حدث في أيام الملك تاودوسيوس الكبير في مدينة القسطنطينية أن رجلاً غنياً جداً، وفاضلاً في سيرته منذ صباه، جارت عليه الأيام، وضربه الفقر عند كبره وشيخوخته، وكان له ابن وحيد اسمه تاوفيلوس، فقال له ذات يوم:
ـ ها أنا كما تراني يا بني، قد ساءت أحوالي المادية، ولم يعد بإمكاني أن أطعمك وأطعم نفسي، لذلك أرجوك أن تنفّذ ما سأطلبه منك دون ممانعة، فتحصل على الملكوت السماوي بسبب طاعتك لي.
فقال له ابنه متعجباً:
ـ قل لي يا ابي ماذا ستريد، وأنا طوع بنانك، سأنفذ كل ما تأمرني به.
فقال الوالد:
ـ ابراهيم أبو الآباء كان له ابناً وحيداً، أراد أن يقدمه ذبيحة للرب، فلم يلتفت ابنه اسحق الى الوراء بل سار خلف والده وهو يحمل الحطب بفرح وشوق. وغيره الكثير ممن أطاعوا آباءهم. هكذا أريدك أن تفعل، وأن تسمع وصيتي، وتقبل بأن أجعلك عبداً لي وليس ابناً، لأبيعك وأقتات بثمنك طوال شيخوختي.. لأنني أربأ بنفسي أن أدور من حي الى حي كالفقراء والبائسين من أجل أن أطلب الصدقة، والله رحوم يا بني، سيجعلك أعلى مقاماً وأرفع شأناً من أجل طاعتك لي وإحسانك عليّ. ولكن لي وصية ثانية أحب أن تحفظها الى ساعة موتك، فإن أرسلك سيدك، الذي سأبيعك اليه، بخدمة ما، أن لا تفعلها قبل أن تزور الكنيسة وتحضر القداس، وأن تكرّم السيدة العذراء دائماً وأبداً، وتأكد من أن الله سيسدد خطاك وينقذك من تهم باطلة.
فأجابه ابنه:
ـ اصنع يا أبي ما تريد.. وأنا تحت أمرك.
وفي اليوم التالي باع ابنه لرجل من أهل البلاط الملكي اسمه قسطنطين، فأحب الشاب كثيراً لكثرة طاعته وتفانيه في خدمته، أضف الى ذلك عفته وتواضعه، ومعرفته القراءة والكتابة. وكان يأخذه معه أنّى ذهب.
وذات يوم خرج سيده بزيارة الى قصر الملك دون أن يأخذ شيئاً هاماً للملك، كان قد نسيه في بيته، فأرسل عبده الأمين للإتيان به بأقصى سرعة ممكنة، وعندما دخل المسكين بيت سيده، وجد زوجته تمارس الفحشاء مع عبد آخر، ومع ذلك لم يهتم للأمر، لأنه كان على عجلة من أمره، كي يلحق بسيده.
ولكن الشيطان أبى إلا أن يوقع به، فقررت الزوجة أن تتهمه بالتحرش بها جنسياً، وعند المساء همست في أذن زوجها عبارة أغضبته جداً:
ـ عبدك الجديد، حاول أن يندس في سريري، ويفسق بي، لولا صراخي ومساعدة عبدك الأمين هذا. وأدلت على عشيقها.
فقرر التخلص منه حالاً، فاجتمع مع وزير المدينة، وقال له:
ـ غداً، سأرسل لك عبدي، فاقطع رأسه، وضعه في قطعة قماش واختمها، وارسله لي.
فرفض الوزير تنفيذ طلبه، قبل أن يأتيه بثلاثة شهود، يشهدون أمامه أن ذلك العبد حاول ممارسة الفحشاء مع زوجته. فجاءه بالشهود الذين أقسموا انهم شاهدوا العبد يحاول اغتصاب سيدته. عندئذ رضي الوزير بتنفيذ عملية القتل.
وعند صياح الديك، نادى السيد عبده الأمين، وأمره بأن يذهب الى الوزير ويقول له: سيدي يهديك سلامه.
وبينما هو ذاهب الى موته، مر بكنيسة السيدة العذراء، عملاً بوصية والده، فحضر القداس، وتناول القربان المقدّس، وطلب من أم الاله أن تحفظه من أي ضرر.
في هذه الأثناء، كان العبد النجس، عشيق الزوجة، يترقب وصول رأس العبد الأمين، ولما تأخر وصوله، طلب من سيده أن يذهب بنفسه الى قصر الوزير للاستفسار عن سبب التأخير، فقال له: اذهب. وما أن سمع كلمة "إذهب" حتى ركض بسرعة هائلة، وكأنه يسابق الخيل، وعندما وصل الى القصر، دخل ليسلم على الوزير، فما كان من السيّاف إلا أن قطع رأسه بالسيف، وبينما هو يلفّه بقطعة من القماش، دخل العبد الأمين، فأعطاه الوزير "الهدية" مختومة، ليأخذها لسيده، دون أن يعرف ما بداخلها.
وحين رجع الى بيت سيده سلّمه الهدية، ففكّ ختمها، فإذا بداخلها رأس العبد الفاسق. وحين شاهدت زوجته ما حدث لعشيقها، ارتعدت بشدة، وأصابها ذهول شديد، وخافت من غضب الله عليها، وراحت تبكي وتقول:
ـ أنا الشقية يا سيدي، أنا السبب في موت هذا العبد، الذي كنت أخونك معه لسنوات طويلة، دون أن تشعر بذلك، وعندما رآنا عبدك الجديد نزني معاً، خفت أن يفضحني أمامك، فألبسته تهمة باطلة، وها هو الله ينقذه من الموت، ليقتص من الفاعل الحقيقي. أرجوك سامحني واغفر خطيئتي.
لم يصدق السيّد ما حصل، فطلب من عبده الأمين أن يخبره قصته كاملة دون نقصان، من هو؟ فأخبره أنه ابن حسب ونسب، وأن أباه باعه كي لا يمد يده ويستعطي الناس، وأنه أوصاه أن يزور الكنيسة قبل أن يقضي أية حاجة يأمره باتمامها، وهذا ما أنقذه من الموت.
وما أن انتهى من سرد قصته، حتى قرر السيد أن يتخذه ابناً وليس عبداً، وأمر له بالميراث كاملاً.
**
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق