البابا بندكتوس السادس عشر اعلن الأب بشارة ابو مراد مكرماً

 

اعلن البابا بندكتوس السادس عشر الأب المخلّصي بشارة ابو مراد مكرماً.
والأب ابو مراد الذي كان يحمل اسم سليم ولد في زحلة عام سنة 1853.
دخل سليم إلى دير المخلّص في جون الشوف، مساء 7 أيلول 1874، وكان له من العمر 21 سنة، فلبس ثوب الابتداء في 19 أيلول من السنة نفسها، ودُعي باسم بشارة.
إرتسم الشماس بشارة كاهنا في اليوم الثاني لعيد الميلاد، في 26 كانون الأوّل 1883.
في 8 تشرين الثاني من السنة 1891، صدر أمر انتقال الأب بشارة إلى دير القمر، فما كان منه إلاّ أن "حمل فراشه ومشى" إلى قرى ودايا دير القمر: سرجبال، وادي بنحليه، بنويتي، وادي الدير، وادي دير دوريت.
وطالت خدمته أيضاً قرى أخرى امتدّت من المختارة جبلاً حتّى الدامور ساحلاً.
في 26 شباط 1923، نُقل الأب بشارة نهائيًّا إلى دير المخلّص للاستراحة الأخيرة.
واسلم الاب مراد الروح صباح سبت الأموات الواقع في 22 شباط من العام 1922.
وكان وكيل الرهبنة المخلصية لدى الكرسي الرسولي ومرافع دعوى الأب بشارة ابو مراد لدى مجمع دعاوى القديسين في روما الأب سليمان ابو زيد كشف لـ"النشرة" في حديث سابق انه عند اعلان الأب ابو مراد مكرما سيقام احتفال في لبنان، لافتا الى ان للأب بشارة الكثير من الشفاءات ولكن لم يتم توثيقها طبيا جميعا كما يلزم.
**
سيرة الأب بشارة أبو مراد

عائلته

ولد سليم جبور أبو مراد في زحلة سنة 1853 والده من أسرة متوسطة الحال، عُرِف بسمعته الطيبة وإستقامته. أمّا والدته اليصابات بطرس القش فقد إمتازت بتقواها وعقلها الراجح وعنايتها بتربية أولادها الخمسة (مراد ، سعدى ، سليم ( بشارة)، مريم وسليمان). كانت العائلة تسكن في بيت لها بجوار كنيسة مار الياس المخلصيّة وقد أعطت عائلتا الأب والأم الكنيسة ولا سيما الرهبانية المخلصية مطرانًا وهو المطران بولس أبو مراد وكهنة كثيرين كانت لأمثلتهم البذار الأول في دعوة الأب بشارة الى الكهنوت والرسالة والقداسة السامية، في هذه البيئة وبتأثير هكذا عائلة، ولِدَ الاب بشارة

فترة الصبا

على مثال الطفل يسوع، كان الصغير سليم ( الاب بشارة) " ينمو في الحكمة والنعمة والقامة أمام الله وأمام الناس" متأثرًا بأمّه مشبّعًا من تعاليمها، فظهر فيه مع صغر سنّه ميل قويّ الى الصلاة وحنين الى الصمت والاختلاء. وهذا ما شهدت به شقيقته سعدى بقولها "كان في السابعة من عمره عندما دخل مدرسة كنيسة مار الياس المخلصية، ومنذ أيام دراسته الأولى كسب محبّة معلميه ورفاقه، إذ بدت عليه دلائل الحشمة والتعقّل والرزانة. لم يكن أحد يجرؤ في حضرته على حديث لا يرضاه. تجنّب اللعب الخشن وقد اعتاد استغفال رفاقه في الملعب لينفرد في الكنيسة. تفوّق على أترابه في صفّه وأخذ يستوعب ما يلقى عليه من الدروس. كما برع في بادئ اللغتين الفرنسية والعربية، تعلم غيبًا مختصر التعليم المسيحي ولا شكّ بأن تقوى وغيرة معلّمه الشماس ديمتريوس قزع المخلّصي، قد تركا في نفس الفتى سليم تأثيرًا بالغ. انتقل الى مدرسة دار المطران في زحلة، فأحاطه الأب بطرس جريجيري بمحبة كبيرة لتقواه ونضوجه، وأخذ يسطحبه في زيارته الراعوية ويتشاركان في الصلوات والأعمال التقوية مما ساعد في توضيح صورة الكاهن القديس في نفس الفتى ومن استصغار الدنيا وجنون الشباب

الى دير المخلّص

عزم الفتى سليم ( الاب بشارة) البالغ العشرين من العمر على التكرس الكامل الله عبر دخوله الدير، بعدما نضجت لديه نعمة الله، بتأثير من مناخ البيت وجو المدرسة، وتوفرت لها استعدادات الرضى والطاعة بداخله. طرح الموضوع على والدته لتكون همزة الوصل بينه وبين والده لكن لم يلقَ موافقة والده، إلاّ أنّ وساطة أمّه الملحّة أقنعت والده فأذن له أن يعمل ما يشاء، تهللت نفسه فرحًا وتوجه الى الدير في ١ أيلول ١٨٧٤. طبعًا إن سليم لم يكن غريبًا عن دير المخلص لأنه تربّى تحت نظرهم في مدرسة الحارة وله أقارب منهم. ودّع أهله وركِبَ الجحش طالبًا الدير، شوقه اليه كان يسبقه بمسافات. لدى وصوله سار حالاً الى الكنيسة، فراعته زينتها وجمالها: المعبد الخاشع يتلألأ بأنوار الشموع، يعبق بالبخّور، تتردّد في حناياه الترانيم البيزنطيّة الفخمة: إنّه احتفاءُ الرهبانِ الأفاضل برئيسهم العام الجديد، الأب سمعان نصر. وأنس بجو الاحتفالات التي شهدها فيها فكانت الليلة الاولى له في الدير غير الليالي التي عاشها كأنها حلم لا ينتهي. وما زاده بهجتًا وسرورًا هو زيارة البطريرك يوسف سيور ليحتفل بعيد ميلاد العذراء وأيضًا وجود البطريرك اكليمنضوس بحوث الشهير بتقواه واماتاته الذي استقال من كرسيّه, ليقيم في الدّير راهباً متزهّدًا مصليًا. وقضى سليم في هذا الجو أعذب أوقات الصمت

سيامة الأب بشارة ابو مراد كاهنا

كانت ساعة رهيبة في حياة الأخ بشارة أبو مراد عندما تقرّر أن يكون كاهنًا للرب. فقد تأمّل طويلاً في هذه المهمّة فارتجف من عظمتها وحاول التهرّب من مسؤوليّتها الجسيمة. مرارًا كثيرة طالع كتاب "الكنز الثمين" الذي كتبه البطريرك مكسيموس مظلوم عن سير قديسين ارتجفوا من مسؤولية الكهنوت. وكان منهم القديس يوحنا فم الذهب الذي هرب الى البريّة، واختبأ في المناسك خمس سنوات هربًا من ضغط الأهل والأسقف والأصدقاء الراغبين بانخراطه في سلك الكهنوت. فالكهنوت في الحقيقة هو ذبيحة دائمة، واستشهاد يوميّ، هو صعود الى القمم، وابتعاد عن الأرض وما فيها، هو موت بطيء، كما عبّر عن ذلك الأب جان شوفريه بقوله :"الكاهن هو رجل الله يأكله الجميع كل يوم"

رغم عدم رغبته وتخوّفه ، قَبِلَ سليم أبو مراد أن يرتسم شماسًا إنجيليًّا تلبيةً لأمر الطاعة للرؤساء. وكانت هذه بدء زحزحة الخوف من الكهنوت من قبله. وكانت العادة الرهبانية المخلّصية أن يبقى الشّماس الانجيلي والكاهن الجديد مدّة من الزمن في مرحلة تدرّب وتبصّر في المدارس أو في الخدمة في الدير أو في الرعايا مع كاهن فاضل وفطن يرشده الى واجبات الكهنوت العظيمة ويدرّبه على المسؤولية التي يلتزم بها عند تقبّله هذا الوسم الذي يبقى الى الأبد "أنت كاهن الى الأبد على رتبة ملكيصادق" ( مزمور ١٠٩/٤) . لكنّ المسؤولين في الكنيسة والرهبانية استمرّوا يلحّون على الشمّاس بشارة ليصبح كاهنًا للعليّ. لكنّه كان يتمهّل و يقول " أنا ما جئت الى الرهبانية إلاّ لأخلِّص نفسي لا لكي أرتسم ". والرؤساء كانوا يحترمون إرادته لمعرفتهم أن هذا الإصرار على الرّفض إنّما هو دليل واضح عن تواضع عميق، ورهبة حقيقيّة تجاه المسؤولية التي يلتزم بها الكاهن. إنّما مرشده الأب يوسف غنّام الذي بقي أكثر من عشرين سنة رئيسًا للإكليريكيّة واشتهر بأنّه المربّي الصالح للكهنة، شجّعه حتى يتخطّي حاجز الخوف. فالنفوس تنتظر عملة يرسلهم الرّب الى كرمه "لأن الحصاد كثير أما العملة فقليلون" ( لو ١٠/٢). ثمّ إنّ العالم بدأ يتغيّر ويبتعد أكثر فأكثر عن الله، فهو يحتاج الى رسل غيارى لبناء الملكوت. ويا ترى من يعلّم الأولاد الاصغار التعليم الديني؟ ومن يشهد للحقّ أمام زحف دعاة الضلال؟ ومن يشجّع المسيحيين على الصمود في إيمانهم وسط تيارات بدأت تلفحهم بسموم تعاليمه البعيدة عن تعليم الكنيسة. إنّ المسيحيّة بحاجة دومًا الى شهداء والى رسل متطوّعين يحملون البشرى الصالحة، ويذهبون في طريق شاقّ لا بدّ منه للوصول الى السماء. " الويل لي إن لم أبشّر" ( ١ كورنتس ٩/١٦

فخضع الشماس بشارة أخيرًا لضغوطات الرؤساء ولصوت الرّب الملحّ عليه وقَبِلَ أن يرتسم كاهنًَا وصمّم على السير في طريق العذاب والتضحية. فرُقِّي الى درجة الكهنوت في ٢٦/ كانون الاول/ ١٨٨٤. لا نقدر أن ندخل الى أعماق نفس الكاهن الجديد لنكتشف ما شعر به يوم سيامته الكهنوتيّة. لا شكّ في أن ّ قلبه قد رجف واضطرب عندما وضع الأسقف باسيليوس حجّار، راعي أبرشية صيدا ودير القمر ، يده على رأسه قائلاً :" النعمة الالهية التي في كلّ حين تشفي المرضى وتكمّل الناقصين هي تنتدب الشماس الانجيلي بشارة للدرجة الكهنوتيّة". فقد أحسّ أن يد الله أحكمت القبضة عليه. فلم يعد لنفسه، بل أصبح الله الذي دعاه بلسان الكنيسية الى خدمة النفوس. وازداد الأب بشارة رجفةً وتأثّرًا عندما قال له الأسقف : "خذ هذه الوديعة، واحفظها الى مجيء ربّنا يسوع المسيح لأنه مزمع أن يسألك عنها". فالخوف عاد الى قلبه لعظم المسؤولية التي كُلِّف بها. وذكر حينئذٍ كلمة الرب التي وردت في نبؤة حزقيال: "إنّي جعلتك رقيبًا على الأمم ومن يدك أطلب نفوسهم..."( حزقيال ٣/١٦

في اليوم التالي لسيامته الكهنوتية احتفل الأب بشارة بالقدّاس الأول في حياته. وقد وصف الأب بطرس خرياطي هذا القدّاس بما يلي: "شرع الأب بشارة بتقديم الذبيحة الإلهية على منوال غريب في بابه من الخشوع. فكنّا نراه كأنه ملاك سماويّ لا إنسان أرضيّ، صامدًا على درجة الهيكل، رافعًا يديه الى السماء وشاخصًا بنظره نحو العلاء. فيناجي من هو موضوع محبّته ويخاطب ملائكة السماء، تاليًا صلوات الخدمة الالهية بخشوع دونه دون خشوع. تقوى نادرة لم نراها إلاّ في هذا الإنسان، وكانت تؤثّر فينا غاية التأثير. وكنّا نراه في وقت القدّاس كأنّه مرتفع على الأرض. وعندما نتناول من يده المقدسة القربان الالهيّ، كنّا نشعر بنفوسنا كأننا لسنا من الأرض لفرط الخشوع الذي كان يمازجنا فيه تلك الاونة"

نؤكد بعد أن قرأنا شهادات كلّ الذين عرفوا الأب بشارة سواء في الاكليريكيّة المخلّصية أو في دير القمر أو في وادي الدير أو في دير المخلّص أنّ الأب البار أقام الذبيحة دومًا، وفي كل مكان كما وصفه من شاهده في أوّل يوم بعد سيامته. وبهذا حقّق رغبة مرشده الأب يوسف غنّام : "أرجو أن يكون اخر قدّاس تقيمه في حياتك مثل أوّل قدّاس أقمته بعد سيامتك"

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق