سبق وأنْ نشرتُ مقالة إستهدفتُ بها تيسير فهم آيات القرآن الكريم واللغة العربية ثم توقّفتُ لدى إختلافات علماء التفسير في شرح الكثير مما جاء في القرآن من كلمات وفي توضيح معانيها مما أضاع على عموم الناس فُرص فهم القرآن كما أراد محمد ودين محمد الرسول . في مقالتي هذه أواصل ذات المسعى وأنهج عين النهج فأبيّن بالأدلة وبما قال السلف الصالح ممن يُدعون بالأئمة والعلماء وكبار المفسرين ... أبّين للعرب والمسلمين أنَّ بعض جهود البعض من هؤلاء أساءت لكل من اللغة العربية والقرآن الكريم ثم للغة هذا القرآن . لقد واجهتُ العَجب العجاب فيما قرأت في كتابين الأول هو ( مُختَصر تفسير إبن كثير ) [1] للقرآن والثاني للدكتور عبد الحكيم راضي بعنوان ( نظرية اللغة في النقد العربي ) [2] .
اللغة تأريخ وتُراث وشرف الأمّة التي تتكلم هذه اللغة وضميرها وروحها فعلام تساهل البعض مع ما طرأ عليها من تشويهات وتفسيرات بعيدة كل البعد عن منطق وروح وقواعد هذه اللغة ؟ سأعرض على القّراء الكرام نماذج من الخروقات والإساءات لقواعد وقوانين اللغة العربية ثم لمعاني مفردات هذه اللغة بتبريرات سخيفة فيها الكثير من الدجل والنفاق مع سبق الإصرار. موقفي شديد الوضوح : أنْ نكونَ مع لغتنا بحذافير قواعدها ونحوها وصرفها واشتقاقاتها نلتزمُ بها ونُخضعُ لها كل ما جاء في القرآن من آياتٍ وسور وننبذ فذلكات واشتطاطات مفسريه وشارحي معانيه ومبرري ما جاء فيه من أخطاء سواءً في اللغة أو المفردات. ليكنْ معلوماً لنا جميعاً أنَّ اللغة العربية أقدم من القرآن وأنَّ هذا القرآن لم يأتِ إلاّ بهذه اللغة وما كان أمام محمد الرسول إلاّ أنْ يتكلم بها وإلاّ أنْ يقول ما في القرآن بها . اللغة العربية أولاً ثم الدين تالياً . أقول هذا الكلام على مسؤوليتي وأتمنى أنْ يرتضيه علماء الدين الإسلامي وتوابعهم وأنْ لا يعتبرونه إساءة للقرآن والدين وللرسول فما محمد إلاّ بشرٌ كباقي البشر . تطهير وتنقية الدين وكلام القرآن واللغة العربية لا تعني الإساءة للدين والقرآن إنما هي محاولات جادّة نزيهة للإرتفاع بالقرآن ولغة القرآن إلى المستوى الذي يليق بهما ويحقق في عين الوقت الإنسجام المثالي بين لغة القرآن واللغة العربية كما درسناهما وتعلمناهما ورضعناهما من صدور أمّهاتنا وجهود معلمينا الأفاضل ثم جهودنا الشخصية في متابعة اللغة وشروطها ومتطلباتها لأننا نتكلّمها ونكتب بها ولا بسواها فإنها لغتنا الأم وأمّنا اللغة .القسم الأول
مع تفسير إبن كَثير (1)
أبدأ مغامرتي المتواضعة مع كتاب مختصر تفسير إبن كَثير وأسوق الأمثلة وأعرض آراء وتفسيرات عدد من ( أئمّة التفسير ) وأحبار العرب مثل عبد الله بن عباس .
أسألُ الناسَ مُصلّين وغير مُصلين من أمثالي ومن هم على شاكلتي : هل في الفعل سجدَ يسجدُ سجوداً إشكال أو عقدة ما وهل يحتمل أكثر من تأويل ؟ أكتب ألآية القرآنية التي ورد فيها لفظة " سجود "
[[ وإذْ قُلنا ادخلوا هذه القريةَ فكلوا منها حيثُ شئتم رّغَداً وادخلوا البابَ سُجّداً وقولوا حِطَةٌ نغفرْ لكم خطاياكم وسنزيدُ المُحسنين / 58 من سورة البقرة ]].
1 ـ إختلف المفسّرون في ما المقصود بالقرية ... أدخلوا هذه القرية . فمنهم من قال إنها بيت المقدس ومنهم من قال كلاّ ، إنها أريحا أو أريحياء .. وآخرون قالوا إنها مصر ! وهذا إجتهاد الرازي . كيف تكون مصر قرية وكانت المدينة حينذاك تُسمى قرية وقد تكرر ذكر القرية في القرآن للدلالة على مدينة .. فمكة أم القُرى كما نقول اليوم " عاصمة العواصم " . مصر بلد وليس مدينة . ثم ، ليس لهذا الخلاف بين كبار مفسري القرآن أي أساس فالمقصود مدينة القدس ، إيلياء أو أورشليم بالعبرية أي مدينة السلام : أور تعني مدينة وشليم تعني سلام شلام شليم شالوم . برهان ذلك مذكور فيما سبق هذه الآية من آيات إذْ جاء الكلام فيها عن حقبة التيه في سيناء أي بعد خروجهم من أرض مصر .في الآية 51 من سورة البقرة وما زلنا معها ورد ما يلي مختصراً [[ وإذْ واعدنا موسى أربعين ليلةً ثم اتخذتم العِجلَ من بعده وأنتم ظالمون ]] . والآية 54 [[وإذْ قال موسى لقومه يا قومِ إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى ربكم ... ]] . قصة عجل الذهب الذي صنعه السامري معروفة ولم تحصل إلا في حقبة التيه في سيناء . والآية 57 [[ وظللنا عليكم الغمامَ وأنزلنا عليكم المنَّ والسلوى كلوا من طيّباتِ ما رزقناكم ... ]] . لا ذكر في القرآن للمن والسلوى إلاّ في سورة البقرة لمناسبة وجود بني إسرائيل وموسى في صحراء سيناء بعد نجاحهم في الهروب من مصر . كيف نقبل إذاً قول الرازي أنَّ القرية المذكورة في هذه السورة هي مصر ؟ أفلمْ يقرأ هذا الرازي الذي أزرى وافترى علينا وعلى القرآن .. ألم يقرأ باقي الآيات التي سبقت هذه الآية ؟ كيف إذاً غدا أحد أئمة التفسير ؟
2 ـ واختلفوا في معنى سُجّداً .. فقال بعضهم سُجّداً أي ركّعاً .. يا ناس ! ألا نعرف الفرق بين الركوع والسجود ؟ هل تخلط طقوس وشعائر الصلاة بين الركوع والسجود ولا تميّز الواحد عن الآخر ؟ فسّر إبن كثير كلمة سُجّداً [ أي شكراً لله تعالى على ما أنعم به عليهم ] . وقال العوفي عن إبن عبّاس وادخلوا الباب سُجّداً أي رُكّعاً . وقال الحسن البصري : أُمروا أنْ يسجدوا على وجوههم حالَ دخولهم واستبعدهُ الرازي . وحُكيَ عن بعضهم ( مّنْ هم ؟ ) أنَّ المُرادَ بالسجود الخضوع لتعذّر حمله على حقيقته . وقال السُدّي عن عبد الله بن مسعود : قيل لهم ادخلوا البابَ سُجّداً فدخلوا مُقنّعي رؤوسهم أي رافعي رؤوسهم خلافَ ما أُمروا ! وهذا أسخف ما قيل بصدد تفسير كلمة ليست بحاجة إلى تفسيرات وتشريقات وتغريبات ... مُقنعي رؤوسهم أي رافعي رؤوسهم !! بل والأسوأ من ذلك ما رواه البخاري عن النبي : قيل لبني إسرائيل ادخلوا البابَ سُجّداً وقولوا حِطّةٌ فدخلوا يزحفون على أستاههم ( أي يزحفون زحفاً على مؤخّراتهم .. من الإست ) . وقال الثوري عن إبن عبّاس في قوله تعالى " أدخلوا البابَ سُجّداً " قال : أي رُكّعاً من باب صغير فدخلوا من قِبل أستاههم ...
هل في هذه الآية نص صريح يحدد حجم باب الدخول وقياساتها ؟ كلاّ ، فكيف أجاز ابن عباس لنفسه أنْ يخرج عن النص ويُضيف أمراً لا وجود له في هذه الآية ؟ كيف نقبل منه ذلك ؟ لن أقبله حتى لو قاله محمد نفسه ما لم أجد نصاً صريحاً حوله في نص الآية 58 من سورة البقرة .
ما وجه الإشكال حول كلمة " سُجّداً " وهل لها معنى آخر غير معنى السجود أي ملامسة الأرض بالجبين كما يفعل المصلّون بعد الركوع ؟ كان يفعل هذا حِبر الفاتيكان البولوني السابق حين يغادر الطائرة فيسجد على أرض مطار البلد الذي جاءه ضيفاً ومُبشّراً . السجود لا يعني إلاّ السجود فلماذا اختلف ( أئمة ) التفسير وشرّق فيهم مَنْ شرّقَ وغرّبَ مَنْ غرّب ؟
3 ـ كما وقفوا حائرين عاجزين عن تفسير اللفظة الغريبة على سياق هذه الآية ... حِطّةٌ .. قولوا حِطّةٌ . قال ابن عبّاس : مغفرة استغفروا وقال الضحّاك عن ابن عبّاس وقولوا حِطةٌ قال : قولوا هذا الأمر حقّ كما قيل لكم . وقال الحسن وقتادة : أي أحططْ عنا خطايانا . من فيهم الصادق والمعقول فيما أدلى وفسّر ؟ أليس في هذا كله إساءة مزدوجة للقرآن وللغة القرآن بالإضافة إلى تضليل قرّاء القرآن ودارسيه والمهتمين بتفسيره وفهمه كما هو وكما أراد محمد نفسه ؟ وردت في القرآن ألفاظ غريبة لم يعرفها عرب ذلك الزمان وبعضها غريب علينا في زماننا هذا منها لفظة " حِطّة " .. قولوا حِطّةٌ . أثار موقف هؤلاء كبير دهشتي وامتعاضي إذْ وجدتهم صامتين حيال خروج هذه الآية عن قواعد اللغة العربية .. أعني رفع المنصوب ، فالمفروض أنْ تُكتب الآية بالصيغة التالية ( وقولوا حِطّةً ، منصوبة لأنها مفعول به للفعل قولوا ، بدل حِطّةٌ المرفوعة ولا أعرف على أي أساس قبلوها مرفوعة ؟ مثل هذا الشذوذ والإنحراف عن القواعد غير قليل في القرآن وسأتعرّض له في مكان آخر . تفسيري لكلمة " حِطةً لا حٍطةٌ " أي كونوا حذرين فيما ستقولون وتحوّطوا للأمر لأنكم داخلي مدينة غريبة عليكم ما سبق وأنْ رأيتموها ولا تعرفون شيئاً عن أهلها الساكنين فيها ولا عن طبائعم وعاداتهم فحاذروا وتحوّطوا للأمر .
قال السلف ما قال وقال " الأئمة " ما قالوا مشكورين حسب مفاهيم زمانهم ومستوى فهمهم لما حولهم لكنَّ الحياة تتحرك فتتطور ومعها يتطور ويتغير كل شئ في الحياة ونحن اليوم في واقع علمي وتكنولوجي مغاير وأدمغتنا غير أدمغتهم لذا علينا أنْ نتصدى لتفسير القرآن حسب مفاهمينا المعاصرة وأنْ نجتهد فيما يعسر علينا فهمه وتفسيره فنضع فرضيات ونقترح حلولاً ليست قطعية ونتركها لمن يأتي بعدنا ليذللَ ما واجهنا من مشاكل ومصاعب ثم نترك هذه الأمور مفتوحة للزمن والأجيال القادمة .
ما هو الفوم ؟
في الآية 61 [[ وإذْ قلتم يا موسى لن نصبرَ على طعام واحدٍ فادعُ لنا ربّكَ يُخرجْ لنا مما تُنبتُ الأرضُ من بقلها وقَثائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلونَ الذي هو أدنى بالذي هو خيرٌ اهبطوا مِصراً فإنَّ لكم ما سألتم ]] .
يبدو أنَّ مصراً ، وهي أرض زراعية بفضل نيلها ، كانت مُذّاك شهيرة بزراعة البقليات وما زال فول مصر مضرب المثل وخاصة الفول المُدمّس . اعتاد بنو إسرائيل يوم كانوا في مصر على تناول ما تنتج أرض مصر من بقول أسوة بباقي أهلها فعددوها لموسى لأنهم افتقدوها في سيناء فما سيناء إلاّ صحراء قاحلة . تشهّوا باقلاء مصر ( بدون دهن وبيض مقلي وعولمة وجيه عبّاس بالدهن الحيواني الحُر الرياحي ..) كما اشتهوا باقي البقليات ومنها الثوم أو الفوم . لنرَ كيف فسّر علماء الدين والتفسير واللغة معنى الفوم ! لم يختلفوا في معاني القَثّاء وهو الُخيار وخاصة الخيار الطويل الذي نسميه في العراق الخيار العطروزي أو التعروزي أو الترعوزي نسبة إلى مدينة ترعوز التركية حيث أصل هذا النوع من الخيار . لم يختلفوا في معنى العدس والبصل لكنهم أختلفوا في الفوم فما السبب ؟ السبب كما أراه هو اختلاف لهجات العرب في بلاد العرب حيث يقلب البعض منهم حرف الثاء الثقيل إلى حرف الفاء الأخف على النطق . فالفوم هو الثوم . لنرَ ما قالوا وفيم اختلفوا وجميل أنَّ الثوم كان معروفاً منذ أيام فراعنة مصر وكان متداولاً بين الناس :
وأما الفوم فقال ابنُ عبّاس : الثوم وقال آخرون الفوم الحنطة وهو البُرُّ الذي يُعمل منه الخبز . رويَ أنَّ ابنَ عبّاس سُئل عن قول الله ما فومها ؟ قال : الحنطة . قال ابنُ عبّاس : أما سمعتَ قولَ أُحيحة بن الجلاّح وهو يقول :
قد كنتُ أغنى الناسِ شخصاً واحداً
وردَ المدينةَ عن زراعةِ فومِ
وقال ابنُ جرير عن ابن عباس في قول تعالى وفومها قال : الفوم الحنطة بلسان بني هاشم . وقال الجوهري : الفوم الحنطة . وحكى القرطبي عن عطاء وقتادة : أنَّ الفومَ كل حبٍّ يُختبز . وقال بعضهم هو الحمّص لغة شامية . قال البخاري : وقال بعضهم الحبوب التي تؤكلُ كلها فوم .
أحسبُ حسب علمي ومعرفتي واجتهادي أنَّ فومَ القرآن هو الثوم لا غير . هل كان سَكَنة مكة والمدينة وباقي أهل الجزيرة العربية لا يعرفون الثوم أصلاً لأنه زراعة مصرية خالصة ؟ إذاً كيف عرفه محمدٌ وذكره في القرآن ؟
السيّد آدم : فيتو
أقف ولا أُطيل مع موضوع الشجرة التي مُنع آدم وزوجه من الإقتراب منها وليس تحريمها عليهما كما يحسب علماؤنا وأئمتنا الأفاضل ... نقرأ الآية 35 من سورة البقرة :
[[ وقلنا يا آدمُ اسكنْ أنتَ وزوجكَ الجنّة وكُلا منها رَغَداً حيثُ شئتما ولا تقربا هذه الشجرةَ فتكونا من الظالمين ]] .
كل ما في الجنة إذاً مباح أكله لآدمَ وزوجه ما عدا شجرة واحدة فما كانت هذه الشجرة وما سبب صدور الأمر بألاّ يقربانها ؟ ليس هنا من تحريم صريح إنما مجرد أمر ولكن .. قد يقول المفسرون أنَّ هذا الأمر الذي جاء بحرف " لا " يعني ضمناً أمر التحريم . طيّب ، ما أسباب ذلك ولِمَ هذه الشجرة بعينها التي لم يكشف القرآنُ لنا عن نوعها واسمها وطعم ثمرها إن كانت مُثمرة . نستعرض أقوال الإئمة الكبار لعلنا نقف على شئ من حقيقة أمر هذه الشجرة . نقرأ ما جاء في الصفحتين 54 و 55 من تفسير ابن كَثير ما يلي :
[[ وأما قوله " ولا تقربا هذه الشجرة " فهو اختبار من الله تعالى وامتحان لآدم. وقد اُختلف في هذه الشجرة ما هي ؟ قال السُدّي عن ابن عباس : الشجرة التي نُهي عنها آدم عليه السلام وحواء هي الكرم، وتزعمُ يهود أنها الحنطة. وقال ابنُ جرير عن ابن عباس " الشجرة التي نُهي عنها آدم عليه السلام هي السنبلة، وقال ابنُ جرير بسنده : حدثني رجلٌ من بني تميم أنَّ ابن عباس كتب إلى أبي الجلد يسأله عن الشجرة التي أكل منها آدم والشجرة التي تاب عندها فكتب إليه أبو الجلد : سألتني عن الشجرة التي نُهي عنها آدم وهي السنبلة ، وسألتني عن الشجرة التي تاب عندها آدم وهي الزيتونة. وقال سفيان الثوري عن أبي مالك " ولا تقربا هذه الشجرة " : النخلة ، وقال ابنُ جرير عن مجاهد " ولا تقربا هذه الشجرة " : التينة . قال الإمام العلاّمة أبو جعفر بن جرير رحمه الله : والصواب في ذلك أنْ يُقال : إنَّ الله عزَّ وجلَّ ثناؤه نهى آدم وزوجه عن أكل شجرة بعينها من اشجار الجنة دون سائر أشجارها فأكلا منها ، ولا علمَ عندنا بأي شجرة كانت على التعيين، لأنَّ الله لم يضعْ لعباده دليلاً على ذلك في القرآن ولا من السُنّة الصحيحة. وقد قيل : كانت شجرة البُر ، وقيل : كانت شجرة العنب ، وقيل : كانت شجرة التين .. ]]. هذا هو الرأي الصحيح أفصح عنه أبو جعفر بن جرير بصراحة وشجاعة : " لا علمَ عندنا بأي شجرة كانت على التعيين لأنَّ اللهَ لم يضع لعباده دليلاً على ذلك في القرآن " . ما أروع هذا الرجل وما أحوجنا لأمثاله علماً وشجاعة . ما عدا هذا الرجل سمح الآخرون لأنفسهم أنْ يفسروا الشجرة بما شاؤوا وما سمحت لهم به خيالاتهم الفضفاضة فاختاروا سبعة أصناف من الفاكهة والحبوب وهي جميعاً [ ما عدا الحنطة ] وردت في القرآن متفرقة في سوره حسب المناسبات :
الكرم ( شجرة العنب ) .. الحنطة .. السُنبلة في سور يوسف .. الزيتونة ( والتينِ والزيتونِ ) .. النخلة ( سورة مريم ، وهزي إليكِ بجذع النخلة تُساقطْ عليكِ رطباً جنيّا ) .. التينة .. العنب ( الثمرة ، ثمرة العنب ) .
علماً أنَّ الحنطة والسنبلة ليستا شجرتين !
كيف ولماذا يختلف أئمة تفسير القرآن بشأن مُفردة واحدة تخص شجرة واحدة ويعجزون عن الإتفاق حولها وأية شجرة كانت ؟ لتكنْ ما تكن فليس ضرورياً أنْ نعرف بدقة أية شجرة كانت . الأمر الأهم هو مغزى هذه القصة ودوافع منع آدم وزوجه من الإقتراب منها وما المعنى الحقيقي الدقيق لكلمة " إقتراب " . أجمع غالبية المفسرين أنَّ آدم أكل من هذه الشجرة فهل الأكل كان المقصود بالإقتراب منها ؟ تقترب من الشجرة / تأكل منها . الإقتراب الفضائي من هدف ما لا يعني الأكل بالضرورة . فسّر بعض أصدقائي الإقتراب من الشجرة هو ممارسة الجنس مع حواء فحواء شجرة بالرمز تُثمر كما الأشجار المثمرة لكنها تثمر فتلد أبناءً وبنين لا فاكهة وثمراً . سألت هذا الصديق وما سبب هذا المنع أجاب : كان منعاً مؤقّتاً مشروطاً لأنَّ حواءَ كانت يومَ صدور الأمر بمنع الدنو من الشجرة كانت في التاسعة من عمرها أي أنها لم تبلغ سن النضوج ، لم تحضْ بعدُ !
من حق هؤلاء الأعلام أنْ يختلفوا ولكن من حقنا أنْ نطالبهم بالإتفاق والإجماع على تقديم جواب واحد يُريحهم ويريحنا وكافة قرّاء القرآن . إجتهاداتهم جيدة ومطلوبة ولكن الإتفاق على جواب واحد أجود منها . إننا وهم نتكلم في دين وفي كتاب هذا الدين ولغتنا ولغة هذا الكتاب لغة واحدة اسمها اللغة العربية .
القسم الثاني
مع الدكتور عبد الحكيم راضي (2)
كلامي في هذا القسم أكثر خطورة عمّا تكلّمتُ في القسم الأول . كلامي ههنا يتناول ما ورد في القرآن من أخطاء نحوية تخالف قواعد وأسس اللغة العربية التي درسناها وتعلّمناها منذ الصغر ثم تابعناها لاحقاً من خلال الدراسة والمتابعة والكتابة بها على نطاق واسع . بقدر ما تعنيني متابعة هذه الأخطاء تهمني تبريرات وتخريجات [[ الأئمة ]] التي لا يقبلها عقلُ عاقل ولا يقبلها منطقٌ ولا عُرفٌ ولا حتى تلميذ لغة عربية . إنهم أساؤوا للقرآن وللدين بقدر ما أساؤوا للغة وضللوا قرّاء القرآن مسلمينَ وغير مسلمين . كان عليهم أنْ يعترفوا بهذه الأخطاء وأنْ يجدوا لها مبررات معقولة من قبيل ردّها إلى كُتّاب الوحي ومن عاصرهم ومن جاء بعدهم من كَتبة القرآن ومستنسخيه ومن ثم من قام بطبعه آلاف المرات بملايين النُسخ . لم يفعلوا ذلك أبداً . بدل ذلك سوّغوا هذه الأخطاء كأنهم أرادوا إعمامها لكي تأخذها الأجيال جيلاً بعد جيل وتقتنع بها فأساؤوا للغة العربية ولطبيعة معاني ألفاظها المتداولة وحرّفوا قواعد اللغة فبرروا ما جاء منصوباً ـ على سبيل المثال ـ بدل أنْ يكونَ مرفوعاً تبريرات أقل ما يُقال عنها إنها سخيفة وباطلة ومُضللة معتمدين على مصادر مجهولة بل ومُضحكة من قبيل قيل وقال . يا سادة ويا أئمة أخبرونا مأجورين : أنكونُ مع لغتنا وهي تراثنا وإرثنا الأقدم أم نكونُ مع ما في القرآن من أخطاء وتجاوزات على لغتنا وهو التأريخ والإرث التالي الذي تأسس وقام على التأريخ الأول والإرث الأول ؟ ما ضرّكم لو اعترفتم ؟ ما العيب في تصويب هذه الأخطاء فيما يُطبع من نُسخ جديدة من القرآن ؟ هل تقبلون العيوب والأخطاء فيما تقولون إنه كلام الله ؟ هل أنتم على خطأ وضلال أم هذا الإله وما نُسبَ له من كلام ؟ أسوق أمثلة والغُصّة في بلعومي والجُرح ينزف.
أنقل ما ورد على الصفحتين 470 و 471 من كتاب الدكتور الراضي ففيهما بيانُ حجّتي وأساس اعتراضي وعجبي وشجبي :
[[ ... والواقع أنَّ القولَ ببلاغة مثل هذه المواضع يندرجُ تحت مبدأ عام أكثر شمولاً هو بلاغة كلِّ ما جاء في القرآن من ظواهر الإستخدام اللغوي وأساليبه، حتى ما بدا منها مخالفاً للمألوف في النظام النمطي للغة. وليس أدلُّ على ذلك من هذا التخريج الذي حظيت به المواضع التي خولف فيها الشكل الإعرابي المعهود. ففي سورة النساء ( لكنْ الراسخون في العلم والمؤمنون يؤمنون بما أُنزل إليكَ وما أُنزلَ من قبلك والمقيمين الصلاة والموتون الزكاة )، وفي آية البقرة
( والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضرّاء ) نجد إلى جانب الأقوال الكثيرة ، مما سبقت الإشارة إليه، والتي حاولت إيجاد وجه مشروع في إطار الشكل الإعرابي لتخريج النصب في كلمتي ( المٌقيمين ) في الآية الأولى و ( الصابرين ) في الآية الأخرى نجد محاولة لتخريج النصب على محمل فني . وسجّلَ سيبويه أُولى المحاولات المدوّنة في هذا الصدد ، فتحدث فيما أُطلق عليه
( باب ما ينتصب في التعظيم والمدح ) وجعل من ذلك قولهم ( الحمدُ لله أهلَ الحمد ) و ( الحمدُ لله الحميدَ هو ) ثم قال : ( ومثل ذلك قول الله عزَّ وجلَّ لكنْ الرسخون في العلم ... والمقيمين الصلاة ... ) وجاء في شرح السيرافي بهامش الكتاب أنه ( في إعراب المقيمين وجهان أحدهما أنْ يكون منصوباً على المدح ). وذكر ابنُ قُتيبة قوله تعالى ( لكنْ الراسخون ... والمقيمين ) وكذلك آية البقرة ( والموفون بعهدهم ... والصابرين ) ثم قال ( وقالوا في نصب المقيمين بأقاويل .. قال بعضهم هو نصبٌ على المدح . واعتلَّ أصحابُ النحو للحرف فقال بعضهم هو نصبٌ على المدح والعربُ تنصبُ على المدح والذم ، وكأنهم ينوون إفراد الممدوح بمدح مُجَدَّد غير مُتبع لأول الكلام، كذلك قال الفرّاء .
كما نقل النحّاس رأي سيبويه في نصب الكلمتين على المدح وقال : ( إنَّ هذا أصح ما قيل في " المقيمين " ... ) . وأكّدَ الزمخشري أنَّ النصب على المدح في قوله " والمقيمين " مقصودٌ به بيان فضل الصلاة وقال إنه باب واسع ، كما استبعدَ كلَّ شُبهة في أنْ يكونَ وقوع النصب في مثل هذا الموضع نتيجة لخطأ أو لحن في خط المُصحف ]].
ما رأي القرّاء الكرام ؟ هل هم مع هذه التبريرات والتخريجات أم ضدّها ؟ أنا قلتُ رأيي وجاء الآن دورهم . أنا مع سلامة ونقاء وصحّة اللغة العربية ومع ضرورة الكشف عمّا ورد في القرآن من أخطاء ومخالفات لأسس وقواعد ونحو اللغة العربية والإعتراف بها ثم وضعها في سياقاتها الصحيحة فيما سيُطبع من القرآن لاحقاً . أليس في ذلك خدمة للدين واللغة في عين الوقت ؟ ماذا سيخسر الدين لو صححنا أخطاء القرآن ونسبناها للبشر من كَتَبة وناسخين وشارحين وطابعين ؟ كيف نقبل أنْ تكون لغة القرآن مخالفة للغة العربية وهي أمّه وأصله وأساسه ؟ فيا سيبويه : قولك في باب " ما يُنتصب أو يَنتصب من باب التعظيم والمدح " أسألك : ما المنطق في ذلك وما هي دلالته ؟ الكسر والنصب والرفع حركات إعراب محايدة وضعها وتعارف البشرُ عليها منذ قديم الزمان لتمييز الفاعل عن المفعول والجار عن المجرور فضلاً عن باقي الحالات المعروفة من حال وتمييز وظروف ومبتدأ وخبر وغير ذلك مما نعرف فما علاقة الحركات هذه بالمدح والتعظيم ؟ هل نمدح البشر بالحركات أم بالألفاظ والجُمل ؟ كيف أنصب الممدوح والمُعظّم وحالة الرفع أنسب له وأفضل إذا كان لا بُدَّ من الإحتكام لحركات الإعراب .. ولا لزومَ لذلك أصلاً ؟ في الرفع ارتفاع ورِفعة وسمو أما المنصوب فهو الأقل منزلة والأوطأ مقاماً وإنه لهو المفعول به وليس الفاعل يا سيبويه ومن جرى مجاريك التبريرية السخيفة . ثم .. لِمَ لم تنسحب قاعدتكم التبريرية المُضحكة هذه على عموم ما ورد في القرآن من مواضع التكريم والتعظيم والمديح ؟ لماذا نقول لا إللهَ إلاّ اللهُ ولا تقولون لا أللهَ إلاّ اللهَ من باب التعظيم وهو أصلاً في حالة المستثنى وحكم المُستثنى هو النصب حتى لو كان المُستثنى منه منفياً بحرف النفي لا ؟ ولِماذا تقولون قلْ هو اللهُ أَحَد ولا تقولون قلْ هو اللهَ أَحَد للتعظيم ؟
الموقف من حكم لا النافية للجنس في القرآن :
لقد وردت غير مرة جملة " ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون " .. لا هنا نافية للجنس تعملُ عملَ إنَّ ، تنصب اسمها وعليه المفروض أنْ تكون الجملة كما يلي ( ولا خوفَ عليهم ولا هم يحزنون ) . أمامنا أمثلة عديدة أكثرها شهرة ( لا إلهَ إلاَ اللهُ ) وشعر المتنبي ( لا خيلَ عندكَ تُهديها ولا مالُ ) وغير ذلك الكثير .
أُضيفُ ما جاء في الصفحة 399 من كتاب الدكتور عبد الحكيم راضي (2) بحذافيره مع تعليقات المؤلف نفسه فإنها تكفي :
[[ ولم تكنْ غرابة الألفاظ ـ بسبب الإستخدامات الجديدة ـ هي فقط ما لفتَ المسلمين في لغة القرآن ، إذْ كانت هناك إلى جانب ذلك صور ـ وإنْ تكنْ قليلة ـ من مخالفة المصطلح عليه من أشكال الإعراب ، والمُثل المشهورة على ذلك قوله
تعالى : [طه 63 ] ( إنَّ هذانِ لساحرانِ ) وقوله [ المائدة 69 ] ( إنَّ الذين آمنوا والذين هادوا ، والصابئون ) ، وقوله [ النساء 162 ] ( لكنْ الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أُنزلَ إليكَ وما أُنزِلَ من قبلك والمُقيمين الصلاةَ والمؤتونَ الزكاةَ ) . ففي الموضع الأول رُفعَ اسم ( إنَّ ) على هذه القراءة ، وفي الموضع الثاني رُفعَ المعطوف على المنصوب ، وفي الثالث نُصبَ المعطوف على المرفوع . ومن هذا النحو أيضاً قوله [ الأنبياء 88 ] ( كذلك نُجيَّ المؤمنين ) فقد نُصبَ ما محله الرفع ، وقوله : [ المنافقون 10 ] ( فأصّدقُ وأكنْ من الصالحين ) حيث جاء الفعل المعطوف على المنصوب مجزوماً . وهذه مجرد أمثلة ، وهي تتصل بشكل واحد من أشكال مخالفة النمط ، وهو ما يتعلق بظاهرة الإعراب ، وهناك صور أخرى مما يُدخلونه في عداد المشكلات اللغوية ، كاستخدام الدخيل والمتشابه وغير ذلك ]] .
ما تعليل " الأئمة " لهذه الظواهر من مخالفة النمط وهل لها علاقة بالمديح والتعظيم ؟
1 ـ مُختصر تفسير ابن كَثير / المجلّد الأول . دار القرآن الكريم ، بيروت 1981
2 ـ عبد الحكيم راضي / نظرية اللغة في النقد العربي . المجلس الأعلى للثقافة والعلوم ، الطبعة الأولى القاهرة 2003 .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق