في عام 1958 انتُخب أنجيلو جوسيبي رونكالي بابا جديداً، حمل اسم يوحنا الثالث والعشرين. غيّر هذا الحدث صورة الفاتيكان وفتح صفحة جديدة في علاقتاته مع ذاته، ومع العالم، ومع الاديان الأخرى، بما فيها الاسلام.
كان أنجيلو كاهناً شاباً عندما التحق بالجيش الإيطالي أثناء الحرب العالمية الأولى، التي عرفت لأول مرة استخدام الغازات السامة والمجازر الجماعية.
وبعد الحرب تولى لمدة 20 عاماً تقريباً مناصب دبلوماسية في السفارات البابوية في كل من بلغاريا واليونان وتركيا. وهناك تعرف عن كثب إلى الأرثوذكسية وإلى الاسلام.
ومع نهاية الحرب العالمية الثانية أصبح قاصداً رسولياً في باريس. ومن هناك رافق عملية إعادة بناء المجتمعات الخارجة من اتون الحرب. وكذلك إعادة بناء العلاقات بين الدول التي تحاربت.ومن خلال هذه المسيرة تعرّف أنجيلو على صورة وعلى معنى أن يكون المجتمع متعدداً ومتنوعاً، كما تعرّف إلى وقائع وخلفيات الاضطرابات السياسية والعنصرية، وشاهد بنفسه أنواع الأعمال الشيطانية والأعمال الرحمانية في الناس من مختلف العقائد والأديان وهم في حالات الصراع أو في حالات السلام.
شكلت هذه الخلفية شخصية يوحنا الثالث والعشرين الذي كان يوصف عن حق بالبابا الطيب. الا ان الوصف الذي يستحقه أيضاً هو البابا الشجاع. فقد جمع الطيبة الى الشجاعة. فبعد تنصيبه في الرابع من تشرين الثاني 1958 بدأ بزيارة الأبرشيات والمستشفيات وحتى السجون، وهو أمر لم يسبقه اليه أي بابا من قبل. فالبابا بيوس الثاني عشر مثلاً الذي أقر عقيدة ارتفاع مريم الى السماء- لم يغادر روما طوال فترة بابويته. وأبعد مكان قصده كان على مسافة 27 كيلومتراً فقط من الفاتيكان لتدشين محطة إرسال إذاعية. وقد أثار ضجة كبيرة عندما استقبل صهر رئيس الدولة السوفياتية خروتشوف، علماً بأن البابا باسيللي Pacilli كان قد فرض الحرم على الشيوعية. وتمثلت شجاعته الأدبية في رفع عدد الكرادلة الى 75، وفي إعادة النظر في لائحة القديسين. كما تجسدت في دعوته الى الحوار بين المؤمنين وغير المؤمنين. وفي رسالته الى الأمم المتحدة من أجل السلام العالمي. ولا شك في أن المجمع الفاتيكاني الثاني الذي دعا اليه في الحادي عشر من تشرين الأول 1962، توّج كل مبادراته وترجم القيم الانسانية التي اكتسبها من خلال تجاربه الانسانية ودراساته اللاهوتية.
حضر المجمع 2800 أسقف من 116 دولة. وأصدر 16 وثيقة دينية وضعت الكنيسة الكاثوليكية أمام طريق المستقبل.. الذي تواصل سلوكه حتى اليوم.
كان عنوان المجمع: " الحياة الكهنوتية والعلاقات الاجتماعية : الكنيسة والعالم المعاصر". استمر المجمع الذي يعتبر أحد أهم المجامع العشرين التي سبقته، من 11 تشرين أول اكتوبر 1962 الى 8 ديسمبر كانون الأول- 1965 أي الى عهد خليفته البابا بولس السادس (1963-1978). أما أهميته فتعود الى طبيعة القرارات الدينية التي اتخذها بشأن تحديد علاقات الفاتيكان بالكنائس غير الكاثوليكية، الارثوذكسية والانجيلية، وعلاقته بالأديان الأخرى: اليهودية والاسلام. فقد أعلن المجمع ولأول مرة احترامه للمسلمين لأنهم يقولون بإله واحد ويحترمون المسيح وأمه ويؤمنون به نبياً. كما يؤمنون بعذرية السيدة مريم وباليوم الآخر وبالحساب والعقاب. وأكد المجمع على احترامه للمسلمين لأنهم يقيمون الصلاة لله، ويؤتون الزكاة ويقومون بأعمال الخير للصالح العام. واعتبر المجمع في قراراته وهذا أمر بالغ الأهمية- "ان الخلافات مع المسلمين تشكل خطيئة للإيمان بالله الواحد الذي خلق الناس جميعاً ودعاهم الى الخلاص والسعادة".
هنا لا بد من الملاحظة الهامة التالية وهي ان المجمع في كل الكلام الايجابي الجيد والجديد الذي صدر عنه لم يذكر الاسلام كدين بل ذكر المسلمين كمؤمنين. أي انه تجنب الحديث عن الاسلام كرسالة سماوية واكتفى بالحديث عن المسلمين كأصحاب عقيدة تؤمن بالله الواحد .
مع ذلك عمل على تكريس هذه التعاليم الجديدة البابا بولس السادس الذي خلف البابا يوحنا الثالث والعشرين (الذي كان توفي في 3 حزيران يونيو 1963، أي قبل انتهاء أعمال المجمع). فالبابا يوحنا الثالث والعشرين، واجه موجة من معارضات المحافظين المتشددين بسبب انفتاحه. وقد حمل مشعل الانفتاح من بعده البابا بولس السادس وكان أول بابا يسافر الى خارج أوروبة. وكان كذلك أول بابا يسمح للكرادلة باستخدام الملابس المدنية ويوافق على اجراء القداديس باللغات الوطنية وليس باللغة اللاتينية حصراً. وهو من القرارات التي ساعدت على انتشار المسيحية في العالم الثالث وخاصة في آسيا وافريقيا وأميركا اللاتينية حيث يشكل المسيحيون اليوم في هذه القارات ثلثي عدد المسيحيين في العالم ).
وفي ضوء هذه التعاليم البناءة الجديدة التي أقرّها المجمع الفاتيكاني وتبناها اثنان من البابوات المنفتحين، أعدّ الاب جوزف كوك والاستاذ لويس غارده وثيقة قدّم لها الكاردينال ماريللا المسؤول السابق عن امانة شؤون غير المسيحيين في الفاتيكان موجهة اساسا الى المسيحيين الذين، كما جاء في الوثيقة " يلتقون المسلمين ويتمنون العيش في حوار دائم ومفتوح معهم". تقول هذه الوثيقة: "... يجب ان نعترف وبكل شجاعة وصدق، ان المسلمين لم يلاقوا من العالم المسيحي الا القليل من التعاطف والود... وقليلون هم الذين اولوهم العناية الكافية، على رغم ان الرهبان والراهبات اظهروا اهتماما كبيرا في مجالات التعليم والمساعدة والرعاية، ولكن جهودهم بقيت جزئية امام اتساع الاحتياجات. كما ان الغربيين المستشرقين منهم والعلماء والمتخصصين بالاسلاميات، اظهروا تعاطفا وتفهما لكل ما يتعلق باهداف دراساتهم، ولكن تفهمهم للانسان وتعاطفهم معه كان اقل... وهذا ما يأخذه المسلمون عليهم في ايامنا هذه، مع شيء من اللوم والعتاب.
وحتى اليوم، وفي اكثر الاحيان، عرف المسلمون العالم الغربي من خلال الانظمة الاستعمارية. وباختصار، يجب ان نعي بكل موضوعية ان المسيحيين لم يحققوا بعد، كمجموعة، الشرط الاول والاهم الذي يؤهلهم لان يكونوا موجودين وحاضرين في عالم المسلمين كما هو، وعلى حقيقته... وعلى هذا الاساس فان الحوار لن يكون ممكنا طالما ان مثل هذا الجهد لم يبذل بعد".
وجاء في الوثيقة ايضاً: " لقد ساد بين المسلمين والمسيحيين ماض مؤلم سيطر عليه الاقتتال والعداوة، في ما عدا بعض اجزاء العالم الاسلامي التي بقيت جغرافيا بعيدة عن الغرب المسيحي، لدرجة ان المجموعتين انطوتا على نفسيهما، وبقي كل منهما محافظا على موقفه. ومثل هذا الوضع لا يشجع على الحوار اطلاقا، ويجب ان نعمل على تجاوزه، وعلينا نحن المسيحيين ان نبدأ الخطوة الاولى من دون ان نحاول معرفة ما اذا كان هذا منطقيا في نظر الحكمة الانسانية. فلنتجه اذاً، بزخم الفضائل الالهية نحو الحياة والمستقبل، ونعطي هذا التوجه كل ما يتطلبه من وقت ومواظبة ".
لقد نقل الفاتيكان الثاني الموقف الفاتيكاني من حالة العداء القديم للاسلام الى التصالح مع المسلمين والتعايش معهم. وهذا موقف ديني مبدئي مهم جداً.
لم تأخذ وثيقة مجمع الفاتيكان الثاني حقها في الدرس ولم تتبوأ المكانة التي تستحقها في سلّم الاهتمامات الاسلامية لأسباب عديدة لعل من أهمها ما شهدته فترة الستينات والسبعينات من القرن الماضي من تداعيات سياسية عسكرية سلبية (حرب 1967 وسقوط القدس) ؛ وكان المفترض بلبنان بحكم تنوعه الديني وانفتاحه على العالم العربي أن يحمل رسالة الفاتيكان الثاني الى المجتمعات العربية والاسلامية، غير انه غرق في الحرب الداخلية (1975-1990) فعطلت تلك الحرب دوره وشوّهت رسالته. وهكذا بقيت مقررات المجمع الفاتيكان مغيبة ومستبعدة. الا ان الاهتمام بها تيقظ من جديد عندما اتخذ البابا الراحل يوحنا بولس الثاني في عام 1986 مبادرته بالدعوة الى مؤتمر عالمي للحوار بين الأديان عُقد في مدينة أسيزي، موقع ضريح القديس فرنسيس أسيزي الذي حاور المسلمين أثناء حروب الفرنجة (الحملات الصليبية). فقد حرص البابا على دعوة ممثلين مسلمين للمشاركة في هذا المؤتمر الذي اعاد فتح عيون العرب والمسلمين من جديد على ملف العلاقة مع الفاتيكان وتحديداً في ضوء ما صدر عن مجمع الفاتيكان الثاني.
وبعد أسيزي قام البابا يوحنا بولس الثاني بمبادرات ضخت المزيد من الدم في عروق الوعي الاسلامي والعربي لأهمية قرارات المجمع وأبعادها، منها :
زياراته لعدد من الدول الاسلامية في آسيا وافريقيا. فأثناء زيارته لكل من الفلبين ثم المغرب في عام 1985 وصف البابا المسلمين بأنهم "أخوة لنا". وهي الصفة التي أطلقها عليهم أيضاً البابا بولس السادس أثناء زيارته الى يوغندة في عام 1969.
دعوته الى سينودس خاص حول لبنان (1995) وتأكيده على المشاركة الاسلامية في أعماله. وكانت تلك المشاركة الأولى (في تاريخ المجامع الفاتيكانية) لمسلمين في مجمع فاتيكاني.
استجاباته لنداءات قيادات مسيحية فلسطينية وعربية وتعاطفه معها، حول الحقوق الفلسطينية.
زيارته للقدس وتأكيده على ثوابت الموقف الفاتيكاني منها، وهو موقف رافض للتهويد.
اضافة الى ذلك، شهد الربع الأخير من القرن العشرين سلسلة من المبادرات المسيحية المختلفة للانفتاح على المسلمين وللحوار معهم . أثمرت تلك المبادرات التي التزمت بروح الفاتيكان الثاني، عن تجاوب اسلامي تمثل هذه المرة في اطلاق سلسلة من المبادرات الاسلامية منذ مطلع القرن الواحد والعشرين. منها :
قيام "ثنائيات حوارية" بين الفاتيكان من جهة وكل من الأزهر الشريف في مصر، ومؤسسة آل البيت في الأردن، وجميعة الدعوة الاسلامية العالمية في ليبيا، عقدت جلسات وندوات متبادلة حول اسس التعاون المتبادل ومواجهة القضايا المشتركة. كما ان هناك حواراً ثنائياً بين اندونيسيا والفاتيكان.
مبادرة منظمة التعاون الاسلامي أمام الأمم المتحدة التي أعلنها بإسمها الرئيس الايراني الأسبق محمد خاتمي (الرئيس الدوري للمنظمة) لاعتبار عام 2000 عاماً للحوار بين الأديان.
مبادرة الدعوة الى "كلمة سواء" حول "حب الله وحب الجار" التي أطلقتها منظمة آل البيت في الأردن.
مبادرة "تعارفوا" التي أطلقتها جمعية الدعوة الاسلامية العالمية ليبيا، للتعارف بين أهل الأديان المختلفة على أساس ان الدين واحد وان الله واحد، وان الناس جميعهم خلقوا من نفس واحدة، وانهم مدعوون للتعارف من خلال الحوار.
مبادرة الملك عبد الله بن عبد العزيز للحوار بين الأديان والثقافات، وهي من أهم هذه المبادرات لأسباب ثلاثة :
السبب الأول هو ان صاحب المبادرة هو خادم الحرمين الشريفين، اقدس موقعين لدى المسلمين.
السبب الثاني هو ان الملك حرص على عقد مؤتمر اسلامي في مكة المكرمة سبق اعلان مبادرته، ضم علماء مسلمين من جميع المذاهب ومن جميع الدول، أكد على أهمية الحوار مع أهل الأديان والثقافات الاخرى وعلى ضرورته، وأقرّ في الوقت عينه مبدأ شرعيته وآليته. ثم زار البابا بنديكتوس السادس عشر واجتمع اليه في الفاتيكان.
أما السبب الثالث فهو تحويل هذه المبادرة الى مركز عالمي مقرّه فيينّا. والشركاء الدوليون فيه هم المملكة العربية السعودية والنمسا واسبانيا، اضافة الى الفاتيكان الذي يتمتع بصفة عضو مؤسس مراقب. ويتولى الامانة العامة للمنظمة شخصية سعودية بارزة لها باع طويل في الحوار وهو وزير في الديوان الملكي، كما يتولى نيابة الأمانة العامة وزيرة العدل السابقة في النمسا. ويضم مجلس الادارة ممثلين عن المسيحيين الكاثوليك والارثوذكس والانجيليين، كما يضم ممثلين عن الاسلام السني والشيعي، وعن اليهودية والبوذية والهندوسية.
السؤال الآن: هل كان لهذه المبادرات الاسلامية المتعددة أن تبصر النور لو لم يسبقها الى ذلك مجمع الفاتيكان الثاني؟ وهل يمكن لأي من هذه المبادرات أن تحقق اهدافها في اقامة علاقات احترام ومحبة وتعاون خاصة مع المسيحيين في العالم عامة ومع مسيحيي الشرق خاصة من دون الارتكاز الى المبادئ التي وضعها الفاتيكان الثاني وعمل عليها؟
ان آخر الأمثلة على مبادرات الفاتيكان التي تؤكد استمرار الالتزام بمقررات المجمع الثاني هو السينودس حول الشرق الأوسط الذي دعا اليه وترأسه البابا بنديكتوس السادس عشر والذي توج بإعلان وثيقة الإرشاد الرسولي من بيروت في أيلول 2012. فالسينودس خصص لبحث أوضاع مسيحيي الشرق والمخاطر التي يواجهونها في خضم المتغيرات التي تعصف بمعظم دول المنطقة. والارشاد الرسولي الذي صدر عنه يؤكد على التعايش الاسلامي المسيحي وعلى دعوة المسيحيين الى التجذر في أوطانهم في ظل المساواة في المواطنة واحترام الحرية الدينية، تاج الحريات، كما وصفها.
خرج المجمع الفاتيكاني الثاني من تجربة السلبية الطويلة السابقة من الاسلام بوضع أسس ومبادئ للتعايش مع المسلمين كأخوة ومؤمنين بالله الواحد. ان دور المسلمين اليوم هو اثراء هذه الأسس والمبادئ وإغناؤها والبناء عليها. ومن هنا أهمية سلسلة المبادرات الاسلامية، ومن هنا أيضاً أهمية الإرشاد الرسولي الأول حول لبنان (1995) والثاني حول الشرق الأوسط (2012).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق