ذخائر القديسة رفقا تعود الى دير مار سمعان أيطو




زغرتا ـ  الغربة
استقبل دير مار سمعان القرن في بلدة ايطو في قضاء زغرتا، ذخائر القديسة رفقا، التي عادت بالامس الى الدير الاول الذي انطلقت منه وابرزت نذورها، وجرى احتفال ديني حاشد للذخائر، واستقبال ضخم يليق بالقديسة رفقا على طول الطريق الذي سلكته الذخائ، حيث اصطف المؤمنون على جانبي الطريق المؤدي الى مفترق الدير ينثرون الارز والزهر على الذخائر، وعند مفترق الدير انطلقت مسيرة صلاة سيرا على الاقدام، وصولا الى الدير حيث تراس راعي ابرشية طرابلس المارونية المطران جورج بو جوده قداسا احتفاليا، بمشاركة المطران حنا علوان، ولفيف من كهنة الابرشية، وحشد من الرهبان والراهبات وجمهور واسع من المؤمنين. حضر القداس قائمقام زغرتا السيدة ايمان الرافعي، رئيس اتحاد بلديات زغرتا زعي مخايل خير، رئيسة وجمهور راهبات دير مار سمعان القرن، الى حشد من الفاعليات البلدية، والنقابية، والثقافية، والتربوية، ومؤمنون. 
بعد الانجيل المقدس القى المطران بو جوده عظة قال فيها:": اليوم تعود القديسة رفقا إلى البيت الذي عاشت فيه طوال أكثر من ست وعشرين سنة، والذي فيه، وعلى قمّة هذا الجبل المشرف على وادي قنوبين، وادي القدّيسين تدرّبت على القداسة، لتنطلق بعد أن ضربها المرض إلى دير مار يوسف جربتا حيث فارقت الحياة لتعود إلى البيت الأبوي، إلى البيت الذي هو مآلنا النهائي جميعاً بعد حياتنا على هذه الأرض. إنّها تعود إلينا بجسدها المائت لكنّ روحها وروحانيّتها لم تفارق هذا الدير، بل إنّها ترّسخت فيه وما زالت تشعّ منه على هذه المنطقة".
وقال:" نستقبلها اليوم بالفرح الروحي الذي هو، ولو بدا في الأمر تناقض، نتيجة للألم والعذاب الذي عانت منهما سنوات طويلة، واللذين كانا بمثابة النار التي تطهّر التراب ليخرج منه الذهب الأصفر والرنّان. العذاب والألم الذي يقول عنهما القدّيس بولس في رسالته إلى أهل كولوسي: إنّي أفرح الآن في الآلام التي أقاسيها لأجلكم، وأُتمّ في جسدي ما ينقص من آلام المسيح، من أجل جسده الذي هو الكنيسة(كولوسي1/24). بهذه الكلمات يُعبِّر بولس الرسول عن القيمة الخلاصيّة للألم، الذي تحوّل، مع آلام المسيح وموته من سبب لليأس إلى وسيلة للخلاص. فالكثيرون كانوا يعتقدون ويؤكّدون أنّ الألم والعذاب هو عقاب من الله يفرضه على الذي يخالف إرادته، بينما نرى على العكس ونسمع المسيح يقول لنا أنّ الله لا يريد موت الخاطئ بل توبته وعودته إليه ليحيا. إذ ليس الله من يفرض العذاب والألم على الإنسان، بل هو الإنسان من يفرض ذلك على نفسه، عندما يعتقد أنّ بإمكانه تحقيق ذاته ومبتغاه بالإبتعاد عن الله ورفضه، لكنّه لا يلبث أن يكتشف عريه ومحدوديّته، ويبتعد عن الله ويختبئ من وجهه خوفاً منه، على ما يقول سفر التكوين، بعد خطيئة أبوينا الأولين".
وتابع:" العذاب والألم هو نتيجة موقف الإنسان الرافض لله، الذي هو بنفسه يحكم على نفسه لكنّ الله الذي بفعل محبّة خلقه، بفعل محبّة كذلك يريد أن يخلِّصه، وهذا ما يقوله يسوع بذاته لنيقوديموس في حواره معه: هكذا أحبّ الله العالم حتى أنّه بذل إبنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبديّة، ثم يعود فيؤكّد على ذلك فيما بعد عندما يقول بأنّ الحب الحقيقي يُبنى على التضحية حتى بالذات، إذ ليس من حب أعظم من حب من يبذل نفسه في سبيل من يحب. القديس بولس، يُعبّر عن القيمة الخلاصيّة للآلام في فاتحة رسالته إلى أهل كولسي حين يقول إنّه يُتمّم في جسده ما ينقص من آلام المسيح، لأجل جسده الذي هو الكنيسة.  وهو في رسالته الثانية إلى أهل قورنثيّة يتكلّم بإسهاب عن الآلام التي تحمّلها من أجل المسيح، هو الذي كان في بادئ الأمر عدواً لدوداً للمسيح. وهو يصف هذه الآلام التي تحمّلها ويقول: جَلَدني اليهود خمس مرّات أربعين جلدة إلاّ واحدة، ضُرِبْتُ بالعصي ثلاث مرّات، رُجمْتُ مرّة واحدة، إنكسَرَت بي السفينة ثلاث مرّات، قضيْتُ نهاراً في اللّجة، كثيراً ما كنتُ في الأسفار في أخطار السيول، وفي أخطار اللصوص، في أخطار من أُمّتي وأخطار من الأُمم... أُعطيت شوكة في الجسد، ملاكاً من الشيطان لكي يلطمني، لئلا أستكبر. ولذلك طلبت إلى الرب ثلاث مرّات أن تفارقني فقال لي: تكفيك نعمتي. فبكل سرور أفتخر بأوهاني، لتستقرّ عليّ قوّة المسيح. أجل! إنّي أُسرّ بالأوهان والإهانات والضيقات والإضطهادات والشدائد من أجل المسيح لأنّي متى ضعفْتُ فحينئذٍ أنا قوي (2قور11/23-26 و12/7-10).
اضاف:" القديس بولس لا يبحث عن الألم من أجل الألم، ولا عن الإضطهاد من أجل الإضطهاد. إنّه يقبل بذلك ويعتبرها وسيلة لتقديس ذاته والتكفير عن ذنوبه وخاصة عن كونه قد حارب المسيح، فالإيمان المسيحي لا يبني على ما يسمّى مرض المازخيّة، أي مرض حب الألم في سبيل الألم، بل على العكس، فإنّه يبنى على القبول بما يرسله الله لنا من آلام من أجل تطهير ذاتنا وتنقيتها. المسيح بالذات لم يسعَ إلى الصليب من أجل الصليب، ولا إلى الألم من أجل الألم، بل على العكس فإنّه طلب من أبيه أن يُبعد عنه هذه الكأس إذا كان ذلك بالإمكان... ثمّ أضاف بقول: لتكن مشيئتك أيها الآب.  فالصليب والموت كانا بالنسبة له وسيلة للإنتصار النهائي على الموت، على ما تنشده الليتورجيّة البيزنطيّة: وطئ الموت بالموت، ووهب بذلك الحياة للذين في القبور. والقديسة رفقا التي نحتفل اليوم بذكراها، قبلت الألم والعذاب بهذا المعنى إذ كانت آلامها آلاماً خلاصيّة، لم تسعَ إليها حباً بها، بل مشاركةً منها في آلام المسيح. والآلام التي عانت منها رفقا لم تكن فقط آلاماً جسديّة، بل كانت قبل ذلك أيضاً آلاماً نفسيّة وعائليّة وإجتماعيّة، ولربما تكون هذه الآلام مرّات كثيرة أشدّ إيلاماً من الآلام الجسديّة. ومن أهمّها موت والدتها وهي في السابعة من عمرها، وإضطرارها للعمل كخادمة في إحدى العائلات في دمشق مدّة أربع سنوات، ثمّ زواج والدها من إمرأة ثانية والخلاف بين خالتها، أُخت أُمها، التي كانت تريد تزويجها بإبنها، وزوجة والدها التي كانت تريد تزويجها بأخيها، وسماعها للمشادة التي حصلت بين الإثنتين وهي عائدة من العين إلى البيت، حاملة جرّة الماء، وإستياءها من ذلك وحزنها. والذي عانت منه أيضاً وبصورة كبيرة هو ما رأته من مجازر في دير القمر سنة1860 عندما حصلت المجازر الشهيرة ضد المسيحيّين ورؤيتها بعض الجنود البرابرة يطاردون بخناجرهم المسنّنة طفلاً صغيراً ليذبحوه.
أما الآلام الجسديّة التي عانت منها، فقد طلبت من الرب أن يجعلها مشاركة منها معه في آلامه. فقد بدأت بوجع في رأسها أخذ يمتدّ فوق عينيها كشهب نار، ورافقها وجع العينين أكثر من إثنتي عشر سنة، وإنتهى بالعمى الذي لآزمها ست عشرة سنة أخرى، بعد أن إقتلع الطبيب عينها وهو يُجري لها عمليّة جراحيّة. وبعد ذلك أُصيبت بالمرض في عظامها ووركها وإنفكّ عظم رجلها وبقيت في حالة تفكّك لا مجال لوصفها. وكانت ردّة فعلها الدائمة عبارة: مع آلامك يا يسوع".
وختم:" بهذه المشاركة في آلام المسيح تقدّست القديسة رفقا، إذ إنّها تحمّلت العذابات الجسديّة المبرحة فمجّدها الله مع إبنه يسوع ورفعها إلى درجة القداسة لتكون مثالاً وقدوة لجميع المرضى ولجميع المسيحيّين وبصورة خاصة لمسيحيّي الشرق الذين يتحمّلون في هذه الأيام الآلام الكبيرة والإضطهادات القاسية كما هو حاصل في سوريا والباكستان والعراق، وبصورة خاصة في الموصل وقراقوش وغيرها من البلدات والقرى حيث طُردوا من مناطقهم ومنازلهم ودُمّرت أديارهم وكنائسهم وشوّهت مقدّساتهم ودنّست صلبانهم وأيقوناتهم. لكنّنا واثقون بأنّ آلامهم لن تذهب سدى وأنّ دماءهم ستكون زرعاّ لمسيحيّين جدد كما يقول ترتليانوس. إنّ الدعوة موجّهة إلينا جميعاً أيّها الأحباء، كي لا نخاف بل نبقى ثابتين في إيماننا بالمسيح الذي قال لنا: لا تخافوا، أنا معكم إلى منتهى الدهر. فلتكن هذه العذابات والآلام التي تصيبنا آلاماً شبيهة بآلام المسيح، آلاماً خلاصيّة تجعلنا ننتصر على الموت، فنتحوّل إلى شهود حقيقيّين للمسيح مردّدين مع القديسة رفقا: مع آلامك يا يسوع. إنّنا نقبل منك ومعك كل ما ترسله إلينا من صعوبات ونتّكل عليك أنت الذي وعدتنا بأنّك ستبقى معنا إلى منتهى الدهر.  فلنطلب من الرب اليوم نعمة الثبات في الإيمان والقبول بما يرسله لنا من صعوبات في حياتنا قد تُسبّب لنا الإزعاج مرّات كثيرة، ولكنّها بالتأكيد توصلنا إلى الخلاص إذا ما قبلنا بها وقلنا مع أيوب البار: الرب هو الذي يعطي وهو الذي يأخذ، فليكن إسمه مباركاً... وإنّنا كما نقبل منه الخير نقبل منه كذلك الألم والعذاب، كي نستحقّ الخلاص والعيش معه في السماء. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق