كيف أثّر قلسطينس على قرار بينيديكتوس بالاستقالة؟ معركة الخلافة بين المحافظين والانفتاحيين

  النهار ـ هالة حمصي
قبل 719 عاما، حصل الامر عينه... تقريبا. البابا قلسطينس الخامس "هذا الراهب الفرنسيسكاني الناسك حضر في 13 ك1 1294 امام الكرادلة، فنزع ثيابه الحبرية وجلس ارضا، واعلن انه ينسحب ثانية الى القفر ليحفظ ضميره نقيا ويتابع حياته النسكية"(1). لم يبق في منصبه سوى 5 اشهر، واستقال بملء ارادته. وبعد 7 قرون، بقيت معزته خاصة عند البابا بينيديكتوس السادس عشر الذي خصه "بحركات وعظات"، في تواطوء جميل، الى حد التشبه به: الاستقالة بدوره.

في 28 نيسان 2009، وصل بينيديكتوس الى بازيليك سيدة كوليماجيو في اكيلا، حيث وضع على ذخائر قلسطينس "الباليوم" الذي تلقاه يوم تنصيبه بابا العام 2005. كانت هذه طريقته لتوجيه تحية حارة الى قلسطينس، ثم عاد وتكلم عنه بتقدير في 4 تموز 2010. واذا كان من المعجبين به، فان بابوات آخرين أُجبِروا او اضطروا، لسبب مختلف عن سبب قلسطينس، الى ترك البابوية، من دون ملء ارادتهم، وفي ظروف تاريخية معقدة احتدمت فيها الصراعات السياسية.
 بين الـ264 بابا (قبل بينيديكتوس)، هناك 7 (الى قلسطينس): اقليمنضس الاول (88) الذي "أُجبِر" على ترك اسقفية روما، "سُجِنَ ونفي" في عهد الملك تراجان بسبب نشره التعاليم المسيحية". بنطيانس (230) "قُبِض عليه وارسل الى المناجم في سردينيه. استقال من منصبه ومات من سوء المعاملة التي لقيها"(1). مرتينس الاول (649) "خطفه الجنود واقتيد الى الخرسونيز، حيث مات ذليلا".
بينيديكتوس الخامس (964) جُرِّد من ثيابه الحبرية، وعُزِل رسميا من منصبه، بتأثير الامبراطور اوتون الذي جاء ببابا آخر عمد الى تحطيم الصولجان البابوي على رأس بينيديكتوس. بينيديكتوس التاسع (1033) "انزله نهائيا مجمع في رومةا دعا اليه الملك هنري الثالث". غريغوريوس السادس (1045) "اضطر الى التنحي، ونفي الى كولونيا". غريغوريوس الثاني عشر (1406) "تنحى"  لحل مشكلة الانشقاق الكنسي الخطير يومذاك. وكان الاخير الذي ترك البابوية.
واذا كان هؤلاء تنحوا، مختارين او مضطرين، فان الاستقالة الطوعية للبابا قانونية بموجب "القانون الكنسي"، وتحديدا في البند 2 من المادة 332: "إذا حصل أن تخلّى الحبر الـروماني عن منصبه، يلزم لصحّة التخلّي أن يتمّ بحرّية، وان يُعلَن كما يجب، لكن لا يلزم ايا كان أن يقبله"(2). وهذا يعني ان هناك شرطين لصحة هذا التخلي: الحرية والإعلان. وفي وضع البابا بينيديكتوس ، كانا متوافرين.
في 28 شباط 2013، الساعة 19,00 ت.غ، يعود البابا بينيديكتوس "الكاردينال جوزف راتزينغر". ففي "السابعة عادة، ينهي يوم عمل عادياً". لكن في ذلك اليوم، ينهي بابويته، وتبدأ مرحلة "الكرسي الشاغر" التي يتولى خلالها "الكامرلينغو" رئيس الغرفة الرسولية، وهو حاليا امين سر دولة الفاتيكان الكاردينال ترشيسيو برتوني، "رئاسة" الفاتيكان. وفي شهر آذار 2013، ينعقد مجمع الكرادلة لانتخاب البابا الجديد. فوفقا للدستور الرسولي، تراوح مهلة دعوة المجمع من 15 الى 20 يوما بعد وفاة البابا او استقالته، ويتوجب الا يكون الكرادلة المشاركون تجاوزوا الثمانين، بما يجعل عدد "ناخبي" البابا 117 "أميرا"، منهم 67 رسمهم بينيديكتوس، ويؤمل ان ينجحوا في مهمتهم، قبل عيد الفصح، اذا امكن، في 31 آذار 2013.
العزلة التامة من شروط انعقاد المجمع. ينتقل الكرادلة في موكب من كنيسة "بولين" الى كنيسة "ستسيتن". تقفل وراءهم الابواب وتسحب المفاتيح. ووفقا للدستور، لا يحق لهم ان يصوّتوا لانفسهم، وعليهم ان يؤدوا اليمين، كل بدوره، باحترام سرية التصويت وقبول النتيجة. كذلك، يقسمون بان من ينتخب بينهم بابا لا يتراجع مطلقا عن المطالبة بكامل حقوق الحبر الاعظم. ويتم التصويت مرتين صباحا، ومرتين مساء. وتحرق بطاقات التصويت. اما من يفوز بالبابوية فهو الذي ينال ثلثي الاصوات. وعند صدور النتيجة، يطلب عميد الكرادلة من "الفائز" اذا كان يقبل انتخابه. فاذا كان جوابه ايجابيا، يُعلَن بابا على الفور... مع الاسم الذي اختاره له في حبريته. ويُعلَم المؤمنون المحتشدون في ساحة القديس بطرس بالنتيجة بالاستعانة بموقد موضوع في "سيستين"، ودخان ابيض متصاعد من داخون في الخارج.
واذا كان "كل ما يحصل في السيستين يبقى فيها"، فان الهمس في الكواليس الفاتيكانية بدأ بعد دقائق من تفجير البابا قنبلته، ايذانا بانطلاق "طبخة" البابا الجديد. للعارفين، الانتخابات البابوية معركة فعلية، كالمعارك السياسية، فيها تحالفات وائتلافات، ولكن من دون مرشحين معلنين، وبتعتيم شديد. غير ان الكاردينال الغاني بيتر تركسون كان صريحاً. "حان الوقت لبابا من الجزء الجنوبي من الكرة الارضية، حيث يعيش مليار و200 مليون كاثوليكي"، على قوله، مبديا الاستعداد لهذا المنصب، "اذا كانت ارادة الله". وتضامنت معه في المطالبة اصوات من قارته، في وقت تبدي اميركا اللاتينية الطموح عينه. ويُعتقد ان حظوظها قوية، بتلميح مسؤوليَن فاتيكانيين كبيرين، قبل مدة وفي شكل مفاجىء، ان البابا المقبل قد يكون الى حد كبير منها، وان "مستقبل الكنيسة ليس في اوروبا".
معروف ان نصف اعضاء المجمع من اوروبا، رغم انها لا تمثل سوى ربع الكاثوليك في العالم. ومعروف ايضا ان المجمع يخبىء مفاجآت، ومن حكمه الشائعة "ان من يدخله بابا قد يخرج منه كاردينالا". ومع ذلك، فان المرشحين "الاقوياء" تجاوزوا الــ17 وهم من مختلف القارات. ايا يكن، ستكون المعركة بين المحافظين والانفتاحيين منهم، وفقا لخبراء، "والكفّة تميل الى الفريق الاول". واذا كان البابا ينسحب الى دير "ماتر اكليزيا" في حدائق الفاتيكان، "للدراسة والصلاة والكتابة"، فانه اعطى الكرادلة، باستقالته، اول "معلومة": ضرورة انتخاب شخص اصغر سنا مما كان عليه يوم انتخابه هو، اي في الـ78. ويترك لخلفه تحديات كثيرة، منها مطالب باصلاحات داخلية وملفات التثاقف والتحرش الجنسي وتمويل الفاتيكان واصلاح الادارة واضطهاد المسيحيين والعلاقة بمختلف الديانات وكل ما يتعلق بالاخلاقيات... مع دعوة واحدة: "تجديد فعلي للكنيسة".
(1) "معجم البابوات" لخوان داثيو- دار المشرق.
(2) www.vatican.va/archive/ENG1104/__P16.HTM

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق