الغربة ـ فريد بو فرنسيس
جريا على عادتها، وفي كل عام، نظمت ابرشية طرابلس المارونية، مسيرة صلاة وزياح للقربان المقدس، شارك فيها رعايا ابرشة طرابلس المارونية، تقدمهم راعي الابرشية المطران جورج بو جوده، ولفيف من كهنة الابرشية، وحشد من ابناء المنطقة والمناطق المجاورة، وانطلق الاحتفال بقداس في كنيسة مار قوزما ودميانوس في بلدة بزيزا في قضاء الكورة تراسه المطران بو جوده وعاونه المونسنيور انطوان محائيل، خادم الرعية الخوري شارل قصاص، والخوري جورج عبود، ومشاركة لفيف من كهنة الابرشية، وحضره حشد من المؤمنين.
بعد الانجيل المقدس القى المطران بو جوده عظة بعنوان إلى من نذهب يا رب، وكلام الحياة الأبديّة عندك" قال فيها :" بعفويّته المعهودة أجاب بطرس على يسوع الذي سأل الرسل إذا كانوا يريدون هم أيضاً أن يتركوه ويذهبوا بعد أن سمعوا منه كلامه عن خبز الحياة وعن كونه هو هذا الخبز الذي من يأكل منه يحيا إلى الأبد، فقال له: إلى من نذهب يا رب، وعندك وحدك كلام الحياة الأبديّة. في الواقع فإنّ كلام يسوع لا يمكن فهمه بشريّاً، إذ كيف من الممكن أن يعطي جسده مأكلاً ودمه مشرباً، كما قال: إذا لم تأكلوا جسد إبن الإنسان وتشربوا دمه فلن يكون فيكم الحياة. فمن أكل جسدي وشرب دمي فله الحياة الأبديّة وأنا أُقيمه في اليوم الأخير. لأنّ جسدي طعامٌ حق ودمي شرابٌ حق. من أكل جسدي وشرب دمي ثبت فيّ وأنا فيه (يو6/53-55)".
اضاف بو جوده :" هذا الكلام كان تمهيداً لما سيحصل في العشاء السّري قبيل إعتقال يسوع ومحاكمته والحكم عليه بالموت من قبل رؤساء الكهنة والكتبة والفرّيسيّين. فهو، كما روى لنا ذلك بولس الرسول في رسالته الأولى إلى أهل قورنتس:" في الليلة التي أُسلم فيها أخذ خبزاً وشكر، ثمّ كسره وقال: هذا هو جسدي، إنّه من أجلكم، إعملوا هذا لذكري. وكذلك أخذ الكأس بعد العشاء وقال: هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي، كلّما شربتم فإعملوه ذكراً لي" (1قور11/24-25). بشريّاً، وهذا أمر طبيعي، ليس بإمكاننا أن نفهم هذا الكلام وهذا التعليم، فنحن لسنا، كما يتّهمنا بعض سيّئي النيّة الذين يتوقّفون عند الأمور الخارجيّة، آكلة لحوم بشريّة، كبعض الشعوب البدائيّة. ولذا فعلينا أن نفهم هذا الكلام بالعودة إلى كل تعليم الكتاب المقدّس من سفر التكوين وخلق الإنسان، حتى موت المسيح وإنتصاره على الموت وقيامته من بين الأموات".
وقال بو جوده في عظته :" يقول لنا كاتب سفر التكوين عن خلق الله للإنسان ما يلي:"جَبَل الله الإنسان تراباً من الأرض ونفخ في أنفه نسمة حياة، فصار الإنسان نفساً حيّة" (تك2/7). أي بكلام آخر فإنّ الله نفخ في الإنسان روحه وأعطاه ذاته إذ أنّه صنعه على صورته ومثاله (تك1/27). وقد سلّط الله الإنسان على الكون بمجمله، لكنّ هذا الأخير تمرّد على الله عندما إستسلم لتجربة الشيطان الذي أغراه بأنّه إذا خالف أمر الرب، فإنّه يصبح إلهاً لنفسه ولا يعود لله أي سلطة عليه. وهكذا فإنّ الإنسان، بدلاً من أن يحقّق ذاته إكتشف عريه ومحدوديّته وحكم على نفسه بالموت، فذكّره الله أنّه من التراب أُخذ وإلى التراب يعود".
وتابع بو جوده :" الإنسان حكم على نفسه بالموت، لكنّ الله حكم له بالحياة، ووعده بمخلّص يكون نسل الإمرأة وهو الذي سوف يرمّم صورة الله فيه ويعيده إلى الفردوس. ولمّا تمّ ملء الزمان، كما يقول بولس الرسول في رسالته إلى أهلا غلاطية(4/4): أرسل الله إبنه مولوداً لإمرأة، مولوداً في حكم الشريعة ليفتدي الذين هم في حكم الشريعة. إبن الله هذا هو يسوع المسيح جاء ليُعيد لنا الحياة، وتكون هذه الحياة وافرة(يوحنا10/10). فعاش معنا على هذه الأرض وحمل إلينا بشرى الخلاص، وإختار الرسل والتلاميذ ليتابعوا رسالته بعد صعوده إلى السماء، لكنّه أراد أن يبقى معنا بشكل سرّي بواسطة جسده ودمه فقال لنا الكلام الذي سمعناه بأنّه هو خبز الحياة وبأنّ من يأكل من هذا الخبز يحيا إلى الأبد".
واردف بو جوده يقول :" أراد يسوع أن يعيد إلينا الحياة بإعطائنا ذاته تحت شكليّ الخبز والخمر. وهو بذلك كأنّه يعيد خلقنا من جديد. فالآب في البدء أعطانا حياته عندما نفخ فينا روحه، ويسوع يعطينا الحياة من خلال إعطائنا ذاته تحت شكل الخبز والخمر. وهذا ما لم يفهمه عدد من تلاميذه فأداروا له ظهرهم وتركوه بينما فهمه بطرس والرسل وعدد آخر من التلاميذ، وقد عبّر بطرس عن موقفهم عندما أجاب على سؤال يسوع إذا كانوا هم أيضاً سوف يتركونه، فقال له: إلى من نذهب يا رب وعندك وحدك كلام الحياة الأبديّة. وهذا ما فهمه كذلك شاول بولس الذي كان عدوّاً لدوداً له وقد حاربه وتزعّم الجماعة التي قتلت أوّل شهيد مسيحي الشمّاس إستفانوس، لكنّه عاد فآمن به بعد أن إستولى يسوع عليه، كما يقول هو بنفسه، فصار يردّد ويقول: حياتي هي المسيح، وكل شيء صار بالنسبة لي كالهباء والهشيم، لأنّي منذ الآن لم أعد أنا الذي يحيا بل هو المسيح الذي يحيا فيّ".
وتابع بو جوده :" قبل صعوده إلى السماء وعد المسيح تلاميذه بأنّه سيبقى معهم إلى منتهى الدهر، وهو بالفعل باقٍ معنا في القربان المقدّس الذي هو حضور فعلي له بيننا تحت شكليّ الخبز والخمر، إنّه سر من أسرار البيعة المقدّسة لا يمكننا فهمه وإدراكه إلاّ بعين الإيمان. في العهد القديم، عندما كان الشعب سالكاً في الصحراء، عائداً من أرض العبوديّة في مصر إلى أرض الميعاد، تعرّض مرّات كثيرة للخطر وخاصة للجوع، فتذمّر على موسى وعلى الرب. لكنّ الرب أعطاهم خبزاً من السماء ليأكلوا. وهذا ما قاله اليهود ليسوع، فأجابهم يسوع أنّ موسى لم يعطهم خبز السماء، بل الآب السماوي هو الذي يعطي الخبز الحق لأنّ خبز الله هو الذي ينزل من السماء ويعطي الحياة للعالم".
وقال :" بالنسبة لنا، أيها الأحباء، نحن الذين نسير في صحراء هذا العالم ونتعرّض للهلاك وللموت فإنّ لا حياة حقيقيّة لنا إلاّ تلك التي يعطينا إيّاها الله من خلال إعطائنا إبنه الوحيد لنا، بفعل محبّة متناهية. فإنّ الله هكذا أحبّنا وأحبّ العالم حتى أنّه بذل إبنه الوحيد لكي لا يهلك أحد منّا، بل تكون لنا الحياة الأبديّة(يوحنا3/16). وقد تجلّى هذا الحب بشخص يسوع المسيح وبهذا الكلام الذي قاله عن خبز الحياة. ذلك أنّه بإعطائنا ذاته بالموت على الصليب عبّر عن محبّته التي لا حدود لها لنا، لأنّه ليس من حبّ أعظم من حب من يبذل نفسه في سبيل من يحب".
واضاف :" إنّ تكريمنا الأساسي والحقيقي للقربان المقدّس وعبادتنا له تتمّ من خلال المناولة، عندما نقبل هذا الخبز السماوي الذي يجدّد حياتنا ويخلقنا من جديد ويعطينا حياته عطاء لا رجوع عنه. إنّ تكريمنا الخارجي له بالزيّاح والتطواف فهو تعبير منّا عن إيماننا بأنّه يرافقنا على دروب حياتنا اليوميّة، في أفراحنا وأحزاننا، في صعوباتنا والمشاكل التي تعترضنا. ولذلك فإنّنا مدعوّون لمحاسبة ذاتنا، قبل أن نأكل هذا الخبز ونشرب من هذه الكأس ولكي نخبر بموت الرب وقيامته إلى أن يأتي، لأنّ من أكل خبز الرب أو شرب كأسه ولم يكن أهلاً لهما فقد جنى على جسد الرب ودمه (1قور11/26-29)".
وختم بو جوده عظته:" عملياً، أيها الأحباء، كلّ قدّاس وكلّ ذبيحة قربانيّة، هو تجديد للعشاء السّري، وهو مشاركة للمسيح في موته وقيامته، فالمطلوب منّا هو أن نعطي لهذا السر أهميّته فلا نحوّله إلى مجرّد إحتفال خارجي كما هو حاصل مرّات كثيرة اليوم، حيث نتقدّم جميعاً لتناول القربان المقدّس دون أن نتحضّر لذلك. وإنّ ما يحصل في إحتفالات القربانة الأولى لأولادنا يثير الشكوك والتساؤلات إذ نجعل من هذه المناسبة الروحيّة مجرّد مناسبة إجتماعيّة نفقدها معناها الأساسي...".
بعد القداس انطلقت المسيرة من باحة كنيسة بزيزا مرورا ببلدة بحبوش وصول الى خان بزيزا حيث اقيم زياح للقربان في كنيسة مار مارون في البلدة بمشاركة الجموع المؤمنة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق