الغربة ـ فريد بو فرنسيس
لمناسبة عيد القديس مارون، تراس البطريرك الماروني الكاردينال مار بشاره بطرس الراعي، قداسا احتفاليا في كنيسة مار مارون في طرابلس، بدعوة مشتركة بين رعية مار مارون وراعي الابرشية المطران جورج بو جوده، شارك في الذبيحة الالهية الى جانب البطريرك الراعي، راعي الابرشية المطران جورج بو جوده، والمطارنة فرنسيس البيسري، منير خيرالله، حنا علوان، ومطانيوس الخوري، امين سر البطريرك المونسنيور نبيه الترس، والمونسنيور جوزيف بواري، والمونسنيور نبيه معوض، ولفيف من كهنة الابرشية المنتشرة في اقضية طرابلس، زغرتا، الكورة، الضنية، وعكار. بمشاركة الارشمندريت يوحنا بطش ممثلا متروبوليت طرابلس والكورة للروم الاتوذوكس المطران افرام كرياكوس. حضر القداس وزير الاقتصاد والتجارة نقولا نحاس ممثلا الرئيس نجيب ميقاتي، والوزراء محمد الصفدي، فيصل كرامي، النواب: سامر سعاده، سمير الجسر، خضر حبيب، احمد فتفت، روبير فاضل، النواب السابقون: جهاد الصند، مصطفى علوش، جواد بولس، قيصر معوض، محمود كبو، عبد المجيد الرافعي، طوني ماروني ممثلا وزير الطاقة جبران باسيل، الوزير السابق جان عبيد، العميد مروان حلاوة ممثلا قائد الجيش العماد جان قهوجي، العميد فواز متري ممثلا اللواء اشرف ريفي، العميد جوزيف عبيد ممثلا مدير عام الامن العام اللواء عباس ابراهيم، العقيد فؤاد خوري ممثلا قائد الدرك العميد جوزيف دويهي، قاضي التحقيق الاول في الشمال رفول البستاني، طلال الدويهي ممثلا الرابطة المارونية، شارل حاج ممثلا مؤسسة الانتشار الماروني، رؤساء اتحادات بلدية وبلديات شمالية، ونقباء المهن الحرة وعمداء الجامعات، وسفراء، وقائمقامين، رئيس مجلس اردارة مرفا طرابلس السابق انطوان حبيب.
في بداية القداس القى خادم رعية مار مارون المونسنيور نبيه معوض كلمة رحب فيها بالبطريرك الراعي وقال : صاحب الغبطة والنيافة، لقد شئتم أن تحتفلوا معنا الليلة بالذبيحة الإلهية عشية عيد شفيع الكنيسة المارونية القديس مارون الذي ترك أهله وعشيرته واعتنق المشورات الإنجيلية، فجمع في شخصه غنى الحكمة وخلق خطاً قوامه الشهادة الحية،حملها شعبه الرهباني إلى أودية لبنان وجباله. مضت قرون ولا يزال خط مارون يسيّر الكنيسة المارونية وسط العواصف والتشرذم والتفكك، مذكّراً إياها بأن دعوتها الأساسية هي الصليب، وفي رفضها له خيانة لدعوتها ومبررات وجودها. وما الرفاهية والسير وراء السلطة بغية اعلان شأن المارونية السياسي والسلطوي على حساب الجلجلة إلا خدعة إلى الموت الحقيقي". والكنيسة المارونية التي أعطت شربل ورفقا والحرديني ، وساسها بطاركة عظام كالمكرم اسطفان الدويهي ومار نصرالله بطرس صفير، أطال الله بعمره، ويتربع على كرسيها اليوم مار بشاره بطرس الراعي، الكلي الطوبى، فلا خوف على هذه الكنيسة. وطالما أن الكنيسة المارونية بخير، فلبنان بألف خير".
اضاف المونسنيور معوض :" نحن أمناء على إرث كبير غال لا يثمّن ، نحن أمناء على خمسة عشر قرناً من القداسة والبطولة والكفاح . نحن أمناء على حضارة وتراث ملء التاريخ . هذا الإرث هو لنا جميعاً والحفاظ عليه مطلوب منا جميعاً ، كل من موقعه ، وكل بحسب قدراته ، وعظمتنا تكمن في الحفاظ عليه ونقله إلى الأجيال . وللحفاظ على هذا الإرث يحتاج الموارنة اليوم إلى وقفة وموقف وقرار . وقفة فيها عين على الماضي وعين على المستقبل ، عودة إلى الجذور وأخذ العبر من عظمة الأسلاف ، وتطلّع إلى المستقبل لبعث النهضة برجاء وأمل. أما الموقف فيكون أولا برفض الإحباط والإنهزامية ، وثانياً بالإمتلاء من الذات ، وثالثاً باستمداد القوة من الذي يقوّينا".
وتابع المونسنيور معوض :"صاحب الغبطة والنيافة ، خدمتكم الأمينة لها ينبوعها : طيبة وجودة في النفس، مودة من نوع الرباط الخفي الذي يشد الأشخاص وحتى إلى الأشياء من حولك . لقد عشت المودة أينما وجدت، رضى وامتثالاً ، بساطة وسهولة في العيش، فثمة قلب لا يعرف التحفظ ولا الحذر ولا الكدر. هذه هي سمة النفوس الصفية التي يختارها الله فتركن إليه وتكتفي به؛ طيبة في القلب، عفوية وإنفة وصراحة ساطعة على محياك، ناضحة على لسانك، لم تخف يوماً رأيك وخيارك ، أعجبتَ أم لم تعجَب. لم تعرف الأنانية والحقد والحسد ، ولم تجز السيئة بسيئة، فطبعك سموح خيّر، مراسك واضح وسهل في أي مجال أُفسح أمامك ، منفتح على الآخر وتحترم رأيه ، وكأني بك تقول مع المجمع الفاتيكاني الثاني في الدستور الراعوي حول الكنيسة في عالم اليوم :"يجب أن يمتد احترامنا إلى كل الذين يفكرون ويعملون بطريقة مغايرة لنا، إن في القضايا الإجتماعية وإن في القضايا السياسية أو الدينية . وبقدر ما نجتهد في تفهم نظرياتهم تفهماً داخلياً مطبوعاً بالحق والتودد ، يسهل حينئذ الحوار معهم " ( فرح ورجاء عدد 8 ).
وقال المونسنيور معوض :" صاحب النيافة، باسمي وبإسم الخوري جوزيف فرح معاوني في خدمة هذه الرعية ، نكرر شكرنا لغبطتكم لهذه الزيارة الراعوية والتي تكللت بدعم وجهود صاحب السيادة المطران جورج بو جوده السامي الاحترام ، والذي لا يترك مناسبة إلا ويرفع الصوت عالياً مذكراً بأن هذه المدينة هي مدينتنا ولن نتخلى عنها وقد دفعنا الثمن غالياً للحفاظ على تنوعها الديني والمذهبي وعلى العيش المشترك فيها. فأحد أسلافكم العظام البطريرك جبرايل حجولا قداستشهد فيها بطريقة بشعة في بداية القرن الرابع عشر ايام المماليك، فهل يُعقل أن نتجاهله فننسى تاريخنا ؟ وما معنى وجودنا من دون أخوتنا من الديانات الأخرى ؟ فبدونهم لا مبرر لهذا الوجود . فكل منا يغني الآخر بثقافته وتراثه وتقاليده ، وفينا جميعاً يغتني لبنان".
وختم المونسنيور معوض قائلا :" نحن كموارنة لا يمكن أن نعي تاريخنا إلا كتاريخ تجدد بالروح وشهادة للمحبة وإنفتاح على الآخرين مع التمسك بالأصالة والحفاظ على الهوية. وكما يقول المجمع الفاتيكاني الثاني :" وبما أن الله الآب هو مبدأ جميع البشر وغايتهم ، فكلنا مدعوون إلى أن نكون أخوة وبما أن مصيرنا هو الدعوة الإلهية الواحدة نفسها، نستطيع بل يجب أن نتعاون ، مبتعدين عن العنف والأفكار المبطّنة لنبني العالم على أساس السلام الحق "(فرح ورجاء عدد 92) عشتم يا صاحب الغبطة والنيافة ، عاشت الكنيسة المارونية وعاش لبنان".
من ثم بدا القداس الذي خدمته جوقة مار مارون بقيادة الاستاذ نديم معوض، وبعد تلاوة الانجيل المقدس القى البطريرك الراعي عظة قال فيها :"
من ثم بدا القداس الذي خدمته جوقة مار مارون بقيادة الاستاذ نديم معوض، وبعد تلاوة الانجيل المقدس القى البطريرك الراعي عظة قال فيها :"
"حبّة الحنطة، إنْ وَقَعَتْ في الأرض وماتَتْ، أَتَتْ بثمرٍ كثير"
(يو12: 24)
1. شبَّهَ الربُّ يسوعُ موتَه وقيامتَه بحبّة الحنطة. هكذا عرَّف بنفسِه، عندما جاء بعضُ اليونانيّين يتوسّطون الرسلَ ليرَوه، يومَ دخولِه الأخير إلى أورشليم، قبلَ الآلام والموت بخمسة أيام. فبموتِه على جبل الجلجلة، وبقيامتِه في اليومِ الثالث، وُلدت الكنيسةُ والبشريةُ الجديدة. من أجلِ إدراكِ هذا السرِّ العظيم، شبَّهه "بحبة الحنطة، التي إن وقَعَتْ في الأرض وماتت، أتت بثمر كثير(يو12: 24)؛ وجعل من هذا التَّشبيهِ نهجاً في الحياة البشريّة عامّةً وفي الحياةِ المسيحيّة بخاصّة.
2. يسعدُنا أن نلبي دعوة اخينا المطران جورج بو جوده، رئيس اساقفة طرابلس، ونحتفلَ معكم بعيدِ أبينا القديس مارون، أبي كنيستِنا المارونية وشفيعِ مدينة طرابلس والأبرشيّة، رافعينَ هذه الذبيحةَ المقدّسة على نيّتِكم جميعًا. نُصلِّي من أجلِ الأبرشيّة، من أجل مطرانِها وكهنتِها ورهبانِها وراهباتِها وسائرِ مؤمنيها ومؤمناتِها، لكي يفيضَ الله عليكم، بشفاعةِ القديس مارون، كلَّ خيرٍ ونعمة لتقديسِ الذات ولازدهار الأبرشية وحسنِ القيام برسالتِها في محافظتَي الشمال وعكار. ونصلِّي من اجل مدينة طرابلس، لكي تَنعمَ بالأمنِ والسلام، وتحافظَ على ميزتِها الحضاريّة في العيشِ معًا بانفتاح ورُقيّ، بعيدًا عن النزاعِ والتفرقة والعنف. ولئن اضطرتنا احداث مؤلمة على تأجيل زيارتها المطوّلة لجميع مكوناتها، فان طرابلس واهلها في قلبنا وصلاتنا ومحبتنا. وجئنا اليوم، بمناسبة عيد القديس مارون، وعيده وطني جامع لكل اللبنانيين، لكي نؤكد تقديرنا للمدينة وشعبها.
إننا نُحيّي قادتَها الروحيِّين والسياسيِّين والإداريِّين والعسكريِّين والتربويِّين، في ما يبذلون من جهودٍ ومساعٍ لحفظ الفيحاء، عاصمةِ الشمال، مساحةَ سلامٍ وتلاقٍ وحوار، ولاستلهامِ تاريخِها المجيد وإعادةِ إحيائه، والسَّيرِ به نحو مستقبلٍ أفضل وأكثر إشعاعًا.
ونوجّه تحية خالصة الى الاخ والصديق مفتي المدينة سماحة الشيخ مالك الشعّار، راجين رجوعه الينا بخير وسلامة، لنواصل السعي المشترك الى شدّ اواصر الشركة والمحبة.
3. سلكَ القدِّيس مارون نهجَ يسوع المسيح، المائتِ والقائمِ من الموت، نهجَ حبَّة الحنطة. عاش مارون، الكاهنُ الناسك، بينَ أنطاكيه وحلب، في منطقةِ قورش. قضى حياته مائتًا عن ذاتِه وعن العالم ومغرياتِه. فتكوكبت من حولِه جمهرةٌ من التلاميذ، الذين اقتفَوا نهجَه الروحي، وشكَّلوا بستاناً من الكرمات الروحية. عاش حياةً نسكيّةً في العراء على أنقاضِ هيكلٍ وثني، فراشُه الأرض وسقفُه السماء، في القسم الثاني من القرن الرابع وحتّى بدايةِ الخامس، وانتقل من غربةِ الدنيا إلى مجدِ السماء سنة 410.
إنّه ينتمي إلى التراثِ الانطاكي السرياني، المميَّز بروحانيَّةِ سرِّ المسيح، ابنِ الله المتجسِّد وفادي الجنسِ البشري، وبدعوةِ مريم والدةِ الإله وشريكةِ الفداء، المُصغيةِ الدائمة لكلامِ الله، تقبلُه في قلبها، كما تقبلُ الأرضُ الطَيِّبة حبّة الحنطة، وتعيشُ بمقتضاه وتُثمر. فكانت مرآةَ الحياة المسيحية والإنسانية. وكانت ثمرتها الأولى يسوع المسيح التاريخي، وثمرتها الثانية المسيح السرّي أو الكلّيّ الذي هو الكنيسة، جسد المسيح. وهكذا أصبحَ نهجُ حبّة الحنطة ميزةَ المسيحيّين.
4. كتب سيرةَ القديس مارون، العلاّمةُ تيودوريطس مطرانُ القورشيّة. ولئن لم يعايشْه، فقد عرفَه بشهادة تلاميذه الكثر الذين زيّنوا القورشيّة ناهجين نهجَه في الحياةِ النسكيّةِ والتقشّفِ والصلاة.
عاش مارونُ الكاهنُ الناسك في عبادةِ الله، تحتَ سقفِ السماء، ساهرًا وعابدًا. وكان عندما يشتدُّ البردُ والصقيع، يأوي تحت خيمةٍ من شعر الماعز، ويقيمُ قدّاسَه في المعبد الوثني الذي حوَّلَه هيكلاً لله. جسَّد نهجَ "حبّة الحنطة" التي تقعُ في الأرض وتموت"، بالصوم والصلوات الطويلة وليالي السهر وممارسةِ السجود والعبادة، وتلاوةِ صلاةِ الساعات في النهارِ والليل، والتأمّلاتِ المستغرقة في كمالات الله، وحبسِ الذاتِ في مكانٍ ضيّق، الذي لم يكنْ يخرج منه إلّا للعملِ في الأرض وزراعتِها، وإنهاكِ الجسد حتى إطفاءِ شهواتِه، والتقشفِ بلباسِ المسحِ من شعرِ الماعز، وحرمانِ الذاتِ من الجلوسِ والنومِ في ليالٍ كاملة. وفوقَ ذلك كانَ يُرشد المؤمنين الذين يقصدونه، مشدِّداً الضعفاءَ، ومعزِّياً الحزانى. ووهبَه اللهُ موهبةَ الشفاء، فطارَ صيته في تلك الأنحاءِ، وكطبيبٍ، دواؤه الصلاةُ وكلمةُ الإنجيل، كان يشفي من كلِّ عاهاتِ الجسد والنفس. هكذا وصفَه المطران تيودوريطس، مؤرّخُ حياتِه الأوّل. وكتبَ إليه صديقُه القدِّيس يوحنا فم الذهب، بطريركُ القسطنطينيّة، من منفاه طالباً صلاتَه لتعضده في عذاب المنفى.
5. بنتيجةِ هذا الموتِ الدائم عن الذات، وُلدت، كالثِّمار من حبَّةِ الحنطة، كوكبةٌ من التلاميذِ حول مارون، نهجوا نهجَه في حركةٍ روحيةٍ نسكية، حدَّدَها تيودوريطس "بفلسفةِ حياة العراء"، وجعلوا منها طريقةَ قداسةٍ على قاعدتَي الإيمانِ وحرية أبناءِ الله، متحرِّرين من كلِّ عبوديّات الدنيا. ثمّ كوَّنوا جماعةً رهبانيّةً تبنّت تعليمَ مجمعِ أفسس (431) الذي أعلنَ عقيدةَ أمِّ الإله، فاتَّخذت هذه الجماعةُ الروحانيّةَ المريميّة. وأطلّت في مجمعِ خلقيدونيا (451) إلى جانبِ المطران تيودوريطس، وساندَتْ العقيدةَ التي أعلنها المجمع والبابا لاون الثالث عشر عن يسوع المسيح الإله الكامل والإنسان الكامل، ذي الطبيعتَين الإلهيّة والبشريّة في شخصِه الإلهي الواحد، واتّخذَتْ الجماعةُ المارونيةُ روحانيّةَ التجسّد. وهكذا بُنيت الروحانيّةُ المارونيّة وليتورجيتُها على سرِّ التجسّد وتكريمِ السيدة العذراء، أمِّ الإله وأمِّنا، ومورسَتْ في الصلاةِ وروحِ التوبة والتقشّف والرسالة الإنجيلية. وتجلَّت هذه الجماعةُ الرهبانية ونمَت وكَثُرَت وأضحت مدرسةً روحانيةً ولاهوتية، في دير حمل اسمَ "بيت مارون" على ضفاف العاصي، ترأَّسَ على تجمّعِ أديارِ المنطقة، ونشأَت حولَه جماعةٌ مسيحيّةٌ حوّلتْها العنايةُ الإلهية إلى كنيسةٍ بطريركيّةٍ مستقلّة عن أيِّ التزامٍ بامبراطورِ بيزنطية أو بالخليفة الأموي سنة 686. وكان بطريركها الأوّل القديس يوحنا مارون.
5. تميَّزت المارونيّةُ منذ نشأتِها إلى اليوم بميزاتٍ ثلاث: الميزةُ الأولى عقائدية هي كاثوليكيتها بوجهَيها: الاتّحادُ الدائم بكرسي بطرس في روما، وانفتاحُها على الشموليةِ وجامعيةِ الكنيسة. ولقد ظلَّ الماروني الكاثوليكي الوحيد في الشرق طوالَ قرونٍ عديدة. والميزةُ الثانيةُ سياسيةٌ هي مطالبتُها الدائمة بوطن، ورفضُها الانتماءَ إلى الأمبراطوريات القائمة والمتتالية: البيزنطية والأموية والعباسية والعثمانية، حتى استقرَّت المارونيةُ في لبنان، وحقَّقت فيه حلمَها. والميزةُ الثالثة فكريةٌ هي بحثُها الدائمُ عن الحريةِ الشخصيةِ والجماعية بوجه ما تفرضُه المجموعاتُ الدينية أو العشائرية أو الوطنية على أتباعها .
6. لمناسبة الصومِ الكبير، الذي سنبدأه الاثنين المقبل، وجَّهْتُ رسالةً راعوية عنوانُها: "الصومُ الكبير: رِحلةُ عبورٍ نحو الفصح". إنّني أدعو فيها أبناءَ كنيستنا المارونية، إكليروساً وعلمانيّين، إلى الالتزامِ بروحانيةِ الصومِ الأربعيني القائمةِ على ثلاثةٍ مترابطة ومتكاملة: الصوم والصلاة والصدقة، كأركانٍ للحياة المسيحية، المُهدَّدة اليوم بالروحِ الاستهلاكية والمادية، وبالجنوحِ إلى المتعةِ والروحِ المتعلمنة الظاهرةِ لدى البعض. كلُّ هذه الظاهرات تضعُ اللهَ جانباً، وتتنكَّرُ لكلامِه الحيّ، وتنتهِكُ وصاياه، وتزدري بتعليم الكنيسة، وتقطعُ الروابطَ الروحيةَ والأخلاقية في الحياة الزوجية والعائلية والاجتماعية والوطنية. إنّ الكنيسةَ أمام مسؤوليةٍ راعويةٍ كبيرة لمواجهة الجهل الديني والروحِ المتعلمن والتيَّارات الهدَّامة.
ينبغي علينا كمسيحيِّين عامّة، وكموارنةٍ خاصّة، أن نلتزمَ بفريضةِ الصوم المقرونةِ بالصلاةِ وأعمالِ المحبة، مُتَّخذين قاعدةً لحياتنا مثالَ ربِّنا يسوع المسيح، لما لها من قيمةٍ وثمارٍ في حياتِنا: نتعلَّمُ التواضعَ الذي يرفعُ كرامتَنا، والخضوعَ لإرادةِ الله الذي يحرِّرُنا؛ ونعيشُ المشاركةَ في آلامِ المسيح التكفيريّة عن خطايانا الشخصيّة وخطايا جميعِ الناس؛ وندرّبُ الإرادةَ على التحرُّرِ من العبوديات والنزواتِ والتجاربِ والميولِ المنحرفة؛ ونعيدُ إلى مجتمعاتِنا القيمَ الروحيةَ والأخلاقيةَ والإنسانية؛ وننشرُ ثقافةَ الأخوّةِ والشَّركة والمحبة.
وإننّا ندعو الجميعَ إلى تكثيفِ التأمّلِ بكلامِ الله وممارسةِ سرِّ التوبةِ والمصالحة، من خلالِ المشاركةِ في الرياضاتِ الروحية وليتورجياتِ التوبة التي تُقام في الرعايا، والاستفادةِ من البرامجِ الروحيّة التي تبثُّها وسائلُ الإعلام التابعةُ للكنيسة.
7. إنّ قداسةَ البابا بندكتوس السادس عشر يدعونا في مناسبةِ سنة الإيمان، التي افتتَحَها في تشرين الأوّل الماضي، للتعمّقِ في إيمانِنا المسيحي والسعي إلى اللقاءِ الشخصي بواسطةِ ربِّنا وإلهِنا يسوع المسيح؛ وهو لقاءٌ يبدِّلُ نظرتَنا ويشفي نفوسَنا ويملأُ قلوبَنا محبةً وفرحاً، ويُرسلنا لبناءِ حضارةِ المحبةِ والحقيقةِ والسلام في مجتماعتِنا.
ويدعونا الأبُ الأقدس، بإرادةٍ رسولية أصدرَها في تشرين الثاني 2012، إلى تنظيم خدمة المحبة الاجتماعيّة على صعيدِ الرعايا والأبرشيات والمؤسَّسات، وهي خدمةٌ تنبعُ من صميمِ طبيعةِ الكنيسة، وتشكّلُ جوهرَ رسالتِنا المسيحيّة. وما أحوجَنا إليها في هذه الأيّامِ التي ترمينا في أزمةٍ إقتصاديةٍ ومعيشيةٍ خانقة!
إنَّني أنشرُ في رسالتي الراعوية لزمن الصوم توجيهاتِ قداسةِ البابا، حولَ عيشِ مقتضياتِ سنة الإيمان، وحولَ تنظيمِ خدمةِ المحبة الاجتماعية، وأستودعُ كلَّ هذه الأمور غيرةَ وعنايةَ سيادةِ راعي الأبرشية وكهنتِها ورهبانِها وشعبِها المؤمنِ والملتزم.
8. يُملي علينا القديس مارون، في مناسبة عيدِه هذه السنة، الالتزامَ بالروحانيةِ المارونية القائمةِ على الصلاةِ والتأمّلِ والتجرّد، والمبنيّةِ على سرِّ التجسّدِ والتكريمِ للسيدة العذراء، والمُحصَّنةِ بكلامِ الله في الإنجيلِ وتعليم الكنيسة. ويُملي علينا الالتزامَ بالرسالةِ المارونية الرامية إلى نشرِ ثقافةِ الحريةِ المتحرِّرة من عبوديّاتِ الخطيئة والشرِّ والإيديولوجياتِ الأرضيّة، والإخلاصِ للوطن، والانفتاحِ على جميعِ الأديانِ والثقافات، والعيشِ معاً بالتكاملِ والتعاونِ والثقةِ المتبادلة. ويُملي علينا أخيراً الالتزامَ بنهجِ "حبّةِ الحنطة"، أعني التضحيةَ والموتَ عن الذات من أجلِ ولادةِ حياةٍ ومجتمعٍ ووطنٍ أفضل.
وإننّا، إذ نهنِّئكم جميعاً بعيدِ أبينا القدّيس مارون، ونهنئ ابناء هذه الرعية ولجانها ومنظماتها الرسولية وعلى رأسهم حضرة كاهنها الخوراسقف نبيه معوض. نصلِّي من أجلِ السلامِ في هذه المدينة، طرابلس وسائرِ أرجاءِ الأبرشية، وفي لبنان وسوريا وبلدانِ الشَّرق الأوسط. ومع أبينا القديسِ مارون وتلاميذِه القدِّيسين، نرفعُ نشيدَ المجدِ والتسبيحِ للآبِ والابنِ والروح القدس، الآنَ وإلى الأبد، آمين.
(يو12: 24)
1. شبَّهَ الربُّ يسوعُ موتَه وقيامتَه بحبّة الحنطة. هكذا عرَّف بنفسِه، عندما جاء بعضُ اليونانيّين يتوسّطون الرسلَ ليرَوه، يومَ دخولِه الأخير إلى أورشليم، قبلَ الآلام والموت بخمسة أيام. فبموتِه على جبل الجلجلة، وبقيامتِه في اليومِ الثالث، وُلدت الكنيسةُ والبشريةُ الجديدة. من أجلِ إدراكِ هذا السرِّ العظيم، شبَّهه "بحبة الحنطة، التي إن وقَعَتْ في الأرض وماتت، أتت بثمر كثير(يو12: 24)؛ وجعل من هذا التَّشبيهِ نهجاً في الحياة البشريّة عامّةً وفي الحياةِ المسيحيّة بخاصّة.
2. يسعدُنا أن نلبي دعوة اخينا المطران جورج بو جوده، رئيس اساقفة طرابلس، ونحتفلَ معكم بعيدِ أبينا القديس مارون، أبي كنيستِنا المارونية وشفيعِ مدينة طرابلس والأبرشيّة، رافعينَ هذه الذبيحةَ المقدّسة على نيّتِكم جميعًا. نُصلِّي من أجلِ الأبرشيّة، من أجل مطرانِها وكهنتِها ورهبانِها وراهباتِها وسائرِ مؤمنيها ومؤمناتِها، لكي يفيضَ الله عليكم، بشفاعةِ القديس مارون، كلَّ خيرٍ ونعمة لتقديسِ الذات ولازدهار الأبرشية وحسنِ القيام برسالتِها في محافظتَي الشمال وعكار. ونصلِّي من اجل مدينة طرابلس، لكي تَنعمَ بالأمنِ والسلام، وتحافظَ على ميزتِها الحضاريّة في العيشِ معًا بانفتاح ورُقيّ، بعيدًا عن النزاعِ والتفرقة والعنف. ولئن اضطرتنا احداث مؤلمة على تأجيل زيارتها المطوّلة لجميع مكوناتها، فان طرابلس واهلها في قلبنا وصلاتنا ومحبتنا. وجئنا اليوم، بمناسبة عيد القديس مارون، وعيده وطني جامع لكل اللبنانيين، لكي نؤكد تقديرنا للمدينة وشعبها.
إننا نُحيّي قادتَها الروحيِّين والسياسيِّين والإداريِّين والعسكريِّين والتربويِّين، في ما يبذلون من جهودٍ ومساعٍ لحفظ الفيحاء، عاصمةِ الشمال، مساحةَ سلامٍ وتلاقٍ وحوار، ولاستلهامِ تاريخِها المجيد وإعادةِ إحيائه، والسَّيرِ به نحو مستقبلٍ أفضل وأكثر إشعاعًا.
ونوجّه تحية خالصة الى الاخ والصديق مفتي المدينة سماحة الشيخ مالك الشعّار، راجين رجوعه الينا بخير وسلامة، لنواصل السعي المشترك الى شدّ اواصر الشركة والمحبة.
3. سلكَ القدِّيس مارون نهجَ يسوع المسيح، المائتِ والقائمِ من الموت، نهجَ حبَّة الحنطة. عاش مارون، الكاهنُ الناسك، بينَ أنطاكيه وحلب، في منطقةِ قورش. قضى حياته مائتًا عن ذاتِه وعن العالم ومغرياتِه. فتكوكبت من حولِه جمهرةٌ من التلاميذ، الذين اقتفَوا نهجَه الروحي، وشكَّلوا بستاناً من الكرمات الروحية. عاش حياةً نسكيّةً في العراء على أنقاضِ هيكلٍ وثني، فراشُه الأرض وسقفُه السماء، في القسم الثاني من القرن الرابع وحتّى بدايةِ الخامس، وانتقل من غربةِ الدنيا إلى مجدِ السماء سنة 410.
إنّه ينتمي إلى التراثِ الانطاكي السرياني، المميَّز بروحانيَّةِ سرِّ المسيح، ابنِ الله المتجسِّد وفادي الجنسِ البشري، وبدعوةِ مريم والدةِ الإله وشريكةِ الفداء، المُصغيةِ الدائمة لكلامِ الله، تقبلُه في قلبها، كما تقبلُ الأرضُ الطَيِّبة حبّة الحنطة، وتعيشُ بمقتضاه وتُثمر. فكانت مرآةَ الحياة المسيحية والإنسانية. وكانت ثمرتها الأولى يسوع المسيح التاريخي، وثمرتها الثانية المسيح السرّي أو الكلّيّ الذي هو الكنيسة، جسد المسيح. وهكذا أصبحَ نهجُ حبّة الحنطة ميزةَ المسيحيّين.
4. كتب سيرةَ القديس مارون، العلاّمةُ تيودوريطس مطرانُ القورشيّة. ولئن لم يعايشْه، فقد عرفَه بشهادة تلاميذه الكثر الذين زيّنوا القورشيّة ناهجين نهجَه في الحياةِ النسكيّةِ والتقشّفِ والصلاة.
عاش مارونُ الكاهنُ الناسك في عبادةِ الله، تحتَ سقفِ السماء، ساهرًا وعابدًا. وكان عندما يشتدُّ البردُ والصقيع، يأوي تحت خيمةٍ من شعر الماعز، ويقيمُ قدّاسَه في المعبد الوثني الذي حوَّلَه هيكلاً لله. جسَّد نهجَ "حبّة الحنطة" التي تقعُ في الأرض وتموت"، بالصوم والصلوات الطويلة وليالي السهر وممارسةِ السجود والعبادة، وتلاوةِ صلاةِ الساعات في النهارِ والليل، والتأمّلاتِ المستغرقة في كمالات الله، وحبسِ الذاتِ في مكانٍ ضيّق، الذي لم يكنْ يخرج منه إلّا للعملِ في الأرض وزراعتِها، وإنهاكِ الجسد حتى إطفاءِ شهواتِه، والتقشفِ بلباسِ المسحِ من شعرِ الماعز، وحرمانِ الذاتِ من الجلوسِ والنومِ في ليالٍ كاملة. وفوقَ ذلك كانَ يُرشد المؤمنين الذين يقصدونه، مشدِّداً الضعفاءَ، ومعزِّياً الحزانى. ووهبَه اللهُ موهبةَ الشفاء، فطارَ صيته في تلك الأنحاءِ، وكطبيبٍ، دواؤه الصلاةُ وكلمةُ الإنجيل، كان يشفي من كلِّ عاهاتِ الجسد والنفس. هكذا وصفَه المطران تيودوريطس، مؤرّخُ حياتِه الأوّل. وكتبَ إليه صديقُه القدِّيس يوحنا فم الذهب، بطريركُ القسطنطينيّة، من منفاه طالباً صلاتَه لتعضده في عذاب المنفى.
5. بنتيجةِ هذا الموتِ الدائم عن الذات، وُلدت، كالثِّمار من حبَّةِ الحنطة، كوكبةٌ من التلاميذِ حول مارون، نهجوا نهجَه في حركةٍ روحيةٍ نسكية، حدَّدَها تيودوريطس "بفلسفةِ حياة العراء"، وجعلوا منها طريقةَ قداسةٍ على قاعدتَي الإيمانِ وحرية أبناءِ الله، متحرِّرين من كلِّ عبوديّات الدنيا. ثمّ كوَّنوا جماعةً رهبانيّةً تبنّت تعليمَ مجمعِ أفسس (431) الذي أعلنَ عقيدةَ أمِّ الإله، فاتَّخذت هذه الجماعةُ الروحانيّةَ المريميّة. وأطلّت في مجمعِ خلقيدونيا (451) إلى جانبِ المطران تيودوريطس، وساندَتْ العقيدةَ التي أعلنها المجمع والبابا لاون الثالث عشر عن يسوع المسيح الإله الكامل والإنسان الكامل، ذي الطبيعتَين الإلهيّة والبشريّة في شخصِه الإلهي الواحد، واتّخذَتْ الجماعةُ المارونيةُ روحانيّةَ التجسّد. وهكذا بُنيت الروحانيّةُ المارونيّة وليتورجيتُها على سرِّ التجسّد وتكريمِ السيدة العذراء، أمِّ الإله وأمِّنا، ومورسَتْ في الصلاةِ وروحِ التوبة والتقشّف والرسالة الإنجيلية. وتجلَّت هذه الجماعةُ الرهبانية ونمَت وكَثُرَت وأضحت مدرسةً روحانيةً ولاهوتية، في دير حمل اسمَ "بيت مارون" على ضفاف العاصي، ترأَّسَ على تجمّعِ أديارِ المنطقة، ونشأَت حولَه جماعةٌ مسيحيّةٌ حوّلتْها العنايةُ الإلهية إلى كنيسةٍ بطريركيّةٍ مستقلّة عن أيِّ التزامٍ بامبراطورِ بيزنطية أو بالخليفة الأموي سنة 686. وكان بطريركها الأوّل القديس يوحنا مارون.
5. تميَّزت المارونيّةُ منذ نشأتِها إلى اليوم بميزاتٍ ثلاث: الميزةُ الأولى عقائدية هي كاثوليكيتها بوجهَيها: الاتّحادُ الدائم بكرسي بطرس في روما، وانفتاحُها على الشموليةِ وجامعيةِ الكنيسة. ولقد ظلَّ الماروني الكاثوليكي الوحيد في الشرق طوالَ قرونٍ عديدة. والميزةُ الثانيةُ سياسيةٌ هي مطالبتُها الدائمة بوطن، ورفضُها الانتماءَ إلى الأمبراطوريات القائمة والمتتالية: البيزنطية والأموية والعباسية والعثمانية، حتى استقرَّت المارونيةُ في لبنان، وحقَّقت فيه حلمَها. والميزةُ الثالثة فكريةٌ هي بحثُها الدائمُ عن الحريةِ الشخصيةِ والجماعية بوجه ما تفرضُه المجموعاتُ الدينية أو العشائرية أو الوطنية على أتباعها .
6. لمناسبة الصومِ الكبير، الذي سنبدأه الاثنين المقبل، وجَّهْتُ رسالةً راعوية عنوانُها: "الصومُ الكبير: رِحلةُ عبورٍ نحو الفصح". إنّني أدعو فيها أبناءَ كنيستنا المارونية، إكليروساً وعلمانيّين، إلى الالتزامِ بروحانيةِ الصومِ الأربعيني القائمةِ على ثلاثةٍ مترابطة ومتكاملة: الصوم والصلاة والصدقة، كأركانٍ للحياة المسيحية، المُهدَّدة اليوم بالروحِ الاستهلاكية والمادية، وبالجنوحِ إلى المتعةِ والروحِ المتعلمنة الظاهرةِ لدى البعض. كلُّ هذه الظاهرات تضعُ اللهَ جانباً، وتتنكَّرُ لكلامِه الحيّ، وتنتهِكُ وصاياه، وتزدري بتعليم الكنيسة، وتقطعُ الروابطَ الروحيةَ والأخلاقية في الحياة الزوجية والعائلية والاجتماعية والوطنية. إنّ الكنيسةَ أمام مسؤوليةٍ راعويةٍ كبيرة لمواجهة الجهل الديني والروحِ المتعلمن والتيَّارات الهدَّامة.
ينبغي علينا كمسيحيِّين عامّة، وكموارنةٍ خاصّة، أن نلتزمَ بفريضةِ الصوم المقرونةِ بالصلاةِ وأعمالِ المحبة، مُتَّخذين قاعدةً لحياتنا مثالَ ربِّنا يسوع المسيح، لما لها من قيمةٍ وثمارٍ في حياتِنا: نتعلَّمُ التواضعَ الذي يرفعُ كرامتَنا، والخضوعَ لإرادةِ الله الذي يحرِّرُنا؛ ونعيشُ المشاركةَ في آلامِ المسيح التكفيريّة عن خطايانا الشخصيّة وخطايا جميعِ الناس؛ وندرّبُ الإرادةَ على التحرُّرِ من العبوديات والنزواتِ والتجاربِ والميولِ المنحرفة؛ ونعيدُ إلى مجتمعاتِنا القيمَ الروحيةَ والأخلاقيةَ والإنسانية؛ وننشرُ ثقافةَ الأخوّةِ والشَّركة والمحبة.
وإننّا ندعو الجميعَ إلى تكثيفِ التأمّلِ بكلامِ الله وممارسةِ سرِّ التوبةِ والمصالحة، من خلالِ المشاركةِ في الرياضاتِ الروحية وليتورجياتِ التوبة التي تُقام في الرعايا، والاستفادةِ من البرامجِ الروحيّة التي تبثُّها وسائلُ الإعلام التابعةُ للكنيسة.
7. إنّ قداسةَ البابا بندكتوس السادس عشر يدعونا في مناسبةِ سنة الإيمان، التي افتتَحَها في تشرين الأوّل الماضي، للتعمّقِ في إيمانِنا المسيحي والسعي إلى اللقاءِ الشخصي بواسطةِ ربِّنا وإلهِنا يسوع المسيح؛ وهو لقاءٌ يبدِّلُ نظرتَنا ويشفي نفوسَنا ويملأُ قلوبَنا محبةً وفرحاً، ويُرسلنا لبناءِ حضارةِ المحبةِ والحقيقةِ والسلام في مجتماعتِنا.
ويدعونا الأبُ الأقدس، بإرادةٍ رسولية أصدرَها في تشرين الثاني 2012، إلى تنظيم خدمة المحبة الاجتماعيّة على صعيدِ الرعايا والأبرشيات والمؤسَّسات، وهي خدمةٌ تنبعُ من صميمِ طبيعةِ الكنيسة، وتشكّلُ جوهرَ رسالتِنا المسيحيّة. وما أحوجَنا إليها في هذه الأيّامِ التي ترمينا في أزمةٍ إقتصاديةٍ ومعيشيةٍ خانقة!
إنَّني أنشرُ في رسالتي الراعوية لزمن الصوم توجيهاتِ قداسةِ البابا، حولَ عيشِ مقتضياتِ سنة الإيمان، وحولَ تنظيمِ خدمةِ المحبة الاجتماعية، وأستودعُ كلَّ هذه الأمور غيرةَ وعنايةَ سيادةِ راعي الأبرشية وكهنتِها ورهبانِها وشعبِها المؤمنِ والملتزم.
8. يُملي علينا القديس مارون، في مناسبة عيدِه هذه السنة، الالتزامَ بالروحانيةِ المارونية القائمةِ على الصلاةِ والتأمّلِ والتجرّد، والمبنيّةِ على سرِّ التجسّدِ والتكريمِ للسيدة العذراء، والمُحصَّنةِ بكلامِ الله في الإنجيلِ وتعليم الكنيسة. ويُملي علينا الالتزامَ بالرسالةِ المارونية الرامية إلى نشرِ ثقافةِ الحريةِ المتحرِّرة من عبوديّاتِ الخطيئة والشرِّ والإيديولوجياتِ الأرضيّة، والإخلاصِ للوطن، والانفتاحِ على جميعِ الأديانِ والثقافات، والعيشِ معاً بالتكاملِ والتعاونِ والثقةِ المتبادلة. ويُملي علينا أخيراً الالتزامَ بنهجِ "حبّةِ الحنطة"، أعني التضحيةَ والموتَ عن الذات من أجلِ ولادةِ حياةٍ ومجتمعٍ ووطنٍ أفضل.
وإننّا، إذ نهنِّئكم جميعاً بعيدِ أبينا القدّيس مارون، ونهنئ ابناء هذه الرعية ولجانها ومنظماتها الرسولية وعلى رأسهم حضرة كاهنها الخوراسقف نبيه معوض. نصلِّي من أجلِ السلامِ في هذه المدينة، طرابلس وسائرِ أرجاءِ الأبرشية، وفي لبنان وسوريا وبلدانِ الشَّرق الأوسط. ومع أبينا القديسِ مارون وتلاميذِه القدِّيسين، نرفعُ نشيدَ المجدِ والتسبيحِ للآبِ والابنِ والروح القدس، الآنَ وإلى الأبد، آمين.
في نهاية القداس شكر الخوري جوزيف فرح باسم الرعية كل من ساهم في تحضير وانجاح هذا القداس، ثم تسلم البطريرك الراعي هدية تذكارية من رعية مار مارون طرابلس، بعدها التقى شخصيات وفعاليات وجموع شاركت في القداس. وكان البطريرك الراعي قد وصل الى طرابلس قرابة الثالثة والربع حيث كان له لقاء مع كهتة ابرشية طرابلس المارونية في قاعة كنيسة مار مارون في طرابلس، استمر زهاء الساعة.
[1] ميشال الحايك: كتابات في تاريخ الكنيسة المارونية وروحانيتها (النص العربي)، ص255-256. راجع مجلة الإكليريكية (كانون الأوّل 2012)، مقال الخوري دانيال زغيب: الموارنة، هويتهم ودورهم في كتابات الخوري ميشال الحايك، ص 53.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق