زغرتا ـ الغربة
لمناسبة عيد القديس انطونيوس الكبير، تراس راعي ابرشية طرابلس المارونية المطران جورج بو جوده، قداسا احتفاليا، في كنيسة مار انطونيوس في رعية بيادر رشعين في قضاء زغرتا، عاونه فيه الخوري جوزاف عويس، وخادم الرعية الخوري انطوان الزاعوق، والخوري جوزيف ايوب، وبحضور حشد من المؤمنين.
بعد الانجيل المقدس القى المطران بو جوده عظة قال فيها:" ها نحن قد تركنا كلّ شيء وتبعناك، فماذا يكون مصيرنا. كلام بطرس الرسول والسؤال الذي طرحه على يسوع يعيدنا إلى حادثة الشاب الغني الذي سأل يسوع ماذا عليه أن يعمل ليرث الحياة الأبديّة. وكان جواب يسوع أنّ عليه أولاً أن يحفظ الوصايا، ثمّ أن يتخلّى عن كل شيء ويتبعه، أي أن يعطيه الأولويّة في حياته. الشاب الغني قال ليسوع أنّه حفظ الوصايا منذ طفولته، لكنّه لم يقبل بالتخلّي عن الإستعباد للأمور الأرضيّة كي يربح الحياة الأبديّة، فأدار ظهره ليسوع وذهب. شاب آخر، بعد ذلك بحوالي ثلاث مائة سنة، إسمه أنطونيوس سمع كلام يسوع وعمل بمقتضاه، فباع كل ممتلكاته وذهب ليعيش في الصحراء في حياة تقشّف وصلاة بالفقر الإنجيلي فنال جزاءه ما وعد به يسوع بطرس حين قال له:" كل من ترك بيوتاً أو إخوة أو أخوات أو أباً أو أُماً أو بنين أو حقولاً لأجل إسمي ينال مائة ضعف ويرث الحياة الأبديّة".
اضاف بو جوده:" يسوع المسيح إله إنسان متطلّب لا يقبل بأنصاف الحلول، إنّه يريد الجذريّة في المواقف فيقول من ليس معي فهو علي ومن لا يجمع معي فهو يفرّق. يسوع لم يأتِ ليعطي نظريّات فكريّة وفلسفيّة وإيديولوجيّة مجرّدة، وهو بالتالي لم يأتِ ليؤسّس تياراً فلسفياً جديداً يناقض التيارات الفلسفيّة السائدة في أيامه. إنّه جاء ليعطينا ذاته بكلّيتها، بفعل محبّة لا حدود لها. فيقول: ليس من حبّ أعظم من حب من يبذل نفسه في سبيل من يحب".
وقال:" الإيمان المسيحي مبني دون شك على معرفة الوصايا وحفظها، كما أجاب الشاب الغني، لكنّ ذلك لا يكفي، بل يجب عيشها وتطبيقها عملياً. المسيح أعطانا وصية المحبة، لكن هذه المحبّة لم تكن بالكلام أو باللسان بل بالعمل والحق. فمحبّته للإنسان أوصلته إلى الصليب والموت... لكنّها أوصلته بعد ذلك إلى القيامة وإلى إعادة الإنسان إلى الفردوس الذي خسره بأنانيّته وحبّه المفرط للذّات. يسوع المسيح لم يكتفِ بأن يعلّمنا التواضع نظرياً، بل جعل نفسه خادماً وقال إنّه لم يأت ليُخدَم بل ليَخدُم، فغسل أرجل تلاميذه وقال لهم: أنتم تدعونني المعلّم والرب وأصبتم في ما تقولون، فهكذا أنا. فإذا كنت أنا الرب والمعلّم قد غسلتُ أقدامكم، فيجب عليكم أنتم أيضاً أن يغسل بعضكم أقدام بعض، الحق الحق أقول لكم: ما كان الخادم أعظم من سيّده ولا كان الرسول أعظم من مرسله، أمّا وقد علّمتم هذا، فطوبى لكم إذا عملتم به".
وتابع بو جوده:" يسوع المسيح أعطى المثل بتعليمه فكان القدوة والمثال. فهو، على ما يقول بولس الرسول في رسالته إلى أهل فيليبي: مع كونه في صورة الله، لم يعد مساواته لله غنيمة، بل تجرّد من ذاته متّخذاً صورة العبد، وصار على مثال البشر، وظهر في هيئة إنسان، فوضع نفسه وأطاع حتى الموت، موت الصليب. الحياة المسيحيّة شهادة وعطاء ذات كلّي للآخرين. فالمسيح عندما إختار الرسل أوصاهم بأن يكونوا له شهوداً إلى أقاصي الأرض وقال لهم أنّهم سيتعرّضون للمضايقات والإضطهادات. وهكذا كان إذ أنّ الكثيرين منهم كانوا شهوداً وشهداء في الكثير من الأوقات، وما زالوا كذلك لغاية اليوم. فالمؤرّخ الفرنسي دانيال روبس قال عن القرون المسيحيّة الأولى أنّها كانت عصر الرسل والشهداء. والبابا الطوباوي يوحنا بولس الثاني قال عن القرن العشرين المنصرم بأنّه القرن الذي رأى أكبر عدد من المسيحيّين يستشهدون حباً بالمسيح تحت حكم الأنظمة السياسيّة الملحدة، كالنازيّة والفاشيّة والشيوعيّة.
وختم بو جوده عظته:" إنّ لنا فيهم قدوة ومثالاً في إعطاء الأولويّة والأفضليّة للرب في حياتنا اليوميّة فقد لا يكون مطلوباً منا أن نقتدي بهم في كل شيء، بل على الأقل في إعطاء الأهميّة للرب في حياتنا، فلا نعيش باللآمبالاة والفتور كما هو حاصل عند الكثيرين من أبناء جيلنا اليوم. فلا نكتفي كالشاب الغني بحفظ الوصايا كما قال، بل بعيشها عملياً، على مثال أنطونيوس الذي عندما سمعها غيّر مجرى حياته فتبع المسيح، وسمعه يتابع تعليمه ويقول: ماذا ينفع الإنسان إن ربح العالم كلّه وخسر نفسه...". القديس أنطونيوس سمع كلام المسيح وعمل به فأصبح رائداً إقتدى به الكثيرون، ورائداً للحياة الرهبانيّة ولذلك صار يُعتبر أبا للرهبان، ونحن أمكرّسين كنا أم علمانيّين، مدعوّون على مثاله لسماع كلمة الله وتطبيقها في حياتنا اليوميّة، مردّدين قول المزمور: كلمتك مصباحٌ لخطاي ونورٌ لسبيلي، أقسمتُ وسوف أنجز أحكام عدلك يا الله".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق