سندرس الأركان الخمسة للإسلام دراسة تعتمد السيميولوجيا، علم الأعراض، وسنماثل –أو نكاد- اللساني كلود بريمون في دراسته "منطق الممكنات السردية" مجلة كومينيكاسيون 8.
1- الشهادتان (أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله)
تنقسم الدراسة الأعراضية لهذا القول إلى قسمين، الأول التحليل التقني: التقنية ذات حدين الشهادة بالله والشهادة بمحمد، الله ومحمد كعنصرين للإيمان أحدهما متوقف على الآخر، ودون أحدهما ينتفي الآخر، ولا يكون هناك مكان للإيمان. عند هذا المستوى هناك إقرار لفظي بالوحدانية (لا إله إلا الله) وبالرسولية (محمد رسول الله)، واللفظة "أشهد" غير المكررة تنهل من المنطق الممكن للإسلام، والذي موضوعه في هذا الركن الأول من الأركان الخمسة الإيمان وليس العبادة كما اعتادت بعض المراجع الدينية قوله.
الثاني البحث عن القوانين التي تحكم عالم الشهادتين: تعكس هذه القوانين الضغوطات المنطقية التي تتطلب الأخذ بعين الاعتبار كل الأحداث السابقة عليها وإلا كانت غامضة، ونقصد بالأحداث السابقة عليها ليس فقط الإيمان بأكثر من إله من آلهة مكة ولكن أيضًا إله المسيح في ثوبه الثلاثي (الأب والابن والروح القدس) وإله اليهود وحتى الآلهة القدامى الذين كانوا للرومان والإغريق والمصريين إلى آخره. إلى جانب أنها تضفي إلى هذه الضغوطات المنطقية الأعراف السائدة في عوالمها الخاصة، ثقافتها، زمنها، أدبها...
خلاصة
المنطق الممكن لقول الشهادتين، السردي، لا يلزم أحدًا، لهذا هو ممكن لا مؤكَّد، فكم من قائل للشهادتين لم يلتزم بهما، وكم من قائل للشهادتين أخفى بهما ما يضمر، عدم دفع الخراج مثلاً أو الحيلولة دون التهديد الإثني يهودي صابئي نصراني أو الوصول إلى المناصب العليا في الدولة إلى آخره، وهنا القائمة طويلة تبدأ بأهل الذمة وتمضي بإسبان الإندلس يهودًا ومسيحيين وغير مسيحيين ولا تنتهي "بملحدي" عصرنا الذين ولدوا مسلمين. كما أن ما يحكم عالم الشهادتين من قوانين ليس ثابتًا، فالضغوطات تتجدد ولن تنتهي، والإيمان وحده لا يكفي، لهذا جاء الركن الثاني، الركن العملي للإيمان، ألا وهو الصلاة، وهنا ننتقل من الإيمان إلى العبادة.
2- الصلاة (إقامة الصلاة)
تبعًا لخريطة الممكنات المنطقية يصبح بالإمكان دراسة عوالم ركن الصلاة حسب ترتيب يقوم على الخواص البنيوية، العبادة أهمها. هذه العبادة كخاصة بنيوية أساسية تتضمن أخرى: الحساب، لأن الصلاة أول ما يحاسب عليه الإنسان يوم القيامة. ولهذا كان التواشج البنيوي من أجل تضمين منطق المؤكَّد والإبقاء على منطق الممكن. وذلك لأسباب عديدة أهمها الفروض الخمسة، وهي كثيرة، وبوصفها الأساس الذي تقوم عليه العلاقة بين العابد والمعبود، فالمدلول، الذي هو الله، عليه أن يكون أقوى من الدال، الذي هو العابد، ولن يتحقق ذلك إلا بالإكثار من التعبد عن طريق صلوات تتالى من الفجر إلى العِشاء.
خلاصة
ارتبطت الصلوات الخمس بزمن الدعوة، خمس صلوات لا واحدة ولا اثنتان ولا ثلاثة، زمن مفتوح على بعضه لطوله، وليس كزمننا المنغلق على بعضه لقصره، من هنا يجيء الممكن في منطقها. لكن هناك غايات كثيرة ترمي إليها خمس صلوات كهذه، وأول هذه الغايات الربط المستمر بين العابد والمعبود خوفًا من الارتداد عنه، وهذا الأمر كان شائعًا في زمن الدعوة، أضف إلى ذلك ما كان يقوم به محمد (والصحابة) من توضيح الكثير من الآيات والإجابة على الكثير من الأسئلة، بينما تَجَمُّعُ المؤمنين في "الجامع"، الذي هو المسجد، في زمن يحتاجون فيه إلى التعاضد ورص الصفوف، كان شيئًا ضروريًا بل حياتيًا للمحيط العدائي محيطهم.
3- الزكاة (إيتاء الزكاة)
الإكثار من الصلاة جعل من أهم ركن برأيي من أركان الإسلام بوصفه اقتصاديًا ألا وهو الزكاة يدخل في إطار المنطق الممكن المشروط، فالمال لم يكن في يد كل الناس واحدًا، وكانت طبقة التجار والأغنياء وحدها من يتحمل هذا العبء الذي أخذوا عليه بالمقابل وعدًا إلهيًا بالطهارة والصفح عن الخطايا أكثر ما يمكن تقديمه الدعائي الديني: "خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها". من هذه الناحية تم التخفيف في الطريقة التي تُجنى بها الأموال والتي دونها لن تصمد رسالة محمد لدى الفقراء لدى العامة.
خلاصة
يبقى هذا الركن الوحدة القاعدة لكل الأركان التي عرضناها والتي سنعرضها، وهذه الوحدة كوظيفة بنيوية، لدى العالم الألسني بروب، تُطَبَّق على الأفعال والأحداث المجتمعة في مكان محدد وزمان محدد، وتُوَلِّد "الرفاه"، ما تَعِدُ به الرسالة: شيء قليل على الأرض اليوم مقابل شيء كثير في السماء غدًا.
4- الصوم (صوم رمضان)
في ركن الصوم تلتقي الأركان الثلاثة السابقة لتولِّد متتالية أساسية ذات وحدات ثلاث، فالصوم إيمان وعبادة وعطاء، وهذه الوحدات الثلاث لثلاث مراحل ملزمة لكل صيرورة: أ) وظيفة فاتحة للممكن في الصيرورة، الطاعة والغفران والثواب تلخيصًا للسلوك أو للحدث المتنبأ به. ب) وظيفة محققة لهذه الافتراضية تحت شكل السلوك والحدث الفعليين. ج) وظيفة تقفل الصيرورة تحت شكل النتيجة التي تم التوصل إليها: يصوم الفرد عن الطعام والشراب ويمتنع عن اللغو والنميمة والمعاشرة الزوجية وكل عمل سيء من شروق الشمس (أي من صلاة الفجر) إلى غروبها (إلى صلاة المغرب)، ويقضي طوال يومه في عبادة وذكر وتلاوة للقرآن ودروس علم تعطيه زاداً إيمانياً يكفيه بقية العام (عن ويكيبيديا أركان الإسلام). لنلاحظ أن لا ضامن هناك في العقد الذي يوقعه العابد مع المعبود تمامًا كما هو في مادة الإيمان خلال الدعوة، خلال الدعوة كان الاتفاق على خمس صلوات يوميًا لئلا يفك المعبود العقد من يوم إلى يوم، وعلى مر العصور كان الصوم ضمان الإيمان بالعابد لدى المعبود من عام إلى عام.
خلاصة
المنطق الممكن في كل ما يخص باب الصوم يحتاج إلى الامتثال للوظائف الثلاث كما يقول العالم الألسني بروب كل وظيفة تلي الأخرى وليست هناك حرية الذهاب من واحدة إلى ثالثة أو من ثانية إلى واحدة، إنها ضرورة فعل الصوم في صيرورته. لكن هذا لا يعني عدم إسقاط الصوم على من لا يستطيع عليه كالمريض والمجنون والمسافر، إلا إذا ما قرر هذا أو ذاك "تحيين" فعل الصوم، بمعنى العمل به لا كما يقال فيه. وفي هذا "انتهاك" لشبكة الممكنات، لأن هدف السلوك هنا هو إنجاز صيام ليس ضروريًا، وبكلام آخر إلغاء إفطار مسموح به، فبات الصيام قسريًا، وتعطل المنطق بعد تحوله من ممكن إلى ليس ممكنًا. سأشير تحت هذا الركن إلى أهمية ركن الزكاة، فلولا المال لما أمكن الإفطار. والأمر ذاته بخصوص ركن الحج، لولا المال لما كان للحج منطق الممكن. نؤكد ما قلناه، ركن الزكاة أهم أركان الإسلام، لأن كل هذه الأركان تتوقف بنيتها على الاقتصاد، وكل الرسالة المحمدية ما جاءت إلا بدافع الاقتصاد. الاقتصاد أولاً، والروحانيات ثانيًا، وإن بدت الأولى.
5- الحج (حج البيت لمن استطاع إليه سبيلا)
لهذا الركن، ركن الحج، منطق الممكن كحدث تحت شرط واضح ألا وهو الاستطاعة تبعًا لوسائل المرء المادية، بمعنى أن للحدث احتمال تحققه وعدم احتماله، وبالتالي كل ما يقال عن فرض الله له على كل مسلم بالغ يوصف تحت أفق يغلق صيرورة الحج الذي يلعب الحاج فيها دورًا سلبيًا، وبذلك تُفرغ مصطلحات مثل العبودية والطاعة والصبر من معانيها.
خلاصة
للوصول إلى هدف الحج في صيرورة الحج يجب المضي بصيرورة ثانية تكون للحاج بمثابة وسيلة لتحقيقه، هذه الصيرورة بالطبع هي المال، وأيضًا من أجل هذا يجب المضي بصيرورة ثالثة، هذه الصيرورة بالطبع هي الاستدانة، وهكذا إلى ما لا نهاية، فالحجاج اليوم في معظمهم ليسوا أغنياء، وهم يفعلون كل ما بوسعهم ليحجوا رغم كل النتائج، ليتحول العامل التعويضي (جزائي) إلى عامل عدائي (عقابي).
خاتمة
تتعدد الممكنات المنطقية من ركن إلى آخر كما تتعدد الأعراض، فالشهادتان كركن لا تؤسسان للإسلام دون غيرها من الأركان، وحدها تبدو عليلة، ومع غيرها تتمتع بكل صحتها، لهذا تتنافى الأعراض، وتظل الممكنات. لكن لكل نظام بنيوي منطقه الخاص، والإسلام نظام بنيوي له منطقه، هذا المنطق، كما رأينا، يخضع لارتداد نسقي بين مكوناته أو بين مكوناته ومكونات غيره من الأديان أو الأشكال إذا ما اعتبرنا القصيدة الجاهلية شكلاً من الأشكال الدينية وحكايا ألف ليلة وليلة شكلاً من الأشكال الدينية والتمائم السحرية شكلاً من الأشكال الدينية والابتهالات الوثنية شكلاً من الأشكال الدينية والأغاني للأطفال، أنا لا أقول أغاني الأطفال وإنما الأغاني للأطفال، شكلاً من الأشكال الدينية، وكلها لا بد أن تمضي بعبارة هي دومًا واحدة كالشهادتين، إذن الأمر ليس جديدًا، لكنه يحدد أفلاك الفعل الموائمة للأدوار العديدة المتوخاة، غير المضمونة، لأنها تدور بين قائل الشهادتين وبين نفسه، أي في الحيز الخفي للضمير، وهذا الأمر لا يكلف شيئًا. أنا ألغي هنا مقولة الكذب، فالصدق جائز لدى معظم الذين يؤمنون بالإسلام، ولكني لا ألغي مقولة عدم الصدق، مما يقلل من أهمية الشهادتين، إذ بهما أو بغيرهما الإيمان ممكن كعدم الإيمان. كما أنني ألغي مقولة الإكراه، فالاختيار جائز لدى معظم الذين يؤمنون بكل الأديان، ولكني لا ألغي مقولة عدم الاختيار، مما يشكك بقيمة الشهادتين، إذ بهما أو بغيرهما يلعب الوعي دورًا هامًا، والدين كاختيار شخصي لهو اختيار ليس واعيًا.
الصلاة خمس مرات في اليوم خمس مرات كثيرة في اليوم خمس مرات متتالية في اليوم، في عصر التكنولوجيا والزمن المفقود، الصلاة خمس مرات في اليوم شيء آخر، هنا تتعدى أعراضُها فَلَكَ فعل المصلي إلى المصلى له، تحت منظور تصبح فيه الصلاة نوعًا من الترف الروحي واللاجدوى المريحة، نوعًا من مجانية الفعل. لِمَ كل هذا الخضوع الذي لا يني من طرف العابد للمعبود؟ لرشوة الله، الإله القديم بين آلهة مكة، ثم الإله الوحيد بعد أن انتفت عنه الصفة الوثنية التعددية، وأُبقيت له الصفة الأحادية تحت المفهوم البطريركي الشمولي كخالق مفترض للعباد، والعابد أحدها، الراشيهِ بصلواته، ليرضى عنه، ويحقق مطالبه، لأن ما يدعيه العابد من روحية إلى درجة يتزوج فيها الله، شيء ليس صحيحًا، وإن كان صحيحًا، فالروحية هذه تجيء فيما بعد، في المستوى الأدنى من البنية الفوقية للدين، الأدنى جدًا، فكل هذه الصلوات لا فائدة منها في نهاية المطاف بما أن الله لا يستجيب ولن يستجيب كما يردد الشيوخ ليل نهار منذ مولد المرء إلى مماته لدرجة تجعله يأمل –من يأسه- باستجابته فوق، فيكون مسكنه الجنة.
في ركن الزكاة هناك إعادة تشكيل منطقية لشبكة تشكيل المال الحديثة بنسب وفوائد (في هذا السياق روحية وربانية) وخاصة في كونها ضرائب تؤدَّى كل عام عن دخل محدد بالأرقام. لكن الاقتصاد الرباني هذا يظل بدائيًا، يعتمد على جهاز وقائي، من أعراضه الحيلولة دون الدور الذي من الواجب على الاقتصاديين لعبه في نظام العولمة، جهاز وقائي لنظام رأسمالي رث، أي يعاد به إلى وضعه السابق على الدعوة المحمدية، الوضع الوثني، حيث كانت الأموال تدخل في أيدي تجار قريش ولا تخرج منها –من هنا تأتي تسمية وقائي- وتبقى دائرة بين تجار كبار وتجار صغار (في عصرنا بين الرأسماليين الغربيين والرأسماليين العرب) لاستغلال كل أفراد المجتمع. بسبب هذا الجهاز الوقائي أَحْرَقت في جهنم وبئس المصير السعودية وبلدان الخليج خلال الأزمة المالية السابقة مئات بليونات الدولارات، ولكونها بلدان متوقفة على غيرها مستوردة لا منتجة، من الإبرة حتى المشخخة.
الصوم وحدة الفعل الواحد، دون أعراض مرضية، ربما كانت فيه فائدة من الناحية الجسدية في النهار والروحية في المساء، ولكن يمكن أن يكون في أي يوم رمضان، مع الاحتفاظ بيوم السابع والعشرين تاجًا على رأس كل أيام السنة. أضف إلى ذلك أن الصوم كغيره من أركان الإسلام عادة وثنية، عندما نعرف أن الناس في عهد ما قبل الدعوة المحمدية كانوا يصنعون من التمر أصنام آلهة فيزيقية يعبدونها ويأكلونها عندما يجوعون، وبهذا الفعل كانوا عمليين وواقعيين أكثر من المسلمين اليوم، فالمسلمون اليوم يعبدون إلهًا ميتافيزيقيًا لا يمكنهم أكله، وبدل أكلهم الهواء ينصبون موائد الإفطار كما كانت تنصب في قصور روما الخليعة التي تكلفهم ما لا طاقة لهم عليه والتي تتنافى مع أخلاقيات خادعة في العطاء والتسامح والشعور مع الفقراء. هذا الركن يمثل عبئًا كبيرًا على كل المتدينين من كل الأديان وليس فقط الإسلام عبئًا ماديًا وروحيًا على الرغم من كل المظاهر الكذوبة، أقول كل الأديان، فهناك تماس فضائي وآخر زماني ما بينها كلها، وهناك استتباع تضميني ما بينها كلها، وهناك استدعاء استعاري ما بينها كلها.
أما الحج سيميولوجيًا فأعراضه تشير إلى كونه من أقدم العادات الوثنية قدم الأديان نفسها، الأكروبول شاهد على ذلك، وقبل الأكروبول كل الهياكل قاطبة منذ ما قبل الكلدان، وفي كل الحضارات بما فيها حضارة مايا البدائية، حضارة من فجر التاريخ في أمريكا الجنوبية. والحجُّ سيميائًيا وَحْدَةٌ لفعلٍ متماثل، متكون من عدة أفعال متكاملة، لكنها تدور على نفسها دون توقف، من هنا جاء الطواف حول الكعبة، طواف مدفوع بأعراض حمى الطواف هدف الطواف من أجل الطواف فقط لا غير، والحجر الأسود (حجر نيزكي) ينظر إلى الجميع بحنق دفين، فليس هناك في فعل الطواف أية علاقة تضمينية للنفع الإنساني –كما يقول كلود بريمون- حيث الأحداث التي تجري ليست منتجة، وليست ذات معنى، لأن الأحداث لا تأخذ معناها ولا تنتظم زمنيًا إلا بالنسبة لمشروع إنساني تغوص جذوره في أعماق الأرض لا في أعماق السماء.
باريس الأحد 2012.06.10
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق