كتاب ومتحدثون وسياسيون ورجال دين يدعّون بأن الشيعة فرسا صفويين غير آبهين لما يحدثه هذا الرأي من خلط تاريخي يشوه جمالية وحقيقة التاريخ العربي ويؤشر إلى جهل من يؤمن به ويدعيه. ولتوضيح جسامة هذا الخطأ سأتكلم بشكل مبسط عن الصفاويين ليعرفوا أنهم لا يستندون إلى معلومة صحيحة تثبتها المصادر الصادقة عن اتهام التشيع بالفارسية مرة، والصفوية أخرى، واليهودية ثالثة.
فمن المؤكد أن علماء الأجناس والمؤرخين اتفقوا أنه لا يوجد فرسا صفويين بالمرة. بلا هناك عربا صفويين وأتراكا صفويين، أما فرسا صفويين فلا، إلا إذا اعتبرنا من سكن منهم بلاد فارس أنهم أصبحوا فرسا، وحينها من العدل أن يمتد هذا الفهم إلى كل القوميات الأعجمية التي اعتنقت أحد المذاهب الأربعة وسكنت أرض العرب وغيرت ألقابها وأسماءها بنفس الأسلوب، فما يقع على الصفويين من قول يقع على غيرهم من الأعاجم، ولكي تتضح الحقيقة سنتحدث أولا عن العرب الصفويين.
الصفويون العرب
الصفويون العرب هم من المسلمات التي لا يجهلها إلا من لا علم له بالتاريخ ولا إطلاع عنده بعلم الأجناس، لأنهم أشهر من نار على علم، عاشوا على وجه التقدير بين القرنين الأول قبل الميلاد والرابع الميلادي في مناطق البادية والحرات الأردنية شمال شرق الأردن وجنوب شرق سوريا على امتداد وادي السرحان وصولا إلى شمال السعودية، وهم من القبائل الرحل التي لم تستقر في مكان واحد [1]
خلفوا وراءهم نمط كتابة عربية يعرف بكتابات "الحرة" أو "البادية" وجدت مختلطة بالنقوش الثمودية التي كانت تستخدم في منطقة شمالي الحجاز وفي الصحارى الشرقية حيث تم اكتشاف أكثر من عشرين ألف نقش حجري مكتوبا بلغة عربية ذات طابع خاص تتكون من ثمانية وعشرين حرفا من الخط العربي الجنوبي المسند، في المنطقة البركانية التي تعرف باسم (الصفا) في منطقة جبل العرب التي تقع في الجنوب الشرقي لدمشق. كما عثر على بعض نقوشهم في منطقة تدمر شمال غرب سوريا، وفي مدينتي صور وصيدا اللبنانيتين
وجد الخبراء في النصوص الحجرية المكتشفة وصفا لطبيعة حياتهم ومنها أنهم كانوا من العرب الرحل وكانوا يربون الأغنام والجمال ويمتهنون الصيد، ومع ذلك كانوا يعرفون الكتابة ومارسوها وتركوا لنا آثارا دلتنا على نمط عيشهم وحياتهم.
والظاهر أنهم لم يتبعوا قاعدة واحدة في تسطير ألواح الكتابة حيث وجد المختصون أنهم يكتبون إما من اليمين إلى اليسار، أو من اليسار إلى اليمين، أو من الأعلى إلى الأسفل كما هم الصينيون.
هناك مصادر ومواقع تحدثت عنهم وعن لغتهم فقالت: (الصفائية أو الصفوية تسمية جامعة لعدد كبير من النقوش المكتشفة في بادية الشام وما جاورها العائدة إلى ما بين 1000 ق.م و 400 م. نسبة إلى تلال صفا الواقعة شرقي اللجاة في حوران هذه النقوشِ غالباً كتبت مِن قِبل الأقوام العربية الساكنة بتلك النواحي. سميت بالنقوش الصفائية نسبة إلى منطقة الصفا. وترجع إلى القرنين الأول والثاني بعد الميلاد• حيث اكتشفت أول مرة عام 1857 في المنطقة الجنوبية الشرقيةِ لسوريا. حتى الآن تم تسجيل 30,000 نقش تم اكتشافه في سوريا والأردن) [2]
تتميز لهجتهم كما الثمودية بأداة التعريف (الهاء) فهم يقولون: (هوزير) يقصدون: الوزير، و (هملك) أي: الملك، اللذان تعرفهما الألف واللام في العربية النبطية.
إذن نحن نقف أمام قبائل عربية لها لهجتها الخاصة ونمط حياتها وطرائق عيشها سميت (الصفوية) نسبة إلى المكان الذي اكتشفت فيه كتاباتهم والمعروف بـ (الصفا) وسمي أهلها (الصفويون) نسبة إليها. ومن يتهم التشيع بالصفوية إنما يؤكد أكثر مما يطعم على حقيقة عروبته، بما يدل على أن الطاعن إما أن يكون جاهلا بالأنساب العربية أو لا يعرف التاريخ العربي
الصفويون الأتراك
وفي مكان آخر من زوايا التاريخ الإنساني نجد قبائل ليست عربية ولا فارسية وإنما تركية من "الغز" أسماهم العرب أنفسهم بـ (الصفويين) والصفويون واحدة من مجموعة قبائل تركية أذربيجانية غزت إيران وحكمتها. ففي أذربيجان قامت دول تركمانية عديدة منها: الدولة الغزنويه، والأيلخانية، والسلجوقية، والخروف الأسود، والخروف الأبيض، والصفوية، والأفشارية، والقاجارية، وقد حكمت هذه الدويلات طويلا وخرجت من حدود اذربيجان بموجات متعاقبة لغزو البلاد المجاورة حيث سيطرت على إيران وأفغانستان وأجزاء من العراق.
وفي إيران أسس الصفويون طريقة صوفية في منطقة أذربيجان الجنوبية مدينة (أردبيل) الحالية هي امتداد للطريقة الصوفية التي أسسها زعيمهم الروحي "صفي الدين الأردبيلي" سنة650 هجرية/ 1334م في بلاده . وكان صفي الدين الأردبيلي سنيا على مذهب الإمام الشافعي، نجح ومن بعده أحفاده "جنيد" (1447-1450 م) ثم "حيدر" (1460-1488 م) في إنشاء تنظيم سياسي وتكوين وحدات خاصة من الجيش عرفت باسم "القزلباش" [3] وأسهم في الأحداث السياسية في أذربيجان ثم في إيران، وهو ما دعاهم لأن يتحولوا من شيوخ طريقة صوفية إلى دعاة دولة لها طموحات في الحكم، وقد نجح ملكهم "إسماعيل" الصفوي بتأسيس دولة قويه غنية بالموارد والعمران والفنون عام 1501 شملت أذربيجان وإيران وأفغانستان وأجزاء من العراق. [4]
ولأن الطريقة الصوفية الأردبيلية انفتحت على التشيع لأسباب عديدة منها القداسة الكبيرة التي يضفيها الصوفيون على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الذي يدعون أنه أول متصوف في الإسلام، وواضع أسس التصوف الإسلامي، فإنهم بانفتاحهم على التشيع خلقوا لأنفسهم أعداء حقيقيين، حيث وضع هذا القرار الصفويين بين فكي كماشة هم "الأوزبك" السنة في الشرق، والعثمانيين السنة في الغرب، ولاسيما وأن العداء كان فاشيا بين إيران وجيرانها حيث امتدت أذرع العداء إلى الصفويين رغم كونهم أتراكا وليسو فرسا، ومن خلالهم أمتد العداء إلى الشيعة الإيرانيين ثم إلى عموم الشيعة في العالم، حيث نجد السلطان العثماني "سليم الأول" ينبري في هذه المدة تحديدا ليشن الهجمات المميتة على الشيعة في الدولة العثمانية فيقتل الآلاف منهم لمجرد أنهم شيعة [5]. أي أن العداء التركي للفرس أنسحب على الصفويين رغم أنهم أتراك، وكانت اللغة التركية لغة بلاطهم الملكي حتى في عاصمتهم أصفهان التي كانت فارسية الثقافة واللغة.
إن سيطرة العثمانيين على العالمين الإسلامي والعربي روجت سوق العداوة بين المذاهب السنية من جهة والصفويين الشيعة الأتراك لأن الشاه "إسماعيل الصفوي" قرر إعلان المذهب الشيعي مذهبا رسميا لإيران وهو الأمر الذي أثار حفيظة الداخل فضلا عن الخارج حيث (حاول رجال بلاطه ثنيه عن ذلك معتبرين هذا القرار مغامرة خطيرة) [6] ورغم أن الدولة الصفوية انهارت على يد "محمود الأفغاني" بعد موت الشاه إسماعيل بسنتين، إلا أن كرههم لم يختفي من النفوس حتى أن "نادر شاه" حاول إعادة إيران إلى التسنن لكي ينقذ إيران من الصراع الدامي (من خلال سلخها من هويتها الشيعية وإعادتها إلى المحيط السني) [7]
ورغم أن أسباب العداء كانت سياسية وليست دينية إلا أنه لا زال بين المسلمين من لا يريد أن يغفر للصفويين فعلتهم الكبيرة وهي (تشييع إيران) ويعتبر ذلك من موجبات لعنهم وتكفيرهم، وكل ذلك بفعل الحث العثماني الذي رسخ في النفوس والعقول.
الغريب أن الدولة الصفوية التركية الأصل انهارت على يد غزاة أتراك جدد هم قبيلة "الأفشار" الذين أسسوا الدولة الأفشارية، التي سقطت هي الأخرى على يد قبيلة تركية غازية هم "القاجاريون" الذين أسسوا الدولة القاجارية.
ويعني هذا أن الصفويين ليسو فرسا بل هم إحدى القبائل التركية التي استعمرت إيران حقبة من الزمن، ولكونها تؤمن بالتصوف ذلك الفكر المشهور بالتسامح، فقد انجذبت إلى التشيع وأعلنته مذهبا رسميا للدولة لأنها رأته قريبا من توجهاتها الفكرية والعقائدية، ولأن ذلك أزعج الأتراك العثمانيين الذين اعتبروه خروجا على الخلافة الإسلامية التي كان يرون أنهم يمثلونها، فإن كل من هواه عثمانيا لا زال ينتقص من الصفويين الأتراك ويرى أنهم خرجوا من الإسلام بتشيعهم!!
الصفيون الفرس
ومنه نعرف أن لا علاقة للفرس بالصفويين باستثناء أن الصفويين الأتراك استعمروا إيران حقبة من الزمن لا تكفي لأن نطلق على الفرس بموجبها اسم (الصفويين) أو نعمم التسمية عليهم. هذا الاسم يكرره البعض معتقدين أنه يشكل مثلبة للتشيع مع أن فيه دلالة فاضحة على جهل هؤلاء بتاريخ أمتهم وجيرانهم، ويظهرهم وكأنهم لا زالوا حتى هذه اللحظة يتقاضون مصروفهم اليومي من خزانة الدولة العثمانية والباب العالي، ويعيشون بمكرمات الصدر الأعظم العثماني.
كم أتمنى لو أن المسلمين لا يثقون بخبر قبل عرضه على الكتاب والسنة والأكاديميين والمثقفين والعقلاء، سيرا على نصيحة المفكر ابن خلدون في مقدمته ( فلا تثق بما يلق إليك وتأمل الأخبار واعرضها على القوانين الصحيحة يقع لك تمحيصها بأحسن وجه) [7] وتبعا لقاعدة الفيلسوف "هيغل" الذي اعتبر (الحيادية) أول شرط يجب مراعاته في نقل الأحداث فضلا عن خلو النقل من الأفكار والاختراعات الذاتية[8] وتساوقا مع قول الدكتور محسن عبد الحميد: (والدراسات العلمية المنهجية لأنماط المذهبيات التي سادت المجتمعات البشرية وقادتها في الاتجاهات المختلفة تضع عقولنا وأحاسيسنا أمام الحقيقة الكبرى وهي: إن المذهبية التي ارتضاها الإسلام لبناء الحياة وتوجيه الحضارة وتربية الإنسان في ظلها هي المذهبية المثلى ... ولذلك فإنها أنتجت من القيم والتصورات والركائز الحضارية الممتزجة المجتمعية ما لم تنتجها أية مذهبية أخرى) [9]
فلماذا نتفاخر بأننا نتفاعل مع فكر القرن الحادي والعشرين في وقت نتمسك بقشور التاريخ التي أضفاها عليه السلطويون عنوة، ونحن نعرف أنها اختراعات جاءوا بها ليحافظوا عن طريقها على كراسيهم التي قادت الإسلام إلى الأزمات الدموية التي أفقدته بريقه؟ لقد نجح شاعر العراق الكبير يحيى السماوي [10] في توصيف هذه الحالة من الازدواجية المفرطة بقوله:
قدمي وتَدٌ
في بستان القرن ِ الحادي والعشرينْ
لكنْ رأسي
مازالَ يُنقّبُ في دفتر أمسي
عن وقعة ِ " صِفّين ْ "..
كيف إذن سيضوع الخـبـزُ
وينضجُ في البستان ِ الـتـيـنْ؟
الكلُّ متّهمٌ أمامَ الله ِ في يوم ِ القيامةْ:
جيشُ الخليفة ِ..
والخليفة ُ..
والعِمامة ْ
الهوامش
[1] ينظر الرابط http://lahajat.maktoobblog.com/1359045/%D8%A7%D9%84%D9%84%D8%BA%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D9%81%D9%88%D9%8A%D8%A9/
[2] موقع "معجم اللهجات في المملكة العربية السعودية"
[3] القزلباش أو الرؤوس الحمراء نسبة إلى التاج أو العمامة الحمراء أو الطربوش الأحمر الذي كان يرتديه أتباع الطريقة الصفوية
[4] ينظر كتاب نشوء وسقوط الدولة الصفوية، كمال السيد، ص 16
[5] ينظر: الشيعة والدولة القومية، حسن العلوي
[6] نشوء وسقوط الدولة الصفوية، كمال السيد، ص 17
[7] المقدمة، ابن خلدون
[8] مشكلة الحق في الفلسفة الهيغلية،روزين حسن شيخ موسى
[9] الإسلام والتنمية الاجتماعية، محسن عبد الحميد، ص 23
[10] الشاعر العراقي الكبير يحيى السماوي في قصيدته المعنونة (يا مئذنة العفة)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق