الديمان- الغربة
مصور
حمل البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي السياسيين المتنازعين مسؤولية الانفجارات على الساحة اللبنانية مشيرا الى ان نزاعهم المتمادي وتعطيلهم لعمل المؤسسات الدستورية يوصل الى سقوط الضحايا وقال " لو أنّهم بادروا باتّخاذ خطوات جريئة ومسؤولة في خط المصالحة السياسيّة – المذهبيّة، وتأليف الحكومة الجديدة، وبدءِ الحوار الوطني، واتّخاذِ إجراءاتٍ أمنيّة تَحدُّ من تفشّي السلاح، ومظاهرِ الأمن الذاتي، لَتَعَزّى أهلُ الشهداء في بيروت وطرابلس، وقالوا: شهداؤنا فدىً عن الوطن! ولكانوا اعتزّوا بشهدائهم. أمّا أن يكون هذا الثمن الغالي قد دُفع مقابل لا شيء، فهذا يضاعف ألمَهم وألمَ اللبنانيين جميعاً. وما زال أصحابُ السلطة والأفرقاء السياسيّون المذهبيّون يصمّون آذانهم عن تحذيرات الهيئات الاقتصادية بشأن الأزمة الاقتصادية التي تتفاقم وتنذر بأوخم النتائج السلبية، الاجتماعية والمعيشية."
كلام البطريرك الراعي جاء خلال عظة قداس الاحد في الديمان وقد عاونه المطران حنا علوان والمونسينيور شارل سعد وقامت بالخدمة جوقة رعية عين عكرين وحضره سفير لبنان في روما شربل اسطفان ومؤمنون من كافة المناطق اللبنانية والقى غبطته بعد الانجيل المقدس عظة بعنوان "اللهم، ارحمني أنا الخاطي"
(لو18: 13)
وقال : صلاة العشَّار الخاطي التي استُجيبت، تعلّمنا أنّ جوهرَ الصلاة وقفةُ تواضعٍ أمام الله بانسحاق قلبٍ وندامةٍ واستغفار. لا يوجد إنسانٌ من دون خطيئة. فلا بدّ لكلّ واحد منّا من أن يقف هذه الوقفة الوجدانيّة أمام الله ومحكمةِ الضمير. وعليه أن يُسلّط على حياته وأعماله ومواقفه شخصَ المسيح وكلامَ الإنجيل وتعليمَ الكنيسة، فيكتشف أن خطاياه كثيرة، ويقف مثل العشّار، ونظرُه إلى الأرض تواضعاً وانسحاقَ قلب، ويصلّي: "اللّهم، ارحمني أنا الخاطي (لو18: 13).
إنّني أحيّيكم جميعاً، أّيها الإخوة والأخوات، الآتون من مختلف المناطق. وأحيّي بنوع خاصّ سفيرنا في روما الأستاذ شربل اسطفان وعائلتَه، ورابطةَ آل طوق، وتجمّعَ كشافة لبنان – فوج القدّيسة ريتا في سن الفيل وأصدقاءهم. نصلّي في هذه الذبيحة المقدّسة من أجلكم جميعاً. واليوم في الذكرى الثالثة والتسعين لاعلان لبنان الكبير في اول ايلول 1920 نصلّي معاً من أجل لبنان كي يحافظ على هويته وكيانه وميثاقه ويخرج من أزمته السياسية والاقتصادية، ونصلي من أجل الحلول السلمية للّنزاع في سوريا، بعيدًا عن أي تدخّل عسكري من الخارج، وإيقاف مسلسل الانفجارات في العراق رحمةً بالمواطنين الأبرياء؛ وإحلال الوحدة والسلام في مصر.
وتابع: كلّنا اليوم نلتمس فضيلة التواضع لكي نقف أمام الله، مثل العشّار الخاطئ. نقرّ بخطايانا ونندمُ عليها ونعترفُ بها للكاهن الموكَّل على إجراء سرّ التوبة والمصالحة، وعلى سلطان الحلّ، باسم الله، الآب والابن والروح القدس، فيغفر خطايا التائب، ويمنحه الحياة الجديدة. فسلطان المسيح الإلهي لمغفرة الخطايا سلّمه إلى خدمة الكهنوت.
التوبة والمصالحة هما الحالة المقبولة من الله لرفع واجب الصلاة. أمّا صلاة المتكبرين المتباهين مثل الفرّيسي بأعمالهم من دون أن يقرّوا بخطاياهم – هذا إذا صلّوا - فإنّها غير مقبولة.
صلاة المتواضع تخرج من عمق القلب، فتمسُّ قلب الله، وتُستجاب. لا يمكن أن تتعايش الصلاة الصادرة من القلب مع صلاة المتكبّر. فالمتكبّر المكتفي بذاته، الملآن من نفسه، المُعجب بحاله، المقدِّر ذاته أكثر ممّا هي، المعتبِر شخصيّتَه أكبر من الآخرين، لا يصلّي، ولا يعرف كيف يصلّي. وإن صلّى، صدرت صلاته من شفتَيه لا من قلبه، وكانت تظاهراً أمام الناس. صلاته لا قيمة لها، لأنها لا تصل إلى قلب الله، ولا تنال شيئاً.
صلاة العشّار تواضعٌ أمام الله وإقرارٌ بالخطأ، وتوبةٌ والتماسُ الغفران. أمّا صلاة الفرّيسي، فكبرياءٌ ومدحُ الذات أمام الله، وعجبٌ بالنفس وتحقيرٌ للغير، وكأنّه ينتظر مديحاً له من الله. في ختام هذا المثل الإنجيلي، يعطي الربُّ يسوع تقييمه لصلاة كلّ من العشّار والفرّيسي بقوله القاطع: "أقول لكم أنّ العشّار نزل إلى بيته مبرّراً، أمّا الفرّيسي فلا. لأن كلّ من يرفع نفسه يواضع. ومن يواضع نفسه يرفع" (لو18: 14).
واضاف: لو كان الأفرقاء المتنازعون عندنا يصلّون حقّاً، ويرفعون نفوسَهم وأفكارَهم وقلوبَهم إلى الله، ويقرّون بخطاياهم وأخطائهم، ويلتمسون منه الغفران، لتصالحوا فيما بينهم، وسمعوا في أعماق ضميرهم معاناة المواطنين، وقاموا بواجبهم في تأمين الخير العام، وحمايةِ المؤسسات الدستورية، وتثبيتِ الأمن، وإحياءِ الحياة العامّة، والدفع بالحركة الاقتصادية والتجارية والسياحية.
وتناول غبطته في عظته الوضع على الساحة الللبنانية وقال:" لقد مرّت تسعةُ أيامٍ على الإنفجارَين في طرابلس اللَّذَين أوقعا خمسة وأربعين شهيداً من المواطنين الأبرياء. ومرّت سبعة عشر يوماً على انفجار محلة الرويس في ضاحية بيروت الجنوبية، الذي أودى بحياة سبعة وعشرين شهيداً أبرياء، ما عدا مئات الجرحى، وخراب مئات المنازل والمحلات التجارية. ولم يدرك الأفرقاء السياسيّون المتنازعون أنّهم هم المسؤولون عن هذه الانفجارات وسقوط الضحايا بسبب نزاعهم المتمادي وتعطيلهم لعمل المؤسسات الدستورية. فمع اعتبار أية خطّة انقاذية تُقترح، لم يقوموا، إلى الآن، بأي مبادرة فعلية لحلّ أزمة تأليف حكومة جديدة قادرة وفاعلة، وللجلوس إلى طاولة الحوار للمصارحة والمصالحة. ما يعني أنّ الثمن الباهظ، الذي دفعه المواطنون الأبرياء في الانفجارات الثلاثة، لا قيمة له عندهم. فاكتفوا بالاستنكار والتعزية واتّهام الغير. ومع هذا ما زالوا يعرقلون تأليف حكومةٍ من شأنها تثبيتُ الأمن، وضبطُ السلاح، وحمايةُ المواطنين. فلو أنّهم بادروا باتّخاذ خطوات جريئة ومسؤولة في خط المصالحة السياسيّة – المذهبيّة، وتأليف الحكومة الجديدة، وبدءِ الحوار الوطني، واتّخاذِ إجراءاتٍ أمنيّة تَحدُّ من تفشّي السلاح، ومظاهرِ الأمن الذاتي، لَتَعَزّى أهلُ الشهداء في بيروت وطرابلس، وقالوا: شهداؤنا فدىً عن الوطن! ولكانوا اعتزّوا بشهدائهم. أمّا أن يكون هذا الثمن الغالي قد دُفع مقابل لا شيء، فهذا يضاعف ألمَهم وألمَ اللبنانيين جميعاً. وما زال أصحابُ السلطة والأفرقاء السياسيّون المذهبيّون يصمّون آذانهم عن تحذيرات الهيئات الاقتصادية بشأن الأزمة الاقتصادية التي تتفاقم وتنذر بأوخم النتائج السلبية، الاجتماعية والمعيشية. هذه الحالة الخطرة مرتبطة بالشّلل في القرارات، بسبب عدم تأليف حكومة فاعلة ومنتجة من شأنها حلّ مشكلات المواطنين والاهتمام بشؤونهم اليومية. لا يمكن أن يقبل الشعب اللبناني البقاء من دون حكومة قادرة وفاعلة، والبقاء رهينةً لنزاع أصحاب السلطة والمسؤولين السياسيين، ومصالحهم الرخيصة.
يجب التمييز بين الصلاة الوجدانيّة على أساسٍ من اللّقاء الشخصي العميق مع الله، وبين الصلاة كواجبٍ اجتماعي. ليست الصلاة مشاركةً اجتماعيّة بل صلاةٌ جماعيّة. إنّ مشاكلنا السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعية تتزايد وتتفاقم، لأنّ المسؤولين عنها ومتعاطينها لا يصلّون، وبالتَّالي لا يستحضرون الله، ولا يستلهمون القيمَ الروحيّة والأخلاقيّة، ولا توجد في قلوبهم مخافةُ الله الداعية إلى مرضاته بالأعمال الصالحة وإلى تجنّب الإساءة إليه وإلى شعبه. هؤلاء هم آلهةُ نفوسهم. يعبدون ذواتهم ومصالحهم وسلطتَهم ونفوذهم، ويحتقرون الشعب كله. هؤلاء يواصلون خطّ ذاك الفرّيسي. ولا مجال لأن يلتقي الناس على مستوى الحقيقة والمحبة، ما لم يلتقِ كلّ واحد منا مع الله، بتواضع العشّار والإقرار بخطئه والتماس المغفرة. فسلام مع الله سلام مع الخليقة كلّها. الصلاة من القلب هي الوسيلة الفضلى لبلوغ هذا السلام. إنّه أوّلاً سلامٌ مع الله ومع الذات، ثمّ سلام مع كلّ الناس.
يقول قداسة البابا فرنسيس: "في مدرسة المسيح نتعلّم التواضع وحرية القرار. فهو يريد منّا أن نكون أحراراً مثله، بحرية تأتي من حوار الصلاة مع الله. لا يريد الربّ يسوع مسيحيِّين أنانيِّين يتبعون أهواءهم، أو ضعفاء عديمي الإرادة ينقادون لغيرهم، ويكونون تابعين لهم، غير آبهين بكرامتهم المسيحية. بل يريدنا أحراراً في تفكيرنا وضميرنا وخياراتنا الحياتية". ويضيف الأب الأقدس: "المسيحي الذي لا يعرف الحوار مع الله بالصلاة والتأمل، ولا يسمع صوته في أعماق ضميره، ليس إنساناً حرّاً. الضمير هو المساحة الداخليّة حيث نسمع صوت الله الذي يدعونا إلى الحقيقة والعدالة والخير، ويساعدنا على تمييز الطريق المؤدِّي إليها".
فلنصلِّ معاً إلى الله ملتمسين مساعدته لنا لنتعلّم في مدرسة المسيح التواضع ووعي الضمير الحيّ وحرية القرار. فنستحق أن نرفع نشيد المجد والتسبيح للآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.
وبعد القداس استقبل غبطته المشاركين في الذبيحة الالهية .والسفير اللبناني في ايطاليا شربل اسطفان ورابطة آل طوق برئاسة الشاعر انطوان مالك طوق ووفدا من عائلة المونسينيور نبيه الترس.