توفيت زوجة أحد ملوك بلاد الافرنج، بعد أن ولدت له بنتاً ذات جمال ساحر خلاّب، أسمتها مريم.
وبعد سنوات على وفاتها، تزوج الملك من امرأة جميلة جداً، تغضب ان عرفت ان هناك امرأة أجمل منها في المملكة، لذلك بدأت الغيرة تدبّ في قلبها عندما رأت جمال ابنة الملك مريم، وراحت تضمر لها الشر كي تتخلّص منها.
وذات يوم قرر الملك الذهاب الى بلاد أخرى، فوجدت الزوجة الشريرة ان الوقت قد حان للتخلص من غريمتها مريم، فطلبت من عبد تثق به جداً، أن يصحب الفتاة الى مكان بعيد، ويتخلّص منها، مقابل مال كثير ومركز أعلى بين خدّام القصر.
ولكي تزيد من إجرامه في القتل، أخبرته أن ابنة الملك قامت بأفعال شنيعة، تسيء الى شرف الملك والمملكة، ويجب التخلص منها حالاً، وما عليه سوى أن يأتيها بيديها بعد أن يقطعهما، كي تتأكد من موتها.
وفي منتصف الليل أيقظت الملكة الشريرة ابنة زوجها مريم وطلبت منها الذهاب مع عبدها في رحلة قصيرة وستلحق بها بعد قليل.
استعان العبد ببعض أصدقائه الأشرار لتنفيذ عملية القتل، فاصطحبوا الفتاة المسكينة الى مكان بعيد، فعرفت أنهم يريدون بها سوءاً، فتطلعت نحو السماء وقالت وهي تبكي:
ـ ايتها الأم مريم، يا من شرّفتني أمي بحمل اسمك، ما لي غيرك يا حبيبتي، وشفيعتي، من معين.. فكوني أمي مكان أمي وخلّصي ابنتك مريم من الشر المحدق بها.
وعندما رآها العبد الشرير تبكي أشفق عليها وقال:
ـ لا تبكي، لن يمسّك سوء.
فقالت له مريم:
ـ زوجة أبي كذبت عليكم، ورمتني بين أيديكم لتقتلوني، وها أنتم ترتكبون خطيئة امرأة شريرة، لذلك أرجوكم أن لا تقتلوني قبل أن أعترف، وأستودع روحي بين يدي سيدتي العذراء مريم.
فقال العبد:
ـ زوجة أبيك أمرتنا بقتلك، ونحن وعدناها بذلك.
فقالت لهم:
ـ أما تخافون الله، أما عرفتم بأن نعمته الالهية لن تتخلّى عني، لذلك اتركوني هنا في هذه الغابة، دون أن تنجسّوا أيديكم بدمي.
فقال العبد:
ـ لقد طلبت منا الملكة أن نقطع يديك كي تصدّق أننا قتلناك، فماذا نفعل؟
فصاحت وهي تبكي:
ـ اقطعوا يديّ، واتركوني حيّة لتأكلني الوحوش الضارية، وهكذا لن يصيبكم أي أذى من زوجة أبي.
وهكذا صار، قطعوا يديها، وتركوها في الغابة تتوجع وتتألم وتحاول تضميد جراحها بشتى الوسائل. وفي نفس الوقت، كانت تستغيث بشفيعتها مريم، وتطلب منها المعونة.
وبينما هي تبكي وتصلي وتصيح:
ـ ساعديني يا أمي الكلية الطوبى.. أنقذيني يا أم المخلص..
سمعها ابن أحد الأمراء الأغنياء، بينما كان يصطاد في الغابة، فأهداه الله إليها، فراح يفتّش عن مصدر الصوت الى أن وجدها، فصاح برفاقه:
ـ احملوها بطريقة تخفف من آلامها، كي نذهب بها الى مدينتنا، ونعرضها على أعظم الأطباء هناك. مشيئة الله قادتنا إليها وعلينا إتمامها.
وبعد أن خفف الاطباء من ألمها، سألوها عن المجرم الذي قطع يديها.. وما اسمها؟ وابنة من؟ ولماذا فعلوا بها هذا العمل الوحشي؟، فلم تخبرهم شيئاً، بل فضلت كتمان سرّها عنهم.
وكان ابن الأمير قد وقع بغرامها من النظرة الأولى، فطلب من ابيه أن يزوّجه إيّاها قائلاً:
ـ أنا أعرف يا ابي بأنك تحبّني، وتريد كل شيء حسن لي، وأن الله قد وهبنا المال الكثير، ولسنا بحاجة الى شيء، لذلك أطلب منك أن تزوّجني هذه البنت المقطوعة اليدين التي وجدتها في الغابة.
فبهت الأمير من كلام ابنه وقال:
ـ بإمكانك أن تتزوّج أي بنت من بنات الأمراء، فكيف تطلب مني أن أزوجك فتاة معاقة قد تكون ابنة أحد الأردياء؟
فقال الابن:
ـ إما أن تزوجني إياه، أو لن أتزوّج ما حييت.
فرضخ الأمير عند رغبة ابنه وزوجه فتاة الغابة، وأقام له عرساً لا مثيل له.
أما الملك، والد مريم، فتملكه حزن شديد على ابنته، ولم يعرف ماذا أصابها، سوى أن الملكة الشريرة أخبرته بأنها هربت سراً من المملكة، ولا أحد يعرف مكانها. ولأنه كان يشك بكلام زوجته، أرسل خدمه للتفتيش عن ابنته في كل مكان دون جدوى.
ولكثرة حزنه على فقدان مريم، قرر دعوة جميع الأمراء الذين في مملكته، للمشاركة في أكبر سباق للخيل أمام قصره، عله يروّح عن نفسه ويخفف من ألمه النفسي. وكان من بين المتبارين زوج ابنته مريم، فأبدع في السباق، وبركوب الخيل والمبارزة، فأعجب به الملك ومدحه أمام الجميع.
أما الملكة الخبيثة، فدعت عبده وسألته عن سيّده، من هو؟ وهل هو متزوج؟ فأخبرها بقصة زواجه بفتاة مقطوعة اليدين، كان قد وجدها في الغابة.
وبينما هو يخبرها عن سيده، وصل لزوج مريم خبر من أبيه الأمير بأن زوجته ولدت توأمين ذكرين، هما بصحة تامة. فجن جنون الملكة الشريرة، وقررت القضاء على مريم وطفليها، فطلبت من العبد أن يأتيها بجواب الابن لأبيه، وستنعم عليه بالمال الكثير.
وبعد ساعات، جاءها العبد بالرسالة، التي يطلب فيها الابن من أبيه اكرام زوجته وولديه، فأخذتها منه، واستبدلتها بأخرى بعد أن أعادت الختم كما كان بطريقة مدهشة، وكتبت فيها:
"أريد أن أخبرك يا أبي بأن زوجتي ابنة انسان شرير، وقد ارتكبت خطيئة مميتة استحقت بسببها قطع يديها، لذلك أرجوك أن تخلصني منها ومن طفليها، فإن لم تقتلهم لن أعود الى مدينتك".
حزن الأمير كثيراً لدى قراءته رسالة ابنه، وكان قد تعلّق قلبه بحفيديه الصغيرين، فقال له كبير مستشاريه:
ـ لا ترتكب هذه الجريمة يا سيدي، أرجعها الى الغابة التي جاءت منها، وارسل الى ابنك رسالة تخبره فيها بأنك نفذت طلبه.
أما مريم، وبعد أن رموها في الغابة، حملت ولديها بما تبقى من يديها، وراحت تمشي الى أن وصلت الى مغارة يسكنها أحد النسّاك، فلما رآها جائعة جمع لها بعض الحشائش وأطعمها اياها، وتركها هناك، وانتقل الى مغارة أخرى، كي ترضع طفليها.
وبعد أسبوع عاد الابن الى مدينته، فلم يجد زوجته وابنيه، فجن جنونه وأمر خدمه بمرافقته للتفتيش عن عائلته. وفي نفس الوقت، ظهرت السيدة العذراء لمريم، وقالت لها:
ـ لا تخافي يا ابنتي، زوجك آتٍ ليرجعك الى البيت، ومن الآن فصاعداً ستتلاشى جميع أوجاعك، ولن تمري بمحنة أبداً، لأن ايمانك لم يتزعزع رغم المصائب التي مررت بها.
بكت مريم من شدة فرحها وقالت:
ـ أشكرك يا أمي، يا شفيعة اليتامى والمعذبين، لأنك لم تتخلي عني، ولكن كيف لي أن أفرح وأنا مقطوعة اليدين، غير قادرة على حمل أطفالي كما حملت أنت طفلك يسوع الممجد. ارحميني يا أمي.
قالت لها العذراء:
ـ إذن، خذي يديك من ابني يسوع.
فحسبت مريم أنها في حلم، ولم تعلم أنها في يقظة إلا عندما تطلعت بيديها، فوجدتهما أجمل مما كانتا قبل قطعهما. وأول شيء فعلته بهما هو تمشيط شعر طفليها، وملامسة وجههما بأصابعها، وهي تبكي وتشكر السيدة العذراء وابنها المخلص.
وفجأة، سمعت أصوات رجال، وصهيل أحصنة، فخرجت من المغارة لتجد زوجها، فركضت نحوه واحضنته بيديها، فراح يقبلهما وهو يبكي ويشكر الله على عجائبه.
أما والده الأمير، فأمر سكان المدينة بأن يعيّدوا ثمانية أيام تكريماً للسيدة مريم العذراء. وفرحاً بعودة كنته وحفيديه، ثم انفرد بابنه وكنته وأطلعهما على رسالة الغش التي وصلته من الملكة لشريرة. عندئذ، كشفت مريم سرها، وأخبرتهما بأنها مريم ابنة ملكهما، وأن زوجة ابيها دبرت لها تلك المكيدة بغية التخلص منها، ولكن شفيعتها مريم، ومخلصها يسوع، لم يتركاها لحظة، وأعاناها على مصيبتها وألمها. فأخفيت عنكما أمري كي لا يعرف والدي بما حصل لي ويموت كمداً. أما الآن فأنا مستعدة للذهاب الى حضن أبي.
فرفع زوجها يديه نحو السماء وقال:
ـ أشكرك يا رب، لأنك جعلت مولاتي، ابنة الملك، زوجة لي دون علم مني، فلكم أنت عظيم يا ألله.
عندئذ سجد أمام زوجته مريم، وتبعه كل من كان في القصر، بما فيهم الأمير والده، كيف لا وهي ابنة ملكهم الاعظم.
بعد يومين، وصلت منها رسالة الى أبيها الملك، تعلمه بمجيئها مع زوجها وطفليها، شرط أن لا يسألها شيئاً عن قصتها إلا على انفراد.
خرج الملك مع عساكره لاستقبال وحيدته مريم، وعندما وقفت أمامه رفعها عالياً وراح يقبّلها كالمجنون، وهي تقبّل رأسه كما كانت تفعل وهي طفلة، وفي نفس الوقت تهمس في اذنيه ماذا فعلت بها زوجته الشريرة.
وللحال اختفت زوجة الملك عن الانظار، فأمر بإحضارها، بعد أن أشعل ناراً عظبمة في وسط المدينة، وأحرقها أمام أعين الجميع، كي تكون عبرة لمن اعتبر. بعدها، توّج صهره ملكاً، وأمر بأن تبنى كنيسة على اسم "مريم" سيدة العالمين، وأن يصبح يوم رجوع ابنته عيداً وطنياً.
كل هذا يحدث، ومريم توزّع الصدقات على المحتاجين والفقراء والمعدمين، وكانت تقول لكل من يشكرها على أفعالها:
ـ ليست يداي من تعطيانكم الخير والنعمة والرحمة، بل يدا سيدي ومخلصي يسوع المسيح.
**