طرابلس ـ الغربة
تراس راعي ابرشية طرابلس المارونية المطران جورج بو جوده قداس عيد الفصح، وقيامة السيد المسيح من بين الاموات، في كنيسة مار مارون في مدينة طرابلس، عاونه خادم الرعية المونسنيور نبيه معوض، والخوري جوزيف فرح، بحضور النائب سامر سعاده، العميد فواز متري ممثلا وزير العدل اللواء اشرف ريفي، وحشد من المؤمنين.
بعد تلاوة الانجيل المقدس القى المطران بو جوده عظة قال فيه:" لماذا تبحثن عن الحيّ بين الأموات". جاءت النساء إلى القبر ليُحنّطنَ جسد يسوع، بنهاية يوم السبت، فإلتقين برَجُلين يرتديان حلّة بيضاء ناصعة قالا لهنّ: "لماذا تبحثن عن الحيّ بين الأموات... إنّه ليس هنا... إنّه قام من بين الأموات". ولمّا نقلن هذا الكلام إلى الرسل الأحد عشر، لم يصدّقوهنّ، بل قالوا أنّ ذلك هو مجرّد هذيان. إنّ موقف الرسل موقف مفهوم بشرياً. لقد تابعوا الأحداث التي جرت في الأيام الأخيرة، وعاشوها، ولو من بعيد، وقد رأوا بأيّة شراسة ووحشيّة عومل مُعلّمهم، كيف سُخِر منه، وكيف نُفّذ فيه حكم الإعدام كالمجرمين... كما رأوا كيف وُضِع في القبر... ودُحرِج على الباب حجر كبير".
وتابع بو جوده:" بالنسبة للرسل، كما بالنسبة للنساء، أصبحت الأمور واضحة وجليّة، ولم يعد عندهم أي شك: لقد فشل المعلّم الذي وضعوا كلّ ثقتهم فيه، لقد فشل وأيّما فشل... ولم يعد أمامهم سوى الإهتمام بجثمانه وتحنيطه والقيام بالواجبات الإجتماعيّة تجاهه، ثمّ العودة إلى حياتهم العاديّة. كم كانت خيبة الأمل كبيرة بالنسبة إليهم، هم الذين وضعوا ثقتهم فيه، وإعتقدوا أنّه هو الذي سوف يُخلِّص الشعب والأُمّة، كم كانت كبيرة خيبة أولئك الذين تبعوه على الطرقات وبين المدن والقرى. إعتقدوا أنّهم وجدوا المسيح المُخلّص، المسيح القائد الذي تكلّم عنه الأنبياء، المسيح المحرِّر، لكنّهم رأوا بأيّة سهولة إستسلم للجنود، وكيف أنّب بطرس ومنعه من شَهر سيفه للدفاع عنه. لذلك ليس من العجيب أن نرى خيبة أملهم تتحوّل إلى يأس وإيمانهم به يتحوّل إلى تشكيك".
وقال:" لكنّ منطق يسوع يختلف جذرياً عن منطقهم البشري. منطقه هو منطق التناقضات، تناقض التطويبات:"طوبى للمساكين، طوبى للمُضطَهَدين، طوبى للحزانى، فهؤلاء هم الذين يرثون الملكوت". إنّه منطق حبّة الحنطة التي إن لم تقع في الأرض وتمت تبقى مفردة، أمّا إذا ماتت فإنّها تأتي بثمر كثير. إنّه منطق يقول: "من أراد أن يتبعني، فليكفر بنفسه ويحمل صليبه ويتبعني، ومن كان أبوه وأمّه أحبّ إليه منّي فلا يستحق أن يكون لي تلميذاً".
التعليم بواسطة التناقضات كان أسلوبه في التعليم. لكنّ الرسل والتلاميذ لم يفهموه، أو هم لم يريدوا أن يفهموه، ذلك أنّهم لم يحفظوا ممّا قال عنه الأنبياء إلاّ ما يتعلّق بالمسيح الملك والقائد الزمني، وأهملوا ما قالوه عن المسيح الخادم الذي سوف يموت فداءً عن الشعب. ولذا ليس غريباً أن نراهم قد إستسلموا إلى اليأس بعدما رأوه مرفوعاً على الصليب، ثمّ موضوعاً في القبر. ولكن، بعد كل ذلك، ها إنّ منطقه التناقضي قد بدأ يتحقّق، وها هو يقول لهم: يا قليلي الإيمان، وبطيئيّ الفهم، ألم يكن ضرورياً أن يتحمّل المسيح هذه الآلام ليدخل في مجده؟ فلماذا إذن ما زلتم تبحثون عنه هو الحي بين الأموات؟ إنّه قام، إنّه حيّ، لا بل إنّه الحياة".
اضاف بو جوده :"لكنّهم لم يفهموا ذلك تماماً إلاّ يوم سيحلّ عليهم الروح القدس، يومها سيتغلّبون على الخوف والفزع، على اليأس وخيبة الأمل، وسيتغيّرون جذرياً ويقفون أمام رؤساء الكهنة والحكّام ليقولوا لهم بجرأة وشجاعة، إنّه قام من بين الأموات، ونحن شهودٌ على ذلك، ولا يمكننا إلاّ أن نقول ما رأينا وما سمعنا. عند ذلك، وعند ذلك فقط سوف يفهمون أنّ الإيمان الجديد الذي إنتسبوا إليه هو إيمان مبنيّ على الرجاء، وعلى الإنتصار على الموت، وبأنّه إذا كان المسيح لم يقم فإنّهم أشقى الناس أجمعين، هم شهود زور على الله". وقال:" كم مرّة نقف الموقف ذاته الذي وقفه الرسل والنساء القدّيسات؟ كم مرّة نرى أنّ منطقنا يتناقض جذرياً مع منطق المسيح، كم مرّة نحاول أن نجد أجوبة على تساؤلاتنا المصيريّة في المنطق البشري، المبني على الأبحاث والدراسات والإختراعات والإكتشافات العلميّة، فنجدها متناقضة تماماً مع موقف المسيح، ذلك أنّ موقفه يتخطّى كلّ هذه المعطيات ويسمو عليها".
واردف بو جوده:" الأحداث الأليمة التي نعيشها، الصعوبات والمشاكل التي نلاقيها، الإضطهادات والملاحقات التي نتحمّلها في معظم الأحيان، الظروف القاسية التي تصدمنا، كلّها قد توصلنا إلى خيبة الأمل واليأس، فنبحث عن المسيح ولا نجده، لأنّنا لا نبحث عنه حيث هو موجود، نبحث عنه بين الأموات، بينما هو حيّ يرافقنا على الطريق وعلى دروب الحياة ولا نعرفه. عند ذلك نصل إلى الريبة والشّك، ننغلق على أنفسنا ونعيش في إطارنا الضيّق، ونتّهم الله بأنّه أهملنا. وعلى مثال الرسل والتلاميذ والنساء القدّيسات، نأخذ كلّ الإحتياطات حتى لا يعرفنا أعداء المسيح، فننكر معرفتنا به كما فعل بطرس أمام المجلس، ونعود إلى حياتنا اليوميّة، فنذهب إلى تحنيط جثمانه، ونعود...
وتابع:" إنّه يرافقنا ولا نعرفه. إنّنا مرّات كثيرة نتصرّف كالنساء القدّيسات أمام الأحداث القاسية التي نعيشها. نعتبر أنّ كل شيء إنتهى بالنسبة إلينا كمسيحيّين في الشرق، فنحمل الحنوط والطيوب لنضعها على ركام بيوتنا وكنائسنا وأديارنا التي إحتّلها الغرباء وهدموها بعد أن طردوا سكّانها منها كما هو حاصل اليوم في سوريا والعراق وفي غيرها من البلدان. وكما إبتعد الرسل عن يسوع وأنكروه كما فعل بطرس ثلاث مرّات، قد نتنكّر نحن أيضاً لبلادنا ونعتبر أنّه لم يبقَ لنا منها شيء، وننسى أنّ حياة يسوع لم تنتهِ بالمرحلة الرابعة عشرة من درب الصليب، بل هناك المرحلة الخامسة عشرة التي ننساها أو نتناساها وهي مرحلة القبر الفارغ، مرحلة المسيح الذي إنتصر على الموت ووطئ الموت بالموت وأعاد الحياة للذين في القبور.
وقال:" إنّ تاريخ لبنان هو تاريخ آلام وإضطهادات دون شك، لكنّه في الوقت عينه تاريخ إنتصار على كل الذين إحتلّوه عبر التاريخ من مختلف الأُمم والشعوب. كلّهم زالوا وبادوا ولبنان بقي وسوف يبقى لأنّه بُني على دم الشهداء، وعرق الآباء والأجداد الذين حوّلوا صخوره الصمّاء إلى جنّات خضراء... وكما قال أحد آباء الكنيسة، ترتليانوس، في أحلك أيام الإضطهادات فإنّ دم الشهداء هو زرع لمسيحيّين جدد، وهذا ما يشجّعنا على القول أنّ دم الأشوريّين والكلدان وجميع المسيحيّين الذين هجّروا من بلادهم تحت ضغط مجموعات إرهابيّة لا دين لها ولا أخلاق، ومهما إدّعت بأنّها تُدافع عن الدين الذي هو منها براء، أنّ هذا الدّم سوف يعود فيُعطي للشرق الأوسط مسيحيّين ملتزمين، مسيحيّين يعملون على غرار كل الذين سبقوهم وحوّلوا وجه العالم في سنوات قليلة بعد أن أرسلهم المسيح. فيكونوا شهوداً للمسيح حتّى أقاصي الأرض".
وختم بو جوده:" إيماننا هو إيمان بالمسيح القائم من بين الأموات، وبدونه لا إيمان مسيحي، لأنّه، كما يقول بولس الرسول: "إذا كان المسيح لم يقم فباطل إيماننا وباطل تبشيرنا، ونحن أشقى الناس أجمعين. كلا! إنّ المسيح قام من بين الأموات وهو بكر الأموات وبكر القائمين من الموت. إنّه هو البكر، ومن بعده الذين يكونون خاصة المسيح عند مجيئه. فلنجدّد اليوم إلتزامنا بهذه الحقيقة الجوهريّة، ولنكن كما هو أرادنا شهوداً له، ولنتأكّد بأن مهما تعرّضنا له من مشاكل وصعوبات ومضايقات في حياتنا اليوميّة، الشخصيّة والوطنيّة، فهي لن تكون، ولا يجب أن تكون، مدعاة للخوف واليأس والإحباط، بل مدعاة للثقة والإيمان بأنّنا إذا متنا مع المسيح فمعه سوف نقوم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق