أحيي كنيستي المقدسة، المنارة الخالدة وقلعة الإيمان الكريمة. وأحيي قائدها الحكيم صاحب القداسة البابا تاوضروس الثاني وأطلب له المزيد من الحكمة وصواب الرأي واستمرار حسن القيادة والعمر الطويل. وأحيي رجال الكنيسة حراس مبادئها وكرامتها وكرامة أبنائها. وأحيي الرجال والنساء الأقباط الذين "كانـوا" أعضاءً في اللجنة التأسيسية لمسودة ما يسمى بدستور مصر، أحييهم جميعاً وأفتخر بهم لانسحابهم من الاشتراك في تلك المهزلة.
في البلاد الحرة التي يؤمن رجالها بالعدالة لجميع مواطنيها، لا يصمم المسئولون عن وضع دستورها أن يُذكر به "دين" أو "شريعة دين". فالدين أو شريعته يخص طائفة بعينها. والوطن ليس مِلكاً لطائفة واحدة بدين واحد. الوطن ملك لجميع مواطنيه، ويحتضن مواطنين من أديان ومذاهب وشرائع مختلفة. كل ما يلزم ذكره في دستور عادل لبلد حر هو بكل بساطة ويسر جملة من خمسة كلمات واضحة صريحة "حرية العقيدة مكفولة لكل مواطن" بلا زيادة ولا شرح ولا تأويل ولا تمويه ولا تمييع ولا استثناء. لأن هذه الجملة على بساطتها ويسرها تدل بسموِّها على أن الدولة حرة وتؤمن بحرية الانسان كما أرادها له خالقه. وتؤمن بالعدالة الحقة لا العدالة المعوَجَّة التي هي في حقيقتها ظلــمٌ مُنقــًّـب.إدخال الدين في الدستور أو في الحكم هو تلاعب خسيس وتحايل لتطبيق ظلم "رسـمي" من الطائفة القابضة على عنق الدولة ومفاصلها. تلك الطائفة ورجالها يحاولون استعمال الدين والشريعة واسم الله بنيـَّـة سيـِّـئة واضحة ضد الطوائف الأخرى بالوطن. بل هو استغلال فاجر للدين كوسيلة للظلم، واتخاذه مَركـَبة للتسلط والتحكم في عباد الله الأبرياء.. وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا، بل قد خلقهم اللـه عز وجل أحرارا.
عندما يُفًصًّل دستور الدولة وهو قاعدة قوانينها، بترزية مغرضين بعيدين عن النزاهة، كل هدفهم خدمة دين واحد أو طائفة بعينها، متجاهلين وجود مواطنين شرفاء أوفياء تابعين لأديان وطوائف أخرى بالوطن، حتى لو كانوا أقليات فلهم ما لهم من حقوق.. فالنتيجة إذاً لا صلاحية ولا عدالة لذاك الدستور.
فالزج بالدين أو بالشريعة في حكم الوطن بدءاً من دستوره، وهو قاعدة قوانينه، يبيح تسلط وتمييز طائفة واحدة باسم الدين على باقي طوائف المجتمع، حتى من نفس الدين. فالدستور حينئذ، وكما أوضحت أعلاه، ما هو إلا سيف مُسَلَّط على أعناق الأبرياء ووسيلة جور وجبر وتحيز وظلم يتنافى مع ما قسـمه الله من عدالة لجميع من خلق. كما أنه يتنافى مع المباديء الانسانية التي تدعو بتساوِ الناس جميعاً في حقوقهم الحياتية. كما يتنافى أيضاً مع القوانين التي وضعها علماء وخبراء قانونيين انسانيين عالميين متحضرين دَعَّموها بضمانات تكفل حقوق الإنسان أفراداً وجماعات، أغلبيات وأقليات، من كل جنس ولون ودين. قوانين وضمانات عادلة نصَّت عليها وتحميها الهيئات الدولية.
فزجُّ الدين والشريعة سواء مبادئها أو أحكامها، في المادتين الثانية والثالثة من مسودة الدستور المقترح، ودَسَّ الدين والشريعة صراحة وتنويها وتورية في المواد الأخرى منه عمل باطل قانونياً ودينياً (حيث لا عدالة فيه) مما يُفقِد صلاحيته كدستورٍ. وأربأ بنفسي أن أسميه ما أود أن أسميه!!
بهذا الظلم الصريح يصير الوطن محكوماً بـ (قانون السلطة) لا بـ (سلطة القانون). وقانون السلطة هو قانون سلطة الفرد الحاكم أو قانون سلطة الطائفة الحاكمة، وكلاهما بالطبع سلطة مغرضة متتحيزة. فالحاكم الفردي المطلق السلطة كما هو الحال في معظم الحكومات الفردية دكتاتور مستبد لا يؤمن بالعدالة وإن ادَّعاها. وقد رأي العالم، والشرق العربي خاصة، الكثيرين من هذا النوع من الحكام. أما الطائفة الحاكمة فهي إما طائفة "دينية" كالاسلامية في إيران والسعودية والسودان وأفغانستان وباكستان، والكل يعلم أنها بكل المقاييس ليست حكومات انسانية عادلة. أو "عرقية" مثل النازية في ألمانيا سابقاً وقد لقيت حتفها لظلمها وتعسفها. أو "طبقية" مثل الشيوعية في الاتحاد السوفيتي السابق وقد اندحرت لفشلها. وفي كلتا الحالتين، سواء كان حكم فرد دكتاتور أو حكم طائفة مستبدة يتساوى الحكمان فكلاهما غير ملتزم بعدالة ومساواة بين أبناء الوطن الواحد.
أما سلطة القانون فتضعها وتحميها السلطة التشريعية العادلة، المؤهلة والمنزهة من الأغراض الطائفية. ويكمل عدالة مبادئها عدالة تطبيق قوانينها على يد السلطة القضائية بعدالة الميزان. ويكمل ذاك وتلك عدالة تنفيذ تلك القوانين على يد السلطة التنفيذية بشفافية وعدالة ومساواة بين الجميع. هذه هي حقوق الإنسان. وما عدا ذلك فهو من الشرير.
هؤلاء المُزِجّون بالدين في الحكم والدستور، عملهم هذا وهدفهم المستتر كـُفـرٌ صريحٌ بربهم وبدينهم. فهو إخلال بأولي مباديء الدين، وإسقاط لأعظم قاعدة يرسو عليها الدين، وهي "العدالـة" بين خلق اللــه. وحين تسقط "العدالـة " من مكونات الديـن... فماذا بَـقي لـَهُ!!؟؟
هؤلاء لا يدركون أن العدالة ليست فقط أساس القانون، فهي أساس وجوهر الإنسانية ذاتها. بل من المفروض أنها أيضاً أهم أساسيات الدين، سماوي وغير سماوي. والعدل في الإسلام إسم من أسماء الله، وصفة من صفاته، وسِمة من سِماته. فمن حاد عن العدل فقد حاد عن الله ذاته وعن طاعتـه.
مما سبق نجزم أنه لا يمكن أبداً أبداً أبداً لحكومة دينية طائفية أن تكفل العدالة أو تلتزم بها. والحقائق حولنا تبحلق وتصرخ في وجه من ينكر. فالمسلم السُّني تحت الحكم الديني الاسلامي الشيعي في إيران مواطن مهضوم ومضطهد. والمسلم الشيعي تحت الحكم الديني الاسلامي السُّني في السعودية المسلمة (لو وُجـِدَ) وفي مصر المسلمة، مواطن مهضوم ومضطهد. ناهيك عن باقي مذاهب وتفريعات الإسلام العديدة. وناهيك أكثر وأكثر عن غير المسلمين. فالأقباط في عقر بلادهم تحت حكم ديني اسلامي مواطنون من الدرجة التاسعة عشر مهضومون ومضطهدون. ولا ينكر ذلك إلا كاذب ظالم بل وكافر بالله!! فالصدق والشهادة بالحق من أوامر الله للمسلم، والعدل هو الله الذي لا يرضى الظلم لعباده.
الدين لا مكان له في دواوين الحكومات أو دساتير البلاد. لأنه إيمان وعلاقة شخصية بين الإنسان وخالقه ولا دخل لإنسان آخر أو لسلطة ما التدخل فيه. مكان الدين في القلوب ويمارس في المعابد، ويحض على حسن الخلق وكيفية التعامل بين الناس بغض النظر عن اختلاف العقائد، ويظهر في أعمال وتصرفات تابعيه.. فإن ساءَتْ أعمالهم فقد أساؤا هم إلى دينهم.
أما عن القانون فمثله مثل الدين ينص أيضاً على الأخلاق ويحمي جميع المواطنين من مخالفيه، حيث أن للقانون (وحـده) سلطة العقاب. وهذه واحدة من وظائف القانون المدني الإنساني المتحضر. والقانون لا يلغي الأديان ولا يقلل من شأنها، فهو يضمن حرية العبادة لكل مواطن كيفما شاءت له عقيدته.
الزج بالدين في الستور خطأ وخطر جسيم. "أحكام الشريعة" و"مباديء الشريعة" و"مايرضي الشرع" "وما يخالف شرع الله" كلها مسامير وسكاكين وخناجر تذبح حقوق الإنسان، وتقتل حرية المواطنين الغير تابعين لطائفة السلطة الحالكمة. لو طبقت في مصر فقل على حرية الأقباط أبناء مصر السلام. لا بناء كنائس ولا إقامة صلبان على الكنائس الموجودة ولا دق لأجراس الكنائس، بل تقييد حريتهم في العبادة وإقامة شعائرهم وممارسة مقدساتهم بشكل عام، علاوة على حرمانهم من الوظائف الهامة فلا محافظ قبطي ولا رئيس جامعة ولا قاضي ولا مستشار ومثل ذلك من المناصب المميزة. وحالياً لا يصح لطبيب قبطي أن يعالج إمرأة مسلمة، وربما يرفض بعض الرجال المسلمين أن يعالجهم طبيب قبطي، وقريباً لا مدرس قبطي يصح أن يدرس أبناء المسلمين. في حين أنهم يهرولون لأطباء الغرب الكفار للعلاج، ويفخرون بشهادات حصلوا عليها من أساتذة وجامعات الكفار بالغرب، ويتلهفون على حصول أولادهم صبيان وبنات على مثلها، ويتشوقوق للهجرة لبلاد الغرب بأي ثمن!!. زد على ذلك فللمسلم الحق قتل غير المسلم بلا قصاص ولا عقاب فالشريعة تنص ألا يعاقب المسلم سَـفَك دم كافر. فأي عدالة وأي إنسانية في ذلك!!؟؟ وأي دين وأي رّبّ يسمح بذلك!!؟؟
تاريخ الحكم الديني أسود ظالم فاسد. مثل الحكم المسيحي في أوروبا في العصور الوسطى، ظل حتى أفاق الغرب منه فأبعد الدين عن الحكم، وأقر حكماً مدنياً أساسه العدل والمساواة مع احترام الأديان وحرية العبادة للجميع، فتقدم الغرب وازدهر. حتى البلاد التي تؤمن بعقائد غير سماوية كالهند والصين واليابان وغيرها بشرق آسيا، أبعدت الدين عن السياسة وعن الحكم فتقدمت وازدهرت.
أما التاريخ الاسلامي كله بكل صراحة ومن واقع كتب العرب، فيشهد بفساد الحكم الديني. فقد كان دائماً ملوثاً بدماء الآلاف ولم ينجُ الخلفاء والصحابة واسرة الرسول من ذلك. والدولة الأموية والدولة العباسية وما تبعها من دويلات حتى الدولة العثمانية، كانت كلها حكومات اسلامية "دينيـة" شكلا، وهي طائفية فاسدة غير عادلة، ساد فيها علاوة على سفك الدماء، التطرف واستغلال الضعفاء وظلم الأبرياء واستنزاف الموارد والثراء الفاحش والإسراف في الشراهة والبذخ وامتلاك الجواري واللواط بالغلمان وغير ذلك من الموبئات كثير.
أربعة عشر قرنا ومصر ترزخ تحت نير الحكم الديني المستبد والخالي من العدالة والإنسانية باستثناء عصر نهضة مصر تحت حكم محمد على الألباني الجنسية مؤسس الدولة المدنية بمصر، من بدء القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين بنهاية آخر من حكم من سلالته وهو الملك فاروق في 1952.
مخطيء من يظن أن النداء بالدولة المدنية يعني إلغاء الأديان أو التخلي عنها أو تحقيرها أو تصغير دورها في المجتمع. وما هذا إلا ادعاء خبيث يلعب به دعاة الدين المغرضين المتسلقين إلى السياسة والمناصب بتضليل البسطاء والأميين بتلك التشويهات.
خلاصة الأمر.. أفخر حقاً بكنيستي وقرارها الحكيم بالانسحاب من لجنة تأسيسية الدستور الغير قانونية ولا إنسانية ولا عادلة ويتحكم فيها أقزام الفكر مغلقي العقول معوجي الضمائر. رعاكي اللـه يا كنيستي، وحماكَ الله يا وطني مصر من شر الشريرين، وجعلكما منارات للحق والكرامة والعدالة.
ختاماً أقول: لو شاء الجلاد الظالم أن يشنقني فلستُ أنا بغـبيٍّ كي أساعده في تضييق "خَيـَّـة" الحبـل حول عنـقي بيدي. ولو شاء السفاح أن يطيح برأسي فليعفـني من غبائـه، فلن أكون مساعداً له في صقل سيـفه.
مهندس عزمي إبراهيم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق