يوم التسامح العالمي .. العراق إنموذجًا/ علي آل طالب

كنتُ أهمُّ في الكتابة عن التسامح العالمي على اعتبار بأن يوم 16 تشرين الثاني / نوفمبر هو اليوم الذي اعتمده المؤتمر العام لليونسكو في دورته الثامنة والعشرين – 1995م، وإعلانه كيوم للتسامح العالمي، تسامح الأديان والإنسان والقانون والأرض، وقد كان من الأجدى بالنسبة لي أن يكون الحديث عامًا ويشمل كافة زوايا الكون طولا وعرضا؛ ليوازي مكانة وقيمة "التسامح" المرجو عالميًّا، إلا أني لم أجد بلدًا كما (العراق) يكون الحديث خاصا به ويختزل المشهد، ويختصر كل الكون، إذ يكون الحديث عنه عابرا لكل الحدود، ومتقاطعًا مع مشاهد صراع الإرادات المتضادة.
وقبل الشروع من تناول حال العراق اليوم باعتباره بلدًا لم يُذق طعم الاستقرار السياسي والأمني وكذلك الاجتماعي بعدُ، ينبغي الإشارة إلى مدى خطورة "التعصب الديني" الذي يقابله "التسامح الديني" مستذكرنين بذلك بعض المحطات التأريخية التي أسست إلى مضمون التسامح بين أصحاب الأديان في المجتمع الواحد وفق محتوى الدولة المدنية بوصفها ضمانة إلى إلى تحقيق مبدأ المواطنة الرامي إلى العدالة والحرية وحفظ الحقوق بين أهل الأديان والمذاهب، تجلى ذلك في "دستور المدينة" الذي تعاهد فيه المسلمون مع اليهود من أجل مكافحة غلواء التعصب وتأمين العيش الواحد والمشترك حسب حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية ما لم تسبب أدنى مضايقة للآخرين، وقد ورد فيها "إن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم..". بل وذهبت المعاهدة لأبعد من ذلك للتأسيس للوحدة والتضامن بين أصحاب الأديان لتشكيل جبهة واحدة للدفاع عن " المدينة المنورة " في حال المواجهة.
والأمر كذلك لا يختلف في المسيحية، وقد ورد في انجيل لوقا وعلى لسان المسيح القول: "أيها السامعون، أحبوا أعداءكم، أحسنوا إلى مبغضيكم.. وادعوا لمن يسؤون إليكم .." . إذن رسالة الأديان هي في الأساس رسالة التسامح والمحبة والسلام، ونبذ كل مظاهر الكراهية والتعصب بين أصحابها. وأعتقد بأن "رسالة التسامح" التي أنشأها جون لوك وهو في المنفى، هي لا تخرج عن الإطار نفسه، حيث التعصب الديني والذي كان سائدا في مطلع القرن السادس عشر في أوربا بين المذاهب المسيحية آنذاك. وقد ذهب لوك إلى تفسير مقاصده من التسامح الديني: بـأنه ليس من حق أحد أن يقتحم باسم الدين، الحقوق المدنية. خلاصة الأمر : أن التسامح لا يقف عن الوعي لدى البشر ، بل ينبغي أن يكون مدعوما بقانون مدني واضح وشفاف وفق مبادئ المواطنة وحفظ الحريات والحقوق، ولا يتأتى مثل ذلك إلا وفق قناعة اجتماعية تكون بمثابة الأرضية التي تترجم معنى التسامح المطلوب.
ومن هذا المنطلق يأتي يوم التسامح العالمي هذا والعراق ما يزال يكتوي بنار العصبية والتطرف وإشاعة الفتن الدينية والطائفية حتى بلغت الأمور ذروتها ببلوغها إلى التصفيات الجسدية وإهدار الدماء، في الوقت الذي والعراق ما يزال يعيش مخاض ولادة دولة القانون والمؤسسات على الرغم من الفاصلة باتت طويلة بين سقوط النظام الشمولي المركزي وظهور ملامح الدولة الحديثة في هذا البلد، وهو رهان المنتفعين؛ المؤدلجين والسماسرة الجدد، حيث كلما طال أمد الفراغ السياسي والمؤسسي هو بالضرورة يعني ارتهانه إلى تطرفين اثنين، ودرجة غلواء أحدهما لا يقل عن الآخر بالرغم من اختلاف المنطلقات والمنهجية. السلفية المتشددة والتي باتت تتباهى شهارا ظهارًا باستباحة الدماء، والبرغماتية الغربية وسلوكها "الميكافيلي" في أن الغاية تبرر الوسيلة، أو العمل بالمبدأ المقلوب .. جلب المصالح مقدم على درء المفاسد!.
وعلى الرغم مما قد يبدو من مناقضة وتعارض ما بين المنهجين إلا أننا لا نكاد نفرق إلى ما يذهبان إليه من مضامين وأهداف، فالسلفي الراديكالي وبفهم خاطيء يتقرب إلى الله زُلفى بقتل الآخر المختلف دينيا أو مذهبيا وأيضا فكريا، بينما الرغماتي الغربي وبفهم خاطيء أيضا نجده قد أمعن في سحق كافة القيم التاريخية والإنسانية، بل حتى العناوين؛ الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان. فالغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية ونتيجة لطبيعة الظروف الدولية والإقليمة ومشروع حماية إسرائيل بالدرجة القصوى لم يعد متحمسًا – كما في السابق – إلى المدرسة المثالية في تبني فكرة نشر الديمقراطية في العالم العربي بقدر ما هي أكثر مقاربة للمدرسة الواقعية والتي تُغلب اعتبارات الأمن والمصالح على قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان، بكلام آخر: الوقوف والمؤازة للحكومات والأنظمة على حساب الشعوب والمجتمعات. الأمر الذي يقتضي توفير مناخ يساعد على تفشي ظواهر والإرهاب والتطرف!.
إن ما حدث مؤخرًا من استهداف للمسيحين وتعرض بعض المؤمنين من الطائفة الكلدانية للقتل الجماعي في كنيسة النجاة هو تتويج لمسلسل العنف والتطرف في العراق، بل ولا يخرج مثل هذا العمل الإجرامي عن مخطط الفتنة للإيقاع بين المسلمين والمسيحيين من جهة، يأتي هذا الفعل الشنيع بعد أن عجزت كافة المخططات والتدابير من إحداث الفتنة المذهبية بين الشيعة والسنة، وإلا فمسلسل العمليات الانتحارية والإجرامية في حق المسلمين الشيعة بالتحديد لم يتوقف بتاتًا، بل إن الإرهاب لم يستثنِ طائفة دون الأخرى، ليضع كل العراقيين في دائرة الاستهداف، والمراهنة على أن يبقى العراق بلدًا ممزقًا يعيث فيه المخربون والإرهابيون وأصحاب المنافع فسادًا وتخريبًا ودمارًا.
ثمة تقاربٌ نفعي بين المنهجين عندما ينزعان باتجاه التطرف "السلفية والليبرالية" خاصة عندما يدخلان في مسار خلاصي متطرف، عندها يصبح كل شيء مستباحاً، ويكون قتل الأبرياء جزءًا من فلسفة الخلاص وتحقيق العظمة، حتى لو تطلب الأمر الوصول إلى المطلوب بأي وسيلة كانت، فالإرهابي ما كان له أن يُقدم على تفجير نفسه إلا لقناعة لديه بأنه يمتلك "الحقيقية المطلقة" وهو بهذا العمل يحقق ما أراده الله -عزَّ وجلَّ- ولا يختلف الأمر بالنسبة لمن يأخذ بالميكافيلية منهجا لتحقيق غاياته؛ فشخص مثل هنري كسنجر لم يخفِ نزعته باتجاه الواقعية وتشجيعه وعبر مقالاته العديدة لغزو العراق أو أفغانستان أو لبنان، فهو الذي آزر مذابح تشيلي بتأييده للجنرال أوغستو بينوشيه في انقلاب 1973م على الرئيس المنتخب سلفادور ألليندي، وأن يقيم ديكتاتورية الولاء لأمريكا على حساب الديمقراطية هناك.
عودًا على بدء يظل ميثاقية التسامح هي خشبة الخلاص بين أصحاب الأديان و أهل المذاهب، وبالرغم من تتباين ملامح العصبية والتعصب من مجتمع عن آخر، وذلك وفق صيرورة السياسة وتمظهرات الحراك الاجتماعي لبيئة عن أخرى، وقد تأخذ هذه العصبية أشكالا فارطة في التطرف، إلا أن ذلك لا يعفنا من التوسل بالتسامح بوصفه نقيضا لها، لا سيما وفي ظل المتغيرات المتلاحقة بات الإنسان اليوم بأمس الحاجة للتواصل أكثر منه القطيعة، وللتضامن أكثر منه الانعزال، الأمر الذي يستدعي جملة من الأخلاقيات في العلاقة مع الآخر المخلتف لغة وعقيدة ومعرفة, وتستوجب القبول بهذا الآخر؛ وفق معطيات الإثراء والتعدد والتنوع في المجتمع الواحد، لذا لا يكون التسامح واجبًا أخلاقيًّا فحسب، بقدر ما هو أيضا معطىً قانوني وسياسي!.
استراتيجية الأخذ بالتسامح تسلتزم محاصرة العصبيات وما يؤدي إلى الكراهية والغلو والتطرف، وتعزز في المقابل كل ما من شأنه أن يرسخ مفاهيم العيش الواحد والمشترك، من خلال التوسل بالعقلانية باعتبارها معيارًا وازنًا لوضع الأمور في إطارها الصحيح إزاء العديد من الأفكار والآراء المتداولة والتي تحمل في طياتها الكثير من الرسائل الملغومة والمفخخة، وإلا فثمة فرق كبير بين النص الديني المقدس والفهم البشري القابل للنقض، وبكلام آخر: إن الفكر الأحادي والعقلية الاثنية وصيرورة الاصطفاء والتمايز والإقصاء ما كان ينبغي أن تتنفس وتشتشري لولا أنها وجدت تلك البيئة الحاضنة التي تحتمي بها. وعلى أثر ذلك يجدر بنا إعادة النظر في المنهجية والأداء لما يطلق عليه بالتسمية بروافد الثقافة وتشكل الوعي الاجتماعي، بدءًا من التعليم ومرورًا بالإعلام وانتهاءً بالخطاب العام.
بطبيعة الحال إن مساعدة العراق على تخطيه هذه المحنة لا يعني بأن الدول المجاورة له هي بمعزل عنها، أو أنها لا تنعكس بالسلب على العالم العربي، إنما تناولنا للعراق باعتباره بلدًا ما يزال يبحث عن مضمون الدولة وسيادة القانون، وإلا فهناك من الدول العربية بالذات لا يقل عما يحدث فيه مثل ما يحدث في العراق. وما المسعى في نشر ثقافة التسامح في العالم العربي إلا من قبيل الحاجة لذلك، خاصة وأنها من صميم الأديان، فضلا عن اتساقها وفلسفة العلاقة بين بني البشر، وفق أواصر المحبة والإخاء والسلام، وبموجب استدعاء كافة العناوين الديمقراطية، كالحرية والعدالة والمساواة وحقوق الإنسان.
العراق اليوم وفي ذكرى يوم التسامح العالمي بات بأمس الحاجة أكثر من ذي قبل إلى كل ما من شأنه أن يعزز لغة التواصل الاجتماعي حسب تقنيات الحوار المتنوعة والتي تتبدى في أشكال وفعاليات مشتركة، تجمع أهل الأديان والمذاهب مع بعضها البعض وفي مناسبات عدة بما يحقق مضمون التوافق والتضامن الشعبي، وذلك وفق ضابطة التسامح الديني والاجتماعي والسياسي، فإن أبسط ما يستطيع العراقيون القيام به في هذا اليوم أن ينتهزوا هذه الفرصة ويستثمروها؛ ليقف المسيحيون مع المسلمين – والعكس صحيح أيضا- جنبا إلى جنب في احتفائية واحدة ومشتركة على هيئة تضامن شعبي واحد، تجمعهم المناسبة، ويوحدهم الموقف، يوم التسامح العالمي، ويوم عيد الأضحى المبارك. لأجل أن يُدق المسمار الأخير في نعش الفتنة والتطرف!.

– السعودية
مركز آفاق للدراسات والبحوث

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق