يصوم المسيحيين فى أنحاء الأرض – ماعدا مسيحى الغرب – فى هذه الأيام مايسمى بصوم العذراء مريم , وهناك كنائس بدأت الصوم من أول أغسطس ولمدة 15 يوما , وكنيستنا القبطية الأرثوذكسية ووفقا للتقويم القبطى تبدأ صومها من أول شهر مسرى والموافق يوم 7 أغسطس والى 16 مسرى الوافق 21 أغسطس. وهذا الصوم من أعجب أصوام الكنائس المسيحية , فهو صوم فرضه الشعب وصامه قبل أن تقرره الكنائس , وكان صوم العذراء مريم فى مصر معروفا بصوم العذارى , إقتداء بطهارة وبتنسك وبتولية العذراء مريم , ثم عرفه رهبان الأديرة فصاموه. وقبل القرن الثالث عشر الميلادى لم يكن فى كتب الكنيسة أى ذكر لصوم العذراء , وعندما وضعته الكنيسة فى أصوامها جعلته فى الطبقة الرابعة للأصوام ,أى بعد الأصوام الكنائسية ذات الصلة اللاهوتية .
وكما ذكر ابونا متى المسكين فى كتابه "صوم العذراء القديسة مريم" , أنه لم ينتهى القرن الثالث عشر حتى أصبح لصوم العذراء وعيدها مكانة كبيرة فى حياة الشعب عامة , لا كسند للطهارة والتبتل فقط , بل كمعيار عام للتنسك والزهد الشديد وفرصة محببة للتوبة وتجديد الحياة ووفاء النذور‘ ينتظره الشعب بكافة مستوياته بترقب وإشتياق ‘ جاعلين من العذراء مريم الشفيع المؤتمن لجنس البشرية ولنوال القوة والنعمة من الله للسلوك فى هذه الحياة.
ورغم إعتبار الكنائس لصوم العذراء انه صوما بسيطا يسمح فيه بأكل السمك‘ إلا أن الملاحظ أن الشعب لا يحتاج الى توجيه من قيادات الكنائس فى هذا الصوم ‘ وتكون مدة الصوم هذا من أروع الصور الروحانية فى الكنيسة ‘ ويتبارى فيه الشعب بالصوم الإنقطاعى والبعض يصومه 21 يوما ‘ بالماء والملح فى أسبوعه الأول ‘ وهناك من يصومه كصوم من الدرجة الأولى كالصوم الكبير (بدون سمك) ‘ ويتشبه فيه الناس بالرهبان فى التقشف والإنقطاع عن الطعام بحب شديد , وتقام النهضات الروحية الكنسية تمجيدا للعذراء مريم .
وفى إجتماعه الأسبوعى الماضى بالشعب أعلن قداسة البابا تواضروس الثانى بطريرك الكنيسة الأورذكسية أن نصلى ونخصص الصلاة أثناء صيام العذراء مريم لطلب شفاعتها من الشعب المسيحى فى العالم كله ‘ وبالأخص المسيحيين فى سوريا والعراق والشرق ‘ حيث نعيش هذه الأيام فى مذابح للمسيحيين وبإستشهاد المئات منهم على اسم المسيح ‘ وحيث نعود الى عصر الإستشهاد وبأفظع الصور وحشية حيث يخير المسيحى بتغيير دينة أو قتلة ‘ وأغلبهم تركو بيوتهم وأملاكهم ورحلوا عن بلادهم وطين أرضهم ليربحوا المسيح ‘ وتدمر الكنائس والأديرة . وأمام حرب ابليس العاتية التى تصفى مسيحى الشرق من أراضيهم ‘ هؤلاء البربر تركهم المجتمع الدولى لسياف هذا الزمان وبربر العصر يجزون رؤؤسهم ‘ الآلام تتصاعد والدموع تنسال من عيوننا ‘ ولكن رجاءنا لا ولن يخيب فى إلهنا ‘ والسنكسار مازال مفتوحا ‘ وكما قال الرب لشهدائه تحت مذبحهم فى عرش النعمة ‘" نفوس الذين قتلوا من أجل كلمة الله ومن أجل الشهادة التى كانت عندهم . وصرخوا بصوت عظيم قائلين حتى متى ايها السيد القدوس والحق لا تقضى وتنتقم لدمائنا من الساكنين على الأرض .فأعطوا كل واحد ثيابا بيضا وقيل لهم ان يستريحوا زمانا يسيرا ايضا حتى يكمل العبيد رفقاؤهم واخوتهم ايضا العتيدون ان يقتلوا مثلهم."رؤ6: 9-11.
وصيامنا للرب بمناسبة عيد الست العدرا هو من أحلى الأصوام لشعب المسيح ‘ وكما قلت لكم أحيانا يفوق الصوم الكبير ‘ففى اسلوب الصوم والتقشف والتسابيح المرنمة للسيدة العذراء وأنا أحب أن أناديها " بالست العدرا" يرتفع الى السماء صلاة خاصة للرب يسوع بقبول شفاعة العدرا عن شعبه المسيحى ‘ فلنسألها :" شفاعتك ياعدرا"
وطلب شفاعة العذراء مريم فى مسيحى الشرق مستحق القبول من الرب يسوع فهاهو زنارها الذى ألقته على توما الرسول لتعرفه بصعودها للسماء ‘ هذا الزنار محتفظ به فى كنيسة السيدة العذراء ببلدة حمص فى سوريا حتى يومنا هذا ‘ وهذه البلدة عانت كثيرا من إضطهادات ومذابح ضد مسيحييها حتى يومنا أيضا هذا ‘ فهذا الشعب الذى يحتفظ بزنارك يطلب شفاعتك عند إبنك مخلص العالم.
صوم العذراء مرتبط بعيدها ‘ وللعذراء 6 أعياد فى الكنيسة القبطية وهم :
1- ميلادها فى أول بشنس.2 - ذكرى دخولها الهيكل فى 3 كيهك. 3- عيد نياحتها فى 21 طوبة. 4- عيد ظهور وصعود جسدها فى 16 مسرى ويختتم به صوم العذراء . 5- تذكار بناء أول كنيسة بأسمها فى فيلبى وأتريب فى 21 بؤونة. 6- عيد ظهورها فى كنيسة الزيتون فى 2 أبريل .
ومن الحقائق الإيمانية فى عقيدتنا الأرثوذكسية :
1- أن القديسة العذراء مريم ليست موضع عبادة فى الكنيسة ولكنها موضع تكريم وتطويب كقولها النبوى ( فهوذا منذ الآن جميع الأجيال تطوبنى. لو1: 48. 2- أن الصوم صوم العذراء مريم ,ليس صوما للسيدة العذراء ولكنه صوما لله العلى القدير ليقبل شفاعة أمه العذراء من أجل المعونة والشفاء لجميع البشر المتشفعين بها ‘ فهى تقدم شفاعتها لغير المسيحيين أيضا‘ وهناك كثير منهم من يصوم للسيدة العذراء مثلنا تماما ‘ بل ان مكانتها فى القرآن الكريم يفوق الوصف ‘ ويكفى أنه مخصص لها سورة بأسمها(سورة مريم).
3- لا تعتقد الكنيسة الأرثوذكسية أن القديسة مريم ولدت بطبيعة مقدسة ‘ بل تقدست السيدة العذراء مريم بعمل الروح القدس كقول الملاك " الروح القدس يحل عليك وقوة العلى تظللك.لو1: 35‘ أى بعد إختيارها وليس قبل ذلك.
4- لا تؤمن الكنيسة فى عقيدتنا الأرثوذكسية إطلاقا أن السيدة العذراء كانت شريكة فى الفداء والخلاص الذى تم بدم الفادى وحده على خشبة الصليب.
وما نقدمه لأمنا وسيدتنا كلنا هو تكريمها وتعظيمها وتطويبها وتبريكها ‘ نسألها الشفاعة من أجلنا ‘ وهذا ما تسأله الكنيسة فى تسبحتها اليومية.
وبالتأمل فى حياة القديسة مريم نلتقط منها بعض النقاط القليلة فقط ‘ لأن المجال لا يتسع هنا ‘ فقد كانت هذه الشابه الصغيرة ذوال12 عاما ‘ مثلا فى محبتها لله الذى يملء قلبها ونفسها وحياتها ‘ وقدتمثل ذلك فى تسليمها لإرادة ومشيئة الله بقولها للملاك " هوذا أنا أمة الرب .ليكن لى كقولك " رغم ان ماقاله الملاك لها يفوق كل التصور للعقل البشرى:
1- السيدة العذراء مريم كانت أعظم من أمنا حواء التى إنخدعت بحيلة وكلام ابليس ‘ وأسقطت البشرية كلها معها فى الخطية والموت. السيدة العذراء لم يستطيع الشيطان أن يقترب منها طوال تجسد ابن الله على الأرض‘ ولم يكشف سرها حتى تم الصلب لفداء البشر‘ وسحق الشيطان كوعد الله لخلاص الإنسان من عبودية العدو. وأمام كل الظواهر اللاهوتية التى كانت تترائ لها كقول الكتاب " وأما مريم فكانت تحفظ جميع هذا الكلام متفكرة به فى قلبها."
2- كانت أعظم من أمنا سارة التى جاءها الرب وباركها وقال لإبراهيم أعطيك منها إبنا ‘ ولكن سارة ضحكت فى باطنها قائلة أبعد فنائى يكون لى تنعم وسيدى قد شاخ ‘ متناسية ان الذى قال لا يستحيل عليه أمر وهو القادر على كل شيئ .
3- كانت أعظم من موسى النبى العظيم كليم الله ‘ فبعد أن دعاه الله من العليقة وعضده بثلاث آيات حتى يستخدمها فى خروج بنى إسرائيل من مصر ‘ يقول للرب: "استمع أيها السيد لست أنا صاحب كلام منذ أمس ولا أول من أمس ولا حين كلمت عبدك."بل أنا ثقيل الفم واللسان .أرسل بيد من ترسل ."خر3"
ولكن الفتاه الصغيرة المحبة لله والخاضعة لإرادته قالت للملاك على الفور "ليكن لى كقولك" ومنها هذا أول درس نتعلمه منها فى محبة الله ‘ الخضوع لإرادته ومشيئته ‘فإن هذه محبة الله ان نحفظ وصاياه.
4- ويطول التأمل حتى نقول انها كانت أعظم من الملائكة والأنبياء ‘ لذلك فجميع الأجيال تطوبها.
شفاعة القديسة العذراء مريم :
كباقى القديسين والشهداء جميعا وكل الذين أرضوا الرب ‘حيث أن طلبة البار تقتدر فى فعلها‘ تتشفع فينا السيدة العذراء بدالتها أمام السيد المسيح . والشفاعة فى عقيدتنا الإرثوذكسية سليمة وصحيحة ‘ لأنها ترفعنا الى مستوى الشفيع ‘ فتوجدنا فى حضرة المسيح ‘ كما يقر الآباء ‘ على اساس إختفاء الوسيط ‘ فحينما تشفع فينا العذراء(ليست شفاعة كفارية فهذه للمسيح وحده) من أجل معونتنا أو شفائنا أو قبول الرب لتوبتنا ‘ تدخلنا فى مجال دالتها وعلاقتها بالسيد المسيح. الشفاعة كما يقول الآباء القديسين هى وصال بالنعمة ‘ فالعذراء تهبنا كل أمكانياتها الموهوبة لها لنتقدم بها الى السيد المسيح.
والله يطلب ويقر بهذه الشفاعة ‘ فمثلا طلب من أبيمالك (تك20) الذى أخذ سارة أمرأة ابراهيم ‘" فالآن رد امرأة الرجل فإنه نبى فيصلى من أجلك فتحيا." فصلى إبراهيم الى الله فشفى الله ابيمالك وأمرأته وجواريه فولدن. قبول شفاعة العذراء فى عرس قنا الجليل لأنهم ليسوا لديهم خمر. شفاعة موسى المتعددة فى شعب بنى إسرائيل وقبول الله لها. والكتاب لا يخلوا من قبول الله لشفاعة القديسين ‘ والتى رآها يوحنا الرائى فى سفر الرؤيا وقال عن البخور الصاعدة فى عرش الله أنها صلوات القديسين.
العذراء مريم هى مثلنا الأول فى كيفية الدخول فى علاقة حية مع الله ‘ بالطهارة والنقاوة "طوبى لأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله." ‘ بالوداعة والتواضع ‘ بالبساطة ‘ الصلاة الدائمة ‘ القلب والضمير النقى الخاليين من أي ذرة نجاسة وهنا تتحقق الشفاعة ‘ لأن الشفاعة تتطلب حضورا شخصيا للعذراء التى تتراءى بطهاتها من أجلنا أمام عرش المسيح .
مباركة هى العذراء مريم وطوبى لمن يطوبها ‘ ونسألها كما نطلب منها فى لحن البركة" إشفعى فينا ياسيدتنا كلنا السيدة مريم والدة الإله أم يسوع المسيح ليغفر لنا خطايانا ."
كل سنة وشعب مصر طيب وليعبر بنا إلهنا هذه الأيام الصعبة لبر الأمان والسلام ‘ بصومنا وصلواتنا نطلب شفاعة القديسة العذراء مريم من أجل أولاد الله فى كل مكان يقعون تحت سيف الشيطان فى الشرق ليتركوا إيمانهم المستقيم . شفاعتك ياأمى العدرا.