رشا كشان ـ بي بي سي - الخرطوم
بوابة كنيسة الشهيدين في الخرطوم مفتوحة على مصراعيها، أول من رأيت من مجموعة الجالسين بفنائها كاهن الكنيسة بردائه الأسود المميز.
كان القمص فيلوساوث فرج يجلس بشكل غير متكلف مع ثلاثة آخرين يتجاذبون أطراف الحديث وليس على الباب أي حرس يسأل الداخلين أو تعزيزات أمنية تحمي الموقع المقدس.
المشهد ربما يكون غريباً على كنيسة قبطية في مصر المجاورة لكنه أكثر من عادي في السودان. فأقباط البلاد يعيشون تجربة مختلفة في تفاصيلها لم تسفر حتى اليوم عن اعتداء على كنيسة أو استهداف لأحد أبناء الطائفة؛ فما هو السبب يا ترى؟
كنيسة الإسكندرية
خطر في بالي هذا التساؤل وأنا أتذكر حادث كنيسة الإسكندرية. أجابني القمص فرج بأن السبب يعود إلى مساحات الود والوئام الممتدة بين المسيحية والإسلام في السودان.
لكن القارئ للتاريخ القديم والحديث سرعان ما يكتشف بأن هذه المساحات ضاقت أكثر من مرة، أولها في القرن التاسع عشر عندما بسطت الدولة المهدية نفوذها في ربوع السودان كدولة إسلامية وطالبت المسحيين، ابتداء من الأقباط في داخلها وانتهاء بالملكة فيكتوريا ملكة بريطانيا، باعتناق الإسلام.
الملكة فيكتوريا لم تكترث للدعوة التي بعثها لها الخليفة عبد الله التعايشي، ربما لأنها لم تكن تحت إمرة الدولة المهدية، لكن أقباط البلاد في ذلك الحين لم يكن لديهم حل سوى الإذعان لرغبة حاكمهم أو الهجرة أو الموت.
اضطر الكثير منهم لاعتناق الإسلام صيانة لحياتهم ومصالحهم وتزوج بعضهم من مسلمي المهدية حتى مالت بشرة هؤلاء إلى السمرة وقربت ملامحهم من السحنة الإفريقية.
كان مركزهم الرئيسي في مدينة أمدرمان وأُطلق على الحي الذي تمركزوا فيه بحثاً عن الاحتماء بعضهم ببعض بـ"المسالمة". غير أن دخول الاحتلال الثنائي الإنجليزي المصري للبلاد في نهاية القرن التاسع عشر جعلهم يتنفسون الصعداء ويعودوا إلى ديانتهم الأصلية التي حُرموا منها لسنين عدة.
وفي حينها أصبحوا هم من الصفوة المقربة للحاكم في الدوائر الرسمية تاركين بصمتهم في الصيرفة والإدارة والتعليم.
ضيق المساحات
أما ضيق المساحات الآخر الذي تعرضوا له فكان مع تولي ثورة الإنقاذ للسلطة بالسودان عام 1989 حيث يعتبر الباحث في شؤون الأقباط الدكتور نصري مرقص أنها أقسى الفترات التي مرت على الأقباط في التاريخ الحديث حيث فقدت الطائفة عشرات الآلاف من أبنائها الذين آثروا بيع أملاكهم والرحيل بصمت ليحل بهم الرحال في أنحاء أوروبا الغربية وأمريكا وأستراليا وكندا.
"ليست لدينا قوات ضاربة ولا نحمل السلاح" هكذا علق الأب فيلوساوث فرج على ركون الأسر القبطية للانسحاب من أرض الأجداد عندما ضاق بهم الحال.
السبب في رأيه يعود إلى الشريعة الإسلامية التي أعلنها البشير في ذلك الوقت قانوناً لبلاد يدين جزء كبير من أبنائها بالجنوب والشمال بالمسيحية.
غير أن الأقباط "المسالمين" كما وصفهم كاهنهم لم يتخذوا من السلاح وسيلة لهم في المطالبة بحريتهم كما فعل الجنوبيون الذين يدلون بأصواتهم الآن لتفرير مصيرهم. لعل هذا ما جعل تعداد الأقباط بداخل السودان يتقلص ليقل بشكل ملحوظ عن تلك التجمعات الموجودة خارج الحدود.
بوادر القلق تبدو جلية على وجوه من تحدثت إليهم من أقباط هم الأغلبية الساحقة لمسحيي شمال السودان. فالحريات التي كفلتها اتفاقية السلام الشامل لغير المسلمين بالسودان ربما ذهبت أدراج الرياح عند انفصال الجنوب عن الشمال.
قلق
وقد وصل هذا القلق أوجه عندما حذر الرئيس البشير في خطابه بمدينة القضارف بشرق السودان من أن الجنوب إذا ما قرر الانفصال فإن لا دين سيسود في الشمال سوى الإسلام ولا دستور سوى الشريعة.
مها، عضو مجلس إدارة النادي القبطي بالخرطوم قالت لي إنها غير قلقة على مستقبل الأقباط إذا ما قرر الجنوب الانفصال إذ إنها كقبطية لم تُضر قط أو تشعر في يوم بالتضييق عليها كمسيحية. وتضيف: "كل ما أتمناه هو أن أعامل بشكل يحترم إنسانيتي". وعندما سألتها عن شعورها تجاه إيقاف رجال الأمن لحفل عيد الميلاد بالنادي أجابتني بأن المسلمين أيضاً أوقفت حفلاتهم: "أنا لست أفضل منهم".
ليلة عيد الميلاد
عدت إلى كنيسة الشهيدين في ليلة عيد الميلاد لتسجيل القداس؛ حشود كبيرة من الأسر والأفراد قصدت الكنيسة لأداء الصلوات طلباً لرحمة من رحلوا في حادث كنيسة الإسكندرية وأملاً في مستقبل أفضل في أيام مفصلية في تاريخ البلاد.
أقباط السودان الذين يقدّر الأب فرج تعدادهم بثلاثة ملايين خارج السودان وداخله يترقبون كما يترقب كل أبناء الشعب السوداني ما ستفضي له نتيجة استفتاء الجنوب.
كاهن كنيسة الشهيدين لا يرى داعيا لقلق الأقباط لأن الشريعة حتى وإن طُبّقت فهي ستطبق على المسلمين "وليس علينا، فمساحات الود ما زال بها متسع".
لكن الدكتور نصري مرقص غير مستبشر بالخطاب السياسي الذي وصفه بأنه حاد في ما يتعلق بالديانات الأخرى وحذر من أن استمرار النبرة العالية قد يزج بآلالاف من أبناء الطائفة القبطية إلى الخارج من جديد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق