتل نفسه بنفسه بامتناعه عن أسباب الحياة المتوفرة له مع زوال الموانع الشرعية لتناولها بنصوص الاضطرار المتعددة التي وردت في كتاب الله تعالى :
{إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم} (البقرة).
{حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم} (المائدة).
{وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين}(الأنعام).
{قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم} (الأنعام).
{إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم} (النحل).
و لقد عبر شيخ المفسرين الإمام "إبن جرير الطبري" عن هذا الإطباق بقوله في تفسير آية الاضطرار (البقرة) و قرر قاعدة ثابتة في الإسلام بناء على استقراءات الفقهاء للنصوص الواردة في حكم تحريم قتل المرء لنفسه بنفسه:
وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال: {فمن اضطر غير باغ} بأكله ما حرم عليه من أكله {ولا عاد} في أكله، وليس له عن ترك أكله بوجود غيره مما أحله الله له مندوحة وغنى، وذلك أن الله تعالى ذكره لم يرخص لأحد في قتل نفسه بحال.
و لقد اتفق علماء الإسلام على أن جرم قتل المرء لنفسه بنفسه من الكبائر الكبرى بل لعله أكبر الكبائر بعد الكفر بالله و من عظم هذا الجرم كاد أن يعتبر ردّة عند عموم المسلمين و لهذا نجد أن كافة الفقهاء و المحدثين تقريبا قد عقدوا في مصنفاتهم الكبرى فصولا للتأكيد على عدم ثبوت الكفر و الرّدّة على المسلم الذي يقتل نفسه و فصولا لتبيان صحة الصلاة عليه:
باب الدليل على أن قاتل نفسه لا يكفر: فلقد عقد الإمام مسلم على سبيل المثال بابا أسماه :
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وإسحق بن إبراهيم جميعا عن سليمان قال أبو بكر حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن حجاج الصواف عن أبي الزبير عن جابر أن الطفيل بن عمرو الدوسي أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله هل لك في حصن حصين ومنعة قال حصن كان لدوس في الجاهلية فأبى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم للذي ذخر الله للأنصار فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة هاجر إليه الطفيل بن عمرو وهاجر معه رجل من قومه فاجتووا المدينة فمرض فجزع فأخذ مشاقص له فقطع بها براجمه فشخبت يداه حتى مات فرآه الطفيل بن عمرو في منامه فرآه وهيئته حسنة ورآه مغطيا يديه فقال له ما صنع بك ربك فقال غفر لي بهجرتي إلى نبيه صلى الله عليه وسلم فقال ما لي أراك مغطيا يديك قال قيل لي لن نصلح منك ما أفسدت فقصها الطفيل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اللهم و ليديه فاغفر".
و هذه الأحاديث جاءت ضمن جملة كبيرة من النصوص الدالة على أصل في الدين الإسلامي هو أن قاتل نفسه أو مرتكب الكبيرة الذي مات من غير توبة لا يكفر و لا يقطع له بالنار و إنما هو تحت المشيئة.
و لكن مرتبة هذه الكبيرة و هي قتل للنفس التي حرم الله عمدا بغير حق تكاد تكون الأعظم على الإطلاق بين الكبائر بعد الكفر بالله تعالى (و العياذ بالله) و الانتحار أعظم أنواع القتل جرما و أشدها إثما و لقد قرر هذا الفقهاء في كتبهم:
{فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ قَرِيبًا مِنْ كِتَابِ الْوَقْفِ رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا قَتَلَ نَفْسَهُ وَالْآخَرُ قَتَلَ غَيْرَهُ كَانَ قَاتِلُ نَفْسِهِ أَعْظَمَ وِزْرًا وَإِثْمًا}.
و لا يعتبر قاتل نفسه كافرا إلا إذا كان مستحلا لهذا الجرم و هذا الحكم عام في سائر الكبائر دون الشرك و الردة.
اتفق فقهاء المذاهب الأربعة استنادا إلى هذه القاعدة و إلى ما ورد من أحاديث تبين عدم ثبوت الكفر على قاتل نفسه على أن قاتل نفسه يغسل و يكفن و يصلى عليه و يدفن في مقابر المسلمين و ترجى له المغفرة من الله تعالى و يقسم ميراثه على ورثته إلا أن يكون قد بدا منه ما يثبت كفره عند مقتله.
و في الخلاصة نجد أن مباشرة المسلم قتل نفسه بنفسه عمدا محرم قطعا قولا واحد مشهورا مستفيضا معلوما بين عامة المسلمين و علمائهم لا تخفى حرمته و هي حرمة محكمة مغلظة جدا لم يرد في مصنفات علماء المسلمين ما يشير من قريب أو بعيد إلى أنها قد تسقط بحال من الأحوال و هم مطبقون على أنها لا يمكن أن تنقل إلى الإباحة أو الكراهة تحت أية صورة و لا يشملها أي استثناء كإكراه أو اضطرار.
و على هذا كان دوما علم و عمل الأمة متواترا و سيبقى كذلك إلى أن يرث الله الأرض و من عليها لعدم احتمال النسخ بعد اكتمال الرسالة و انقطاع الوحي بوفاة رسول الله و خاتم النبيين محمد بن عبد الله صلى الله عليه و على آله و صحابته و سلم.
الأحزمة الناسفة و العربات المتفجرة و أحكامها :
معلوم أن صورة المقاتل الذي يتحزم بالحزام الناسف أو يركب العربة المتفجرة و يهاجم تجمعات العدو فيفجر نفسه في وسطهم لم تكن معروفة قبل أن يقوم طيارو "الكاميكازي" بهجماتهم الشهيرة في القرن الهجري الماضي ، و تطوير هذا الأسلوب باستبدال الطائرة بالحزام الناسف أو العربة المتفجرة لم يكن معروفا قبل نهاية ذلك القرن ، و لقد اعتبر عدد من علماء المسلمين في تلك الفترة أن هذه الصورة من القتال تعتبر من الأمور المستجدة التي لم يرد فيها نصوص قاطعة تبين أحكامها و بناء على ذلك تصدوا لإصدار الفتاوى التي تعالج هذه الصورة و تبين أحكامها بالاستناد إلى الاجتهاد المطلق و إلى أدوات الاجتهاد المطلق ، و لقد تورط في استعمال الاجتهاد المطلق لمعالجة هذه المسألة جميع الذين أفتوا فيها بالجواز بحال ما ، سواء في ذلك منهم الذين يرون إغلاق باب الاجتهاد أو أولئك القائلون بفتحه.
و لأنني من المعتصمين باجتماع جماعة الأمة في القرون المتوالية على إغلاق باب الاجتهاد أوردت في صدر الكتاب فتاوى المذاهب الإسلامية الأربعة التي يتعبد الله بتقليدها و يثاب مقلدها على كل حال.
و لقد بينت في صدر الكتاب أن الانتحار محرم في الإسلام بكل صوره و بكافة الأحوال و أن أيا من مصنفات علماء الإسلام لا يشير لا من قريب و لا بعيد إلى أية رخصة تبيح للمسلم أن يباشر قتل نفسه بنفسه و على هذا فإن القاعدة المستقرة الثابتة هي تحريم لبس المسلم أو المسلمة للحزام الناسف أو ركوب المسلم أو المسلمة للعربة أو للطائرة المتفجرة عمدا ليفجر نفسه أو تفجر نفسها في جمع العدو.
فالقائلون بالحرمة يفتون بالأصل الثابت المؤكد المتواتر الذي ثبته شيخ المفسرين "الطبري" في تفسيره : وذلك أن الله تعالى ذكره لم يرخص لأحد في قتل نفسه بحال. بينما القائلون بالرخصة يدعون وجود استثناء لهذه القاعدة بناء على حجج ساقوها.
إن الإنصاف في البحث في هذه المسألة لا يكون بمناقشة القائلين بالتحريم لأنهم ليسوا في مجال ادعاء ما لم يثبت ، ذلك أن البينة واجب على المدعي و القائلون بالإباحة في هذه المسألة الخطيرة هم المدعون و مناقشة بيناتهم و حججهم التي ساقوها بالتفصيل و ضمن قواعد الاجتهاد المطلق التي اتبعوها هو الإنصاف في هذا البحث فإذا ثبتت بيناتهم و حججهم متفرقة أو متجمعة ثبتت دعواهم فإن دحضت و ردت عاد الأمر إلى أصله و هو التحريم و هذه هي خطتي في الفصل القادم بعون الله و سأكتب ردي عند كل دليل بعد كلمة ( قال المصنف).
فتاوى الذين أجازوا تفجير المرء نفسه في العدو و أدلتها و مناقشة كل منها
أبدأ بإيراد فتوى فضيلة الشيخ "حمود بن عقلا الشعيبي" (رحمه الله) لأنها الأوسع و الأكثر تفصيلا و تضم مجموع ما استدل به غيره من العلماء القائلين بإجازة هذا الفعل.
أ – فتوى الشيخ "حمود بن عقلا الشعيبي" رحمه الله تعالى ، قال السائل :
فضيلة الشيخ "حمود بن عقلاء الشعيبي" حفظه الله من كل سوء: يقوم المجاهدون في فلسطين والشيشان وغيرهما من بلاد المسلمين بجهاد أعدائهم والإثخان بهم بطريقة تسمى العمليات الاستشهادية .. وهذه العمليات هي ما يفعله المجاهدون من إحاطة أحدهم بحزام من المتفجرات، أو ما يضع في جيبه أو أدواته أو سيارته بعض القنابل المتفجرة ثم يقتحم تجمعات العدو ومساكنهم ونحوها ، أو يظهر الاستسلام لهم ثم يقوم بتفجير نفسه بقصد الشهادة ومحاربة العدو والنكاية به .
فما حكم مثل هذه العمليات ؟ وهل يعد هذا الفعل من الانتحار ؟ وما الفرق بين الانتحار والعمليات الاستشهادية ؟ جزاكم الله خيرا وغفر لكم ..
قال (الشيخ) : الجواب :
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد
قبل الإجابة على هذا السؤال لابد أن تعلم أن مثل هذه العمليات المذكورة من النوازل المعاصرة التي لم تكن معروفة في السابق بنفس طريقتها اليوم ، ولكل عصر نوازله التي تحدث فيه ، فيجتهد العلماء على تنـزيلها على النصوص والعمومات والحوادث والوقائع المشابهة لها والتي أفتى في مثلها السلف ، قال تعالى : ( ما فرطنا في الكتاب من شيء ) وقال عليه الصلاة والسلام عن القرآن : ( فيه فصل ما بينكم ) ، وإ ن العمليات الاستشهادية المذكورة عمل مشروع وهو من الجهاد في سبيل الله إذا خلصت نية صاحبه وهو من أنجح الوسائل الجهادية ومن الوسائل الفعّالة ضد أعداء هذا الدين لما لها من النكاية وإيقاع الإصابات بهم من قتل أو جرح ولما فيها من بث الرعب والقلق والهلع فيهم ،ولما فيها من تجرئة المسلمين عليهم وتقوية قلوبهم وكسر قلوب الأعداء والإثخان فيهم ولما فيها من التنكيل والإغاظة والتوهين لأعداء المسلمين وغير ذلك من المصالح الجهادية. ويدل على مشروعيتها أدلة من القرآن والسنة والإجماع ومن الوقائع والحوادث التي تنـزّل عليها وردت وأفتى فيها السلف كما سوف نذكره إن شاء الله.
أولا : الأدلة من القرآن
1- منها قوله تعالى : ( ومن الناس من يشرى نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد ) ، فإن الصحابة رضي الله عنهم أنزلوها على من حمل على العدو الكثير لوحده وغرر بنفسه في ذلك ، كما قال عمر بن الخطاب وأبو أيوب الأنصاري وأبو هريرة رضي الله عنهم كما رواه أبو داود والترمذي وصححه ابن حبان والحاكم (تفسير القرطبي 2 / 361).
قال (المصنف) : ليس في الآية ما يدل و لا فيما جاء من تفسيرات الصحابة لها ما يدل على الرخصة لأحد بمباشرة قتل نفسه بنفسه و إنما جاء في تفسيرات الصحابة ما يشير إلى الانغماس في العدو و تعريض النفس للقتل بسلاح هذا العدو و بيد هذا العدو و بقصد هذا العدو و هذا أحد المعاني العامة للجهاد (تعريض النفس و المال للتلف المظنون بيد العدو).
و لقد خلط الشيخ "الشعيبي" (رحمه الله) هنا بين تعريض النفس لمظنون التلف بيد العدو (الانغماس في العدو) و هو عبادة عظيمة و بين مباشرة إتلاف المسلم لنفسه بنفسه بيقين و هو جرم عظيم.
2- قوله تعالى : ( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويُقتلون) الآية ، قال ابن كثير رحمه الله : حمله الأكثرون على أنها نزلت في كل مجاهد في سبيل الله .
قال (المصنف) : نعم هي في كل مجاهد في سبيل الله ضمن حدود ما أنزل الله تعالى من أحكام الجهاد و القتال و لا تشمل طبعا من يعدو في جهاده حدود ما أنزل الله و قاتل نفسه بين هؤلاء كما ورد في الأحاديث الصحيحة و منها :
و عن أبي هريرة : شهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنينا ، فقال لرجل ممن يدعي بالإسلام : "هذا من أهل النار" . فلما حضرنا القتال قاتل الرجل قتالا شديدا ، فأصابته جراحة ، فقيل : يا رسول الله الرجل الذي قلت له آنفا : "إنه من أهل النار" ، فإنه قاتل اليوم شديدا وقد مات ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "إلى النار" . فكاد بعض المسلمين أن يرتاب ، فبينما هم على ذلك إذ قيل : إنه لم يمت ، ولكن به جراحا شديدا ، فلما كان من الليل لم يصبر على الجراح فقتل نفسه ، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، فقال : "الله أكبر ، أشهد أني عبد الله ورسوله" ، ثم أمر بلالا فنادى في الناس : "إنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة ، وإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر".
3- قوله تعالى : ( واعدوا لهم ما استطعتم من قوة من رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم ) ، والعمليات الاستشهادية من القوة التي ترهبهم .
قال (المصنف) هذا التفسير الذي جاء به "الشعيبي" (رحمه الله) متعسف جدا و هو مختص بالشيخ وحده و معلوم أن التفسير له ضوابط و مقيد بنصوص و قواعد صارمة لا أدري إلى أي منها استند الشيخ (رحمه الله) في تضمينه لنسف المسلم لنفسه ضمن هذه الآية.
بينما نرى تفسير النبي صلى الله عليه و سلم لها يخالف تماما ما ذهب إليه الشعيبي لا بل يحض تفسير النبي صلى الله عليه و سلم على ما يقصي أبدان المسلمين عن مدى سلاح العدو ما أمكن فقال في تفسير للقوة : "ألا إن القوة هي الرمي" (كررها صلى الله عليه و سلم).
4- قال الله تعالى في الناقضين للعهود : {فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون}.
(قال المصنف) أيضا لا يوجد في هذه الاية ما يشير من قريب أو بعيد إلى الرخصة للمسلم في قتل نفسه ضمن أية صورة ، ذلك أن القتال بكل صوره يحقق غاية إيقاع الرعب في نفس العدو و هذه الصور كثيرة و في كل منها مندوحة عن الانتحار بتفجير النفس.
ثانيا : الأدلة من السنة :
أولا - حديث الغلام وقصته معروفة وهي في الصحيح ، حيث دلهم على طريقة قتله فقتلوه شهيدا في سبيل الله وهذا نوع من الجهاد ، وحصل نفع عظيم ومصلحة للمسلمين حيث دخلت تلك البلاد في دين الله ، إذ قالوا : آمنا برب الغلام ، ووجه الدلالة من القصة أن هذا الغلام المجاهد غرر بنفسه وتسبب في ذهابها من أجل مصلحة المسلمين ، فقد علّمهم كيف يقتلونه ، بل لم يستطيعوا قتله إلا بطريقة هو دلهم عليها فكان متسبباً في قتل نفسه لكن أُغتفر ذلك في باب الجهاد ، ومثله المجاهد في العمليات الاستشهادية ، فقد تسبب في ذهاب نفسه لمصلحة الجهاد ، وهذا له أصل في شرعنا ، إذ لو قام رجل واحتسب وأمر ونهى واهتدى الناس بأمره ونهيه حتى قتل في ذلك لكان مجاهدا شهيدا ، وهو مثل قوله عليه الصلاة والسلام (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر).
قال (المصنف) : روى الإمام "مسلم" في صحيحه :حدثنا هداب بن خالد حدثنا حماد بن سلمة حدثنا ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " كان ملك فيمن كان قبلكم وكان له ساحر فلما كبر قال للملك إني قد كبرت فابعث إلي غلاما أعلمه السحر فبعث إليه غلاما يعلمه فكان في طريقه إذا سلك راهب فقعد إليه وسمع كلامه فأعجبه فكان إذا أتى الساحر مر بالراهب وقعد إليه فإذا أتى الساحر ضربه فشكا ذلك إلى الراهب فقال إذا خشيت الساحر فقل حبسني أهلي وإذا خشيت أهلك فقل حبسني الساحر فبينما هو كذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس فقال اليوم أعلم آلساحر أفضل أم الراهب أفضل فأخذ حجرا فقال اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس فرماها فقتلها ومضى الناس فأتى الراهب فأخبره فقال له الراهب أي بني أنت اليوم أفضل مني قد بلغ من أمرك ما أرى وإنك ستبتلى فإن ابتليت فلا تدل علي وكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص ويداوي الناس من سائر الأدواء فسمع جليس للملك كان قد عمي فأتاه بهدايا كثيرة فقال ما هاهنا لك أجمع إن أنت شفيتني فقال إني لا أشفي أحدا إنما يشفي الله فإن أنت آمنت بالله دعوت الله فشفاك فآمن بالله فشفاه الله فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس فقال له الملك من رد عليك بصرك قال ربي قال ولك رب غيري قال ربي وربك الله فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام فجيء بالغلام فقال له الملك أي بني قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل فقال إني لا أشفي أحدا إنما يشفي الله فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب فجيء بالراهب فقيل له ارجع عن دينك فأبى فدعا بالمئشار فوضع المئشار في مفرق رأسه فشقه حتى وقع شقاه ثم جيء بجليس الملك فقيل له ارجع عن دينك فأبى فوضع المئشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه ثم جيء بالغلام فقيل له ارجع عن دينك فأبى فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا فاصعدوا به الجبل فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه فذهبوا به فصعدوا به الجبل فقال اللهم اكفنيهم بما شئت فرجف بهم الجبل فسقطوا وجاء يمشي إلى الملك فقال له الملك ما فعل أصحابك قال كفانيهم الله فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال اذهبوا به فاحملوه في قرقور فتوسطوا به البحر فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه فذهبوا به فقال اللهم اكفنيهم بما شئت فانكفأت بهم السفينة فغرقوا وجاء يمشي إلى الملك فقال له الملك ما فعل أصحابك قال كفانيهم الله فقال للملك إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به قال وما هو قال تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جذع ثم خذ سهما من كنانتي ثم ضع السهم في كبد القوس ثم قل باسم الله رب الغلام ثم ارمني فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني فجمع الناس في صعيد واحد وصلبه على جذع ثم أخذ سهما من كنانته ثم وضع السهم في كبد القوس ثم قال باسم الله رب الغلام ثم رماه فوقع السهم في صدغه فوضع يده في صدغه في موضع السهم فمات فقال الناس آمنا برب الغلام آمنا برب الغلام آمنا برب الغلام فأتي الملك فقيل له أرأيت ما كنت تحذر قد والله نزل بك حذرك قد آمن الناس فأمر بالأخدود في أفواه السكك فخدت وأضرم النيران وقال من لم يرجع عن دينه فأحموه فيها أو قيل له اقتحم ففعلوا حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها فتقاعست أن تقع فيها فقال لها الغلام يا أمه اصبري فإنك على الحق" .
و أقول بعون الله : أما الغلام فلقد ذكر لنا رسول الله صلى الله عليه و سلم قصته في خبر من كان قبلنا عبرة و عظة و لم يرد في الحديث ما يفيد تشريعا من القصة هذا أولا ، ثم إن الغلام ليس نبيا و لا رسولا و لكنه مؤمن ملهم شأنه كشأن أصحاب الكهف ذلك أنه تلقى الإيمان عن راهب و الرهبان ليسوا من أهل الشرع القويم كما هو ثابت في كتاب الله و فعله ليس شرعا و لا وحيا ، ثالثا على فرض أن فعل الغلام موافق لشرع نبي من أنبياء الله السابقين فإنه يكون من شرعا لنا ما لم ينسخه نص في شرعنا و لقد وردت نصوص قاطعة في شرعنا تحرم على المسلم التسبب بقتل نفسه ، رابعا الغلام لم يقتل بنفسه و لا بيقين لأنه أرشد الملك إلى ما يمكن الملك من قتله بيد الملك و بسلاحه في غالب الظن و ليس بوحي و يقين ، و لا حجة للشيخ الشعيبي (رحمه الله) في هذه القصة للترخيص للمسلم في قتل نفسه.
أما الآمر بالمعروف و الناهي عن المنكر الذي يصدع بالحق فإنه يعرض نفسه لمظنون القتل بيد غيره و ليس مباشرا لقتل نفسه بنفسه و لا حجة أيضا في هذه للشيخ (رحمه الله).
2- فعل البراء بن مالك في معركة اليمامة ، فإنه اُحتمل في تُرس على الرِّماح وألقوه على العدو فقاتل حتى فتح الباب ، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة ، وقصته مذكورة في سنن البيهقي في كتاب السير باب التبرع بالتعرض للقتل ( 9 / 44 ) وفي تفسير القرطبي ( 2 / 364 ) أسد الغابة ( 1 / 206 ) تاريخ الطبري .
قال (المصنف) : و هذا الأثر الشريف ليس فيه أي دليل على ما ذهب إليه الشيخ (رحمه الله) من إباحة قتل المسلم لنفسه بنفسه فـ "البراء" رضي الله عنه لم يقتل نفسه و لم يقتله المسلمون و لا الكافرون في ذلك الحصن كل ما في القصة أن هذا الصحابي انغمس في العدو معرضا نفسه لمظنون القتل بيد العدو و لم يقتل بل على العكس نجا و انتصر فأين هذا من الذي يفجر نفسه فيقتل نفسه بنفسه بيقين ؟!.
3- حمل سلمة ابن الأكوع والأخرم الأسدي وأبي قتادة لوحدهم على عيينة بن حصن ومن معه ، وقد أثنى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال : ( خير رجّالتنا سلمة ) متفق عليه.
قال ابن النحاس : وفي الحديث الصحيح الثابت : أدل دليل على جواز حمل الواحد على الجمع الكثير من العدو وحده و إن غلب على ظنه أنه يقتل إذا كان مخلصا في طلب الشهادة كما فعل سلمة بن الأخرم الأسدي ، ولم يعب النبي عليه الصلاة والسلام ولم ينه الصحابة عن مثل فعله ، بل في الحديث دليل على استحباب هذا الفعل وفضله فإن النبي عليه الصلاة والسلام مدح أبا قتادة وسلمة على فعلهما كما تقدم ، مع أن كلاً منهما قد حمل على العدو وحده ولم يتأنّ إلى أن يلحق به المسلمون اهـ مشارع الأشواق ( 1 / 540 ).
قال (المصنف) :هذا الحديث الشريف أيضا لا يروي لنا في حيثياته ما يشبه أو يقارب صورة الذي يستعمل سلاحه في قتل نفسه فـ "سلمة" و "الأخرم" و "أبو قتادة" عرضوا أنفسهم لمظنة القتل بيد العدو و لم يعملوا في أنفسهم أي سلاح و لم يشرعوا في قتل أنفسهم ثم إنهم نجوا جميعا و انتصروا فأين هذه الصورة من ما يفتي به الشيخ (رحمه الله) !؟؟..
4-ما فعله هشام بن عامر الأنصاري لما حمل بنفسه بين الصفين على العدو الكثير فأنكر عليه بعض الناس وقالوا : ألقى بنفسه إلى التهلكة ، فرد عليهم عمر بن الخطاب وأبو هريرة رضي الله عنهما وتليا قوله تعالى ( ومن الناس من يشرى نفسه ابتغاء مرضات الله ..) الآية مصنف ابن أبي شيبة ( 5 / 303 ، 322 ) سنن البيهقي .
قال (المصنف) : و ما فعله هشام رضي الله عنه مطابق لما فعله الأصحاب رضي الله عنهم في ما روته الأخبار آنفا و ليس فيه أيضا أية حجة للشيخ (رحمه الله).
5- حمل أبو حدرد الأسلمي وصاحباه على عسكر عظيم ليس معهم رابع فنصرهم الله على المشركين ذكرها ابن هشام في سيرته وابن النحاس في المشارع( 1 /545).
(قال المصنف) : و هنا أيضا حكاية أخرى لمن عرضوا أنفسهم لمظنة القتل و انغمسوا في العدو و نجوا و انتصروا بفضل الله تعالى و تلحق بما سبقها من الأحاديث التي استشهد بها الشيخ (رحمه الله) و التي لا حجة له فيها.
6- فعل عبدالله بن حنظلة الغسيل حيث قاتل حاسراً في إحدى المعارك وقد طرح الدرع عنه حتى قتلوه ، ذكره ابن النحاس في المشارع ( 1 / 555 ).
قال (المصنف) : من انغمس في العدو فقد عرض نفسه لمظنة القتل بيد العدو فإما نجا كما في الأمثلة السابقة و إما فاز بالشهادة كما جرى لـ "حنظلة" رضي الله عنه و لمن سبقه من الصحابة رضوان الله عليهم و ليس في هذه القصة ما يشير إلى إعمال "حنظلة" رضي الله عنه لسلاحه في نفسه ؟؟!.
نقل البيهقي في السنن ( 9 / 44 ) في الرجل الذي سمع من أبي موسى يذكر الحديث المرفوع : الجنة تحت ظلال السيوف . فقام الرجل وكسر جفن سيفه وشد على العدو ثم قاتل حتى قتل.
قال (المصنف) : تاريخنا مشحون بآلاف القصص عن المجاهدين الذين باعوا أنفسهم لله فانغمسوا في العدو حاسرين مظنة الشهادة بيد العدو و بسلاح العدو و ليس في أي منها قصة واحدة عن واحد منهم أعمل سلاحه في بدنه فقتل نفسه بنفسه ، و لم نسمع أن أحدا من الفقهاء أو العلماء أو المفسرين روى هذه الأخبار تحت وصف "جواز أن يقتل المسلم نفسه" !!.
8- قصة أنس بن النضر في وقعة أحد قال : واهاً لريح الجنة ، ثم انغمس في المشركين حتى قتل . متفق عليه
قال (المصنف) : أما هذه الأخبار و الأحاديث الشريفة فهي حجج على الشيخ (رحمه الله) و ليست له بحال فإنها جميعا تشير إلى جواز الانغماس في العدو أي (تعريض النفس للتلف المظنون على يد العدو) و كل ما في الأمر أن هذا الانغماس يرفع من درجة توقع التلف إلى أعلى ما يمكن و لكنه ليس بالتأكيد إعمالا لسلاح المسلم بنفسه في نفسه ليتلفها بيقين.
ثالثا - الإجماع :
نقل ابن النحاس في مشارع الأشواق ( 1 / 588 ) عن المهلب قوله : قد أجمعوا على جواز تقحم المهالك في الجهاد ، ونقل عن الغزالي في الإحياء قوله : ولا خلاف في أن المسلم الواحد له أن يهجم على صف الكفار ويقاتل وإن علم أنه يقتل .
ونقل النووي في شرح مسلم الاتفاق على التغرير بالنفس في الجهاد ، ذكره في غزوة ذي قرد.
هذه الحوادث السبع السابقة مع ما نُقل من الإجماع هي المسألة التي يسميها الفقهاء في كتبهم مسألة حمل الواحد على العدو الكثير ، وأحيانا تسمى مسألة الانغماس في الصف ، أو مسألة التغرير بالنفس في الجهاد .
قال النووي في شرح مسلم باب ثبوت الجنة للشهيد ( 13 / 46 ) قال : فيه جواز الانغمار في الكفار والتعرض للشهادة وهو جائز بلا كراهة عند جماهير العلماء .
ونقل القرطبي في تفسيره جوازه عن بعض علماء المالكية ( أي الحمل على العدو ) حتى قال بعضهم : إن حمل على المائة أو جملة العسكر ونحوه وعلم وغلب على ظنه أنه يقتل ولكن سينكي نكاية أو يؤثر أثرا ينتفع به المسلمون فجائز أيضا ، ونقل أيضا عن محمد بن الحسن الشيباني قال : لو حمل رجل واحد على الألف من المشركين وهو وحده لم يكن بذلك بأس إذا كان يطمع في نجاة أو نكاية في العدو ، تفسير القرطبي 2 / 364.
ووجه الاستشهاد في مسألة الحمل على العدو العظيم لوحده وكذا الانغماس في الصف وتغرير النفس وتعريضها للهلاك أنها منطبقة على مسألة المجاهد الذي غرر بنفسه وانغمس في تجمع الكفار لوحده فأحدث فيهم القتل والإصابة والنكاية .
قال (المصنف) : أما حكاية الإجماع التي رواها الشيخ (رحمه الله) هنا استقلالا فهي من باب تحصيل الحاصل فلقد تلقى علماء الإسلام جميعا هذه الأخبار بالقبول و منها : أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه و سلم يوم بدر " ما يضحك الرب من عبده ؟ قال : أن يغمس يده في العدو حاسرا ، فألقى الدرع التي هي عليه فقاتل حتى قتل " و معلوم أن النصوص الثابتة المحكمة مقدمة على الإجماع في الاستدلال و لا يوجد في ما نقله الشيخ (رحمه الله) أي دليل على إجماع مستقل يبيح للمسلم إعمال سلاحه في نفسه.
و حتى في الجهاد عموما فإن الأصل أن المسلم يجب عليه يحرص على سلامة نفسه و ماله من التلف و لا يجوز له أن يتهاون في ذلك و لا استثناء لهذا الأصل إلا بدليل و نص قاطع و يجب على المسلم التوقف في الاستثناءات عند حدود النص ، و لقد جاءت نصوص الكتاب و السنة التي تندب المسلمين إلى الجهاد استثناء لهذه القاعدة (الحرص على السلامة) و تضمنت هذه النصوص حدا مستقرأ في مجموع هذه النصوص و هو :"تعريض النفس و المال للتلف بيد العدو ، مع الحرص على الدفاع عنهما بكل ما هو ممكن و متاح في نفس الوقت بما لا يعطل القدرة على القتال و النكاية في العدو" و الفريضة التوقف في تعريض النفس و المال للتلف في الجهاد عند هذا الحد و لو كان استثناء نصوص الأمر بالجهاد بندب إلى مجرد "التعرض للتلف في النفس و المال بيد العدو" لما جاز للمسلم أن يلبس درعا أو حتى أن يقاتل العدو بسلاح بل أن يقدم نفسه و ماله طعاما لسلاح العدو و بأسه بحجة الحرص على الشهادة و هذا لا يدل عليه استقراء النصوص و لا يقبله عاقل بحال و إتلاف نفس المسلم و ماله في الجهاد بيده و بفعله و بنفسه ليس داخلا في الحد الذي حدته نصوص الأمر بالجهاد من باب أولى و لو وافقنا على إطلاقات الشيخ (رحمه الله) فسيتغير معنى الجهاد كله و سيصير انتحارا و قتلا لا نصر فيه و لا ظفر بل لا يفضي إلا إلى موت المجاهدين و تلف أموالهم بأيديهم هم إن لم يحصل بيد العدو و هذا هو لازم تفسيرات و استنتاجات الشيخ (رحمه الله) و نحن و إن كنا لا نلزمه بلوازم قوله إلا أننا نجزم ببطلان قوله نتيجة لبطلان لوازمه بيقين.
وقائع وحوادث تنـزل عليها العمليات الاستشهادية :
أولا مسألة التترس :
فيما لو تترس جيش الكفار بمسلمين واضطر المسلمون المجاهدون حيث لم يستطيعوا القتال إلا بقتل التُرس من المسلمين جاز ذلك ، قال ابن تيمية في الفتاوى ( 20 / 52 ) ( 28 / 537، 546) قال : ولقد اتفق العلماء على أن جيش الكفار إذا تترسوا بمن عندهم من أسرى المسلمين وخيف على المسلمين الضرر إذا لم يقاتلوا فإنهم يقاتلون وإن أفضى ذلك إلى قتل المسلمين الذين تترسوا بهم .. اهـ ، وقال ابن قاسم في حاشية الروض ( 4 / 271 ) قال في الإنصاف : وإن تترسوا بمسلم لم يجز رميهم إلا أن نخاف على المسلمين فيرميهم ويقصد الكفار وهذا بلا نزاع .
ووجه الدلالة في مسألة التترس لما نحن فيه أنه يجوز للتوصل إلى قتل الكفار أن نفعل ذلك ولو كان فيه قتل مسلم بسلاح المسلمين وأيدي المسلمين ، وجامع العلة والمناط أن التوصل إلى قتل العدو والنكاية به إنما يكون عن طريق قتل التُرس من المسلمين فحصل التضحية ببعض المسلمين المتترس بهم من أجل التوصل إلى العدو والنكاية به ، وهذا أبلغ من إذهاب المجاهد نفسه من العمليات الاستشهادية من أجل التوصل إلى العدو والنكاية به ، بل إن قتل أهل التُرس من المسلمين أشد لأن قتل المسلم غيره أشد جرما من قتل المسلم لنفسه ، لأن قتل الغير فيه ظلم لهم وتعدٍ عليهم فضرره متعد وأما قتل المسلم نفسه فضرره خاص به ولكن اُغتفر ذلك في باب الجهاد وإذا جاز إذهاب أنفس مسلمة بأيدي المسلمين من أجل قتل العدو فإن إذهاب نفس المجاهد بيده من أجل النكاية في العدو مثله أو أسهل منه ، فإذا كان فعل ما هو أعظم جرما لا حرج في الإقدام عليه فبطريق الأولى ألا يكون حرجا على ما هو أقل جرما إذا كان في كليهما المقصد هو العدو والنكاية لحديث : "إنما الأعمال بالنيات ."
وفي هذا رد على من قال في مسألة الانغماس والحمل على العدو أن المنغمس يُقتل بأيدي الكفار وسلاحهم ! فنقول ومسألة التترس يقتل بأيدي المسلمين وسلاحهم ومع ذلك لم يعتبروا قتل المسلمين المتترس بهم من باب القتل الذي جاء الوعيد فيه .
قال (المصنف) :قياس جواز نسف المسلم لنفسه بين الأعداء على مسألة جواز الرمي على الكفار إذا تترسوا بأسارى المسلمين قياس فاسد لانعدام وجود العلة المشتركة بين المسألتين ، و لقد أورد الشيخ هنا علة لا وجود لها في مسألة التترس و هي "تحقيق النكاية في العدو" و الواقع هو أن القتال و الرمي أجيز للجيش المسلم - في حال وجود الترس من أسرى المسلمين – لغاية دفع غائلة العدو عن جمع هائل من المسلمين سيتضررون و قد تستأصل شأفتهم إن ترك قتال جيش العدو حرصا على سلامة عدد من أسرى المسلمين فلو أن العدو تترس بهؤلاء الأسرى ليدرك الفرار لم يجز قتاله إن لم يكن هذا القتال ممكنا إلا بالرماية لجهة الأسرى و هذا بالإجماع ، ثم إن الرمي أجيز على شرط أن يستهدف الرماة إصابة العدو فقط و تجنب الأسرى ما أمكن فإن جاء الرمي في الأسرى فهو عفو ، هذا و لم يرد أبدا في ما جاء عمن أجازوا قتال العدو المتترس بأسرى المسلمين أن الرخصة تتضمن استهداف الأسرى استقلالا أو تبعا لاستهداف العدو ، و إذا فـ "إيقاع النكاية بالعدو" ليس بعلة مستقلة في إجازة الرماية على المتترسين بالأسرى و إنما يدخل ضمن علة دفع غائلة العدو و لا يستقل بذاته سببا لجواز القتال إذا لم تخشى هذه الغائلة ، و بالتالي فلا علة مشتركة بين الصورتين و لا وجه للقياس هنا.
أما ما جاء به الشيخ (رحمه الله) من أن قتل المسلم لغيره من المسلمين أعظم جرما من قتله لنفسه فهذا ما لم يسبقه إليه أحد و نجد أن الفقهاء عقدوا فصولا في مصنفات الفقه و قرروا فيها أن جرم المنتحر أعظم من جرم القاتل لغيره و لقد أوردنا آنفا نصوصا من كتبهم في هذا المعنى ، أما مسألة أي المفسدتين أعظم فلا بد لحلها من الاستناد إلى نصوص واضحة و ليس متروكا لمحض لنظر العقلي.
ثانيا : مسألة البيات :
ويقصد بها تبيت العدو ليلا وقتله والنكاية فيه وإن تضمن ذلك قتل من لا يجوز قتله من صبيان الكفار ونسائهم ، قال ابن قدامة : يجوز تبييت العدو ، وقال أحمد : لا بأس بالبيات وهل غزو الروم إلا البيات ، وقال : لا نعلم أحداً كره البيات . المغني مع الشرح ( 10 / 503 ) . ووجه الدلالة أنه إذا جاز قتل من لا يجوز قتله من أجل النكاية في العدو وهزيمته فيقال : وكذلك ذهاب نفس المجاهد المسلم التي لا يجوز إذهابها لو ذهبت من أجل النكاية جائز أيضا ، ونساء الكفار وصبيانهم في البيات قتلوا بأيدي من لا يجوز له فعله لولا مقاصد الجهاد والنيات .
(قال المصنف): أما البيات و مباغتة العدو و ما قد يؤدي إليه من قتل نساء و أطفال و غير مقاتلين فإباحته ليس على الإطلاق و إنما يباح في حروب الكر و الفر و الحروب الطويلة الأمد مثل حروب المسلمين و الروم و الحروب بين المسلمين و العدو الذي أعلم بإعلان الحرب عليه أو المستقر العدواة فلا يغير إمهاله شيئا من أمر عداوته (كالعدو الذي يستعد لغزونا) و لا بد من مباغتته لتحقيق النصر عليه الذي لا بد منه في الحرب و هذا البيات ليس فيه رخصة استهداف النساء و الأطفال استقلالا أو تبعا للعدو بحال و إنما هي تماما كرخصة قتال العدو المتترس بأسرى المسلمين.
و علل هذه الرخصة بعيدة تماما عن المسألة التي يفتي الشيخ (رحمه الله) بجوازها و لا علة تجمع بينها و بين رخصة مزعومة للمسلم أن يقتل نفسه بنفسه يقينا توصلا لمظنة قتل العدو.
قال (الشيخ) : الخلاصة .. دل ما سبق على أنه يجوز للمجاهد التغرير بنفسه في العملية الاستشهادية وإذهابها من أجل الجهاد والنكاية بهم ولو قتل بسلاح الكفار وأيديهم كما في الأدلة السابقة في مسألة التغرير والانغماس ، أو بسلاح المسلمين وأيديهم كما في مسألة التترس أو بدلالةٍ تسبب فيها إذهاب نفسه كما في قصة الغلام ، فكلها سواء في باب الجهاد لأن باب الجهاد لما له من مصالح عظيمة اُغتفر فيه مسائل كثيرة لم تغتفر في غيره مثل الكذب والخداع كما دلت السنة ، وجاز فيه قتل من لا يجوز قتله ، وهذا هو الأصل في مسائل الجهاد ولذا أُدخلت مسألة العمليات الاستشهادية من هذا الباب .
قال (المصنف) : لقد أبيح الكذب في الجهاد و الحرب بنص الحديث الشريف عن النبي صلى الله عليه و سلم و ليس باجتهاد و لا قياس و هو استثناء من قاعدة أصلية بدليل أصلي مستقل ، و لقد تحدثنا عن بطلان القياس على مسألتي التترس و حكاية الغلام لإباحة الانتحار توصلا لقتل العدو.
قال (الشيخ) :أما مسألة قياس المستشهد في هذه العمليات الاستشهادية بالمنتحر فهذا قياس مع الفارق ، فهناك فروق بينهما تمنع من الجمع بينهما ، فهناك فرق بين المنتحر الذي يقتل نفسه جزعا وعدم صبر أو تسخطا على القدر أو اعتراضا على المقدور واستعجالا للموت أو تخلصا من الآلام والجروح والعذاب أو يأسا من الشفاء بنفس خائفة يائسة ساخطة في غير ما يرضي الله وبين نفس المجاهد في العملية الاستشهادية بنفس فرحة مستبشرة متطلعة للشهادة والجنة وما عند الله ونصرة الدين والنكاية بالعدو والجهاد في سبيله لا يستوون، قال تعالى ( أفنجعل المسلمين كالمجرمين مالكم كيف تحكمون ) وقال تعالى ( أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون ) وقال تعالى ( أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون ) . نسأل الله أن ينصر دينه ويعز جنده ويكبت عدوه وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
أملاه فضيلة الشيخ حمود بن عقلاء الشعيبي 2 / 2 / 1422 هـ )) . انتهى
(قال المصنف) : لقد وقع الشيخ (رحمه الله) في خطأ فادح في تفسير حديث (إنما الأعمال بالنيات) ، فهذا الحديث يحدد علاقة النية بالعمل ضمن أصول هي : النية الفاسدة تبطل ثواب العمل الصالح كـ (الرياء) – النية الفاسدة تثبت وزر العمل الفاسد - النية الصالحة تثبت ثواب العمل الصالح – النية الصالحة لا تحول وزر العمل الفاسد إلى ثواب و إنما تنفع في إسقاط الوزر حال العذر بالجهل.
فالمتصدق بالخمر و الخنزير و الميتة لا ثواب له و إن كان ينوي التقرب إلى الله و خير ما قد يناله هو غفران الإعانة على شرب الخمر و أكل الميتة لأنه كان يجهل تحريم ما صنع ، و المنتحر الذي يبتغي قتل العدو و إن كان ينوي التقرب إلى الله و الوصول إلى ثواب الشهادة لا يكون فعله [إذا استند إلى فتوى الشيخ الشعيبي (رحمه الله) بحيثياتها] جهادا مشروعا في سبيل الله و لا تكون وفاته شهادة بحال من الأحوال و إنما نرجو الله تعالى أن يغفر له بجهله و تأويلاته الفاسدة و أن يرحمه و يعفو عن جريمته بقتل نفسه إن كان مستوفيا لشروط العذر بالجهل و هي كثيرة و لها بحوث واسعة.
و الآيات التي أوردها الشيخ (رحمه الله) في الخلاصة لا يوجد فيها ما يدل على أن النوايا الصالحة تصلح الأعمال الفاسدة و تحيل آثام الجرائم إلى حسنات توصل صاحبها إلى أعلى مراتب الجنان العالية و لو سلمنا بما ذهب إليه الشيخ (رحمه الله) لبطلت ضرورة طلب العلم الشرعي و التقيد بالشرائع في تصنيف الأعمال إلى صالحة و فاسدة و لاكتفى الناس بنية التقرب إلى الله في أفعالهم لتصير كلها طاعات و قربات يثابون عليها و لماذا نتعب أنفسنا و ندرس الشرع و ندعو إليه و إلى التقيد به طالما أن الناس مثابون على الطاعات و المعاصي لمجرد نياتهم الخالصة بالتقرب إلى الله السابقة لكل فعل.
و في الخلاصة نقول :
أيها المسلم أيها المؤمن ، إن الله شرع لعباده المسلمين الجهاد في سبيله و أعطى عليه الأجور العظيمة إلا أن شروط قبول هذا الجهاد هو أن يكون خالصا لوجه الله تعالى و أن يكون ضمن الحدود الشرعية التي أنزلها الله تعالى و هي محددة في القرآن و السنة و مبينة بما لا يدع مجالا للريبة في كتب و مصنفات المذاهب الأربعة التي فسرت الكتاب و الآثار ، و تجاوز هذه الحدود خطر عظيم جدا قد يؤدي بالمجاهد إلى وديان الجحيم و العياذ بالله.
أدعوك أيها المسلم الذي عزمت أو نويت على ارتكاب هجمات تزهق فيها نفسك بيدك أو شجعت أحدا على ارتكاب هذا النوع من الهجمات إلى التفكر في هذه النقاط:
1- الإنتحار جريمة كبيرة في الإسلام بل هي أكبر جريمة بعد الكفر ، و مرتكبها لا يمكن له أن ينجو من عواقبها إلا أن يكون معذورا بجهل حقيقي أو بشبهة معتبرة ، و غاية ما سيصل إليه مرتكب هذه الجريمة إن كان معذورا هو أن يتخلص من إثمها و عقاب الله عليها الفظيع المروع -الذي يرتجف القلب من مجرد ذكره - و لا يوجد في الشريعة و الآثار و القرآن ما يدل على أن الجهل أو الشبهة أو سلامة النية أو حتى الاضطرار يمكن أن يقلب إثم الجرائم إلى ثواب أو حسنات فكيف يمكن أن نقبل أن مزخرفات الأقوال لبعض الناس (عامة أو علماء) تصلح حجة عند الله لجعل الجرائم سببا في وصول مرتكبها إلى أعلى مراتب الفردوس؟؟.
2-إن الأدلة التي ساقها كل الذين زعموا جواز الانتحار في القتال توصلا لقتل العدو لا يوجد بينها جميعا دليل واحد يتحدث عن مجاهد من السلف الصالح أعمل سلاحه في نفسه بيده متعمدا ، و إنما ساقوا حكايات عن شجاعة كبيرة في الانغماس بين الكفار و تعرض للتلف بيد العدو و جميع هذه القصص تقريبا نجا أبطالها من بأس العدو.
3- إن شبهة الدليل الأخيرة المتعلق بمسألة جواز رمي الجيش الكافر إذا تترس بأسرى المسلمين لا يوجد فقيه واحد عالجها أقر بأن المجاهد الذي يقتل أحد الأسرى من المسلمين بسلاحه (غير متعمد طبعا) مأجور على قتله هذه النفس المعصومة ، و غاية ما في الأمر أن الاجتهاد وصل على أن هذا المجاهد ناج من إثم قتل النفس المسلمة التي حرم الله.
4- إن النفس إذا أزهقت لا يمكن أن تعود إلا بعد قيام الساعة و أن يغرر المسلم بآخرته فيخاطر بأن يتذوق عذاب الموت خالدا في جهنم في كل ساعة على مدي يوم كان مقداره خمسين ألف سنة لمجرد أنه استمع إلى بعض الفتاوى المدبجة أمر لا يفعله إلا جاهل أو ناقص العقل أو ناقص الإيمان يائس من نصر الله و وعده للمؤمنين بالعزة و التمكين.
القتل ليس عند الله بالأمر الهين و لزوال الدنيا أهون عنده سبحانه من قتل نفس مؤمنة ظلما فكيف بأن يزهق المسلم نفسه بيده؟؟ و لا يمكن الإفتاء أو القضاء في مسألة كهذه لعلها الأخطر على الإطلاق بين المسائل الشرعية بسرعة و تعجل كما فعل الشيخ "الشعيبي" (رحمه الله) في فتواه موضوع هذا الكتاب و كما فعل جميع من أفتى بجواز هذه الهجمات.
و أيضا لا يجوز نشر الفتاوى التي تبيح جريمة كهذه لمجرد استفادة مال أو شهرة أو ممارسة حرية النشر و التعبير لأن هذه الفتاوى قد تسببت في مجازر و جرائم أكثر ضحاياها كانوا من أهل القبلة و لا يسر أحد بمجرد ذكرها في دنيا أو آخرة فكيف بالتورط في ارتكابها أو التحريض عليها ؟؟!!.
5- أنا مستعد لمناظرة أي عالم مسلم يزعم الإجازة في موضع في الشريعة للمسلم أن يقتل نفسه بحال و على الملأ و في أي مكان على وجه الأرض و أن أباهله في حجر الكعبة إن اقتضى الأمر و حسبي الله و نعم الوكيل.
هذا و أصلي و أسلم على المبعوث بالعلم بين رحمة للعالمين يدي الساعة و على آله و صحابته و تابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
تم الفراغ من تدوينه بيد الفقير إليه تعالى عبد الله خليل التميمي غفر الله و لذويه و لمشايخه
و ذلك في ليلة منتصف جمادى الثانية 1430
لهجرة سيد الخلق محمد
صلى الله عليه و سلم.
و الحمد لله رب العالمين.
الأساتذة القائمون على الموقع
ردحذفهذه الرسالة و الفتاوى التي تتضمنهاهي من أخطر ما قرأت و أكثره أهمية و هي تنسف كافة أركان الفكر المتطرف الذي ينتسب إلى الإسلام فأشكركم بحرارة على هذا النشر لدراسة انصفت الإسلام من التشويه الذي أصاب صورته على أيدي الإسلامويين الذين لا علاقة لهم بالإسلام سوى الإسم.
كم أتمنى أن يقرأها كل شاب انتسب أو ينوي الالتحاق بما تسمى حركات إسلامية و أن تصل إلى كل بيت مسلم كما عنون المؤلف و أن يقرأها كل أولئك الذين حاكموا الإسلام كله بسبب فتاوى شاذة و شرذمة اتبعوها.
5- أنا مستعد لمناظرة أي عالم مسلم يزعم الإجازة في موضع في الشريعة للمسلم أن يقتل نفسه بحال و على الملأ و في أي مكان على وجه الأرض و أن أباهله في حجر الكعبة إن اقتضى الأمر و حسبي الله و نعم الوكيل.
ردحذفهذا الرجل يجب أن تتوفر له الفرص لمناظرة مخالفيه علنا فهذا ما سيساعد على تعرية و زيف المتطرفين الذين يتبرقعون بلإسلام و هو منهم براء.
أبو الفضل الطرسوسي