قدّيستان فلسطينيتان ترفعان رأس فلسطين على مذابح الكنيسة الكاثوليكية

محمد فروانة - خاص النشرة من غزة
جاء إعلان الكنائس الكاثوليكية في القدس المحتلة أن البابا فرنسيس الأول قد قرر رفع راهبتين فلسطينيتين إلى مرتبة "القديسين"، لتكونا مثالاً للمؤمنين في كنيسة الأرض المقدسة وفي العالم كله، وليُجذّر فلسطين على خارطة الكنيسة العالمية مجدداً، رغم ما تختزنه من معالم القداسة، خصوصًا أنّها الأرض التي وُلد وترعرع فيها المسيح، وليعطي صورةً مشرقة عن الفلسطينيين يحاول الاحتلال الإسرائيلي تشويهها.
فالفلسطينيون ليسوا بإرهابيين كما تحاول اسرائيل تصويرهم وطمس هويّتهم، إنّهم الأساس في هذه الأرض المقدّسة ومن بينهم قديسون سيكونون شفعاء لهم في السماء، إذ سيجري إعلان التقديس في احتفال خاص في 17 أيار الجاري في روما.
ويأتي هذا الحدث التاريخي، عبر تقديس امرأتين فلسطينيتين هما الراهبة "مريم ليسوع المصلوب"(1) من رهبنة الكرمل المولودة في عبلين في فلسطين عام 1846 والمتوفاة في بيت لحم عام 1878، والراهبة "ماري ألفونسين دانيال غطاس"(2) من مؤسسة رهبنة الوردية المقدسة في القدس المولودة في القدس عام 1843 والمتوفاة فيها أيضا عام 1927، في إطار "قداسة" بعض المؤمنات(3) اللواتي عشن حياة إنسانية ومسيحية مثالية، وكُنّ مثالا في التعبد لله وفي محبتهنّ لجميع خلائقه.
ويقول مختصون ورجال دين إن هذا القرار الرسمي من قبل الفاتيكان جاء بعد دراسات طويلة ومدققة في مسيرة كل راهبة امتّدت لعقود للتأكد من فضائلهنّ، فيصبحن مثالا يقتدى به لجميع المؤمنين في العالم أجمع.
وسيحظى احتفال القداسة بمشاركة فلسطينية وعالمية كبيرة، سيرفع خلالها العلم الفلسطيني في ساحة القدّيس بطرس في الفاتيكان في روما.

شفيعتان
ويعتبر الأب إبراهيم الشوملي كاهن رعية دير اللاتين في بيت لحم، أن رفع مكانة الراهبتين الفلسطينيين إلى كرامة قديسين يعتبر حدثًا فلسطينيًا هامًا من الدرجة الأولى، يضع بلادنا على الخارطة الكنسية والعالمية، إذ إنّ التقديس الحاصل يكتسب أهميّة خاصة بعد مرور أكثر من قرن لاعلان هاتين القديستين.
وفي حديث إلى "النشرة"، رأى الأب الشوملي أنّ هذا التقديس يعطينا اهتماما أكبر بأرضنا وقضيتنا وديننا وسلامنا، "إذ أنهما ستكونان شفعاء لنا في السماء كما الأولياء الذين يعطوننا نعمهم وشفاعتهم"، لافتاً إلى أن هذا الحدث الهام سيعكس صورة الفلسطيني القدّيس وليس الارهابي كما يدّعي ويسوّق الاحتلال، فمنهم قديسون خدموا المجتمع، ويخلق في أرجاء العالم صورة مشرقة للشعب الفلسطيني الذي يعاني بغير حق بفعل الاحتلال الإسرائيلي وممارساته القمعية في الأراضي المقدسة.
وقال الشوملي "إن هؤلاء عاشوا في أوائل القرن الماضي في سنة 1988 التي في وقتها كانت البلاد كلها فلسطين، والراهبتان من مؤسسات الرهبنات والأديرة، إذ تعتبر الراهبة  "مريم ليسوع المصلوب" مؤسسة أديار الكرمل في بيت لحم والناصرة والقدس ولها باع طويل في الرهبنة وتأسيسها".
وأشار إلى أنّ الراهبة "ماري ألفونسين دانيال غطاس"، هي من رهبنة مار يوسف وهي التي أسست رهبنة الوردية التي تخدم في فلسطين والجليل ولبنان وأديار عدّة في روما والخليج العربي.

فخر فلسطين..
من جهته أكّد الوزير زياد البندك مستشار الرئيس الفلسطيني محمود عباس للشؤون الدينية والعلاقات المسيحية المحلية والدولية  لـ"النشرة"، أن هذا الحدث هو "دعم ديني واجتماعي وسياسي أيضاً لفلسطين".
وفي ذات السياق، قال رئيس دائرة العالم المسيحي في منظمة التحرير الفلسطينية الأب مانويل مسلم، أنّ رفع الراهبتين الفلسطينيتين إلى كرامة القديسين، يظهر حقيقة مهمة عن الشعب الفلسطيني رغم ما عانى من ويلات الاحتلال والمآسي والحروب والآلام، بأنه أنتج هاتين الفتاتين القديستين اللتين تميزتا بحب الله وحب الإنسان من الناحية الروحية.
وفي حديث إلى "النشرة"، أشار الأب مسلم إلى أنّ هذا حدث مهم للشعب الفلسطيني "في الوقت الذي يتهمنا الجميع بأننا إرهابيون"، إلا أن الواقع برهن الآن أن الفلسطينيين قديسون أيضاً ويعطون مثلاً يحتذى في القداسة، مشدداً على أنّ العالم المسيحي الّذي يقارب الملياري نسمة سوف يصلي: "يا قديسة ابنة فلسطين صلّ لأجلنا" لأنهما أصبحا شفيعتين لنا.
عضو الهيئة الاسلامية المسيحية للدفاع عن القدس الأب مسلم، رأى أن التقديس هو شرف للكنيسة من الناحية الدينية وشرف للوطن والشعب الفلسطيني من الناحية الوطنية، والقدّيستان كرامة لنا.
الأب مسلم الذي تربطه علاقة نسب بالراهبة "مريم يسوع المصلوب" تابع: "الشعب الفلسطيني سيحتفل في كل مكان احتفالاً وطنياً وشعبياً بهذا الحدث، وكل كنائسنا ستفتخر بوجود قادة فلسطينيين للإنسان نحو الله رغم آلامنا وأوجاعنا".

مشاركة كبيرة
الى ذلك، ذكرت مصادر فلسطينية لـ"النشرة"، أنّ احتفاليّة التقديس ستتزامن مع الإعلان افتتاح لسفارة فلسطين في روما، في وقت تجري الترتيبات لمشاركة وفود فلسطينية كبيرة في الحدث الهام من 2000 شخص من فلسطين والجليل والأراضي المحتلة و500 آخرين من الأردن و500 من لبنان، إضافة إلى كل سفراء فلسطين المعتمدين في أوروبا، ورئيس أساقفة اللاتين في القدس البطريرك فؤاد الطوال والأساقفة المساعدين ولفيف من الكهنة الفلسطينيين والأردنيين واللبنانيين.
وسيبث حفل إعلان القداسة على مختلف الفضائيات والاذاعات الدولية، وفضائية وإذاعة فلسطين.

طريق القداسة
في الخلاصة، إنّ القداسة مسار طويل وشاق للاتّحاد في الله الّذي خلقنا على صورته ومثاله، وهي هدف سار عليه المسيحيّون واضعين نصب أعينهم المحبّة،  فحملوا صليب المسيح وأوجاع وآلام الناس وهمومهم ليدخلوا ملكوت الله وبيت قدسه.
وما تقديس الراهبتين الفلسطينيتين مع راهبتين أجنبيتين الاّ ارتفاع على مذابح الكنيسة المقدّسة الرسوليّة بعد أن خدمن كلمة الله ومشيئته.

(1)ولدت في 5 كانون الثاني 1846 في عبلين–الجليل–فلسطين تحت اسم ماري بواردي. ابنة جريس بواردي ومريم شاهين، من عائلة مسيحية فقيرة. توفيت اخواتها الاثنا عشر وهم أطفال، وولادة مريم كانت استجابة لصلوات والديها للسيدة مريم، وعندما توفي والداها كانت في الثانية من عمرها، وربّاها عمها، وانتقلت للعيش في الاسكندرية في مصر وهي في الثامنة من عمرها.
كانت في الثالثة عشر عندما دبّر لها عمّها زواجها، لكنها رفضت وقررت الالتحاق بالحياة الروحية. ولمعاقبتها على رفضها، أرسلها عمّها للعمل في منزل كخادمة مصرّاً على أن تكون هذه الأعمال الأكثر شاقةً ومضنية.
في عام 1860 التحقت براهبات مار يوسف، وأبت الراهبات بالسماح لها بالانضمام إليهن، فقادتها راهبةً الى الكرمل في "بو" سنة 1867، ودخلت لاحقاً في العام نفسه لتنضم الى الكرمليّات متخذة اسم "مريم يسوع المصلوب".  وبنت دير الكرمل في بيت لحم عام 1875 ويشبه قلعة مار أنجيلو في روما وهو في الجزء الجنوبي الغربي من مدينة بيت لحم، خارج البلدة القديمة.
وساهم هذا الدير في تعزيز حياة المجتمع المسيحي والفلسطيني في مدينة بيت لحم عن طريق جذب المرأة العربية الفلسطينية وتقوية إيمانها وانتمائها لهذه الأرض.
قال القدّيس البابا يوحنا بولس الثاني عن مريم: "راهبةٌ كرملية، وُلِدَت على الأرضِ التي شهدَتْ حياةَ يسوع في الناصرة، الأرضِ التي ما زالَتْ، حتى أيامِنا هذه، سببَ همومٍ كبيرةٍ لنا ومركزَ نزاعاتٍ أليمة، إنّ خادمةَ المسيحِ المتواضعة، مريم يسوع المصلوب، تنتمي من حيث العِرقُ والطقسُ والدعوةُ وتنقّلاتهُا الكثيرةُ إلى شعوبِ الشرق، وهي اليوم ممثِّلةٌ لهم.
(2)هي فتاة عربية فلسطينية، ولدت في مدينة القدس باسم سلطانة عام 1843 من عائلة مسيحية فلسطينية أصيلة متجذرة في هذه الأرض لغاية اليوم، تميزت عائلتها بتقواها وحبها لوطنها وللكنيسة، وانخرطت في سلك الرهبانية عام 1860، وقامت بعد إبرازها النذور بتعليم اللغة العربية لمدة سنتين في القدس، أسست خلالها "أخوية الحبل بلا دنس" و"أخوية الأمهات المسيحيات.
نُقلت بعد القدس إلى بيت لحم، وخلال تواجدها هناك أرادت تأسيس رهبنة خاصة بها، فوافق بطريرك القدس اللاتيني آنذاك على طلبها بعد جهود الخوري يوسف طنوس، فتأسست على يدها "رهبانية الوردية المقدسة" عام 1883 برفقة ثمانية فتيات أخريات من مدينة القدس.
نمت رهبانيتها بسرعة وازداد عدد المنتسبات لها، ثم أصبحت عام 1959 رهبنة حبريّة تتبع مباشرة للكرسي الرسولي في روما. جالت الأمّ ماري ألفونسين في مناطق عدة ضمن مهمة التدريس والإرشاد في القدس والناصرة وبيت لحم ونابلس ويافا الناصرة وبيت ساحور وغيرها من الأماكن، وأخيرًا في عين كارم حيث توفيت وقد تميّزت "بالحب والتواضع والصمت والبذل والعطاء".
تميزت الأم ماري ألفونسين بانتمائها ومحبتها للكنيسة والوطن وخصوصًا للفتاة العربية، فلذلك قامت بتأسيس رهبانية الوردية بإلهام من السيدة العذراء، ولا تزال رهبانية الوردية تعمل وتجتهد من أجل الفتاة العربية الفلسطينية مسيحية كانت أم مسلمة، ومثال على ذلك الأديار والمدارس التابعة للرهبنة في القدس وبيت لحم والناصرة وباقي المدن الفلسطينية وصولاً إلى الأردن وسوريا ولبنان والشرق الأوسط.
يوجد كلام للسيدة العذراء قالته للأم ماري ألفونسين: "في هذه البلاد الفلسطينية، فرحتُ، وتألمتُ وتمجّدتُ" وهذا هو الشعار الذي سارت عليه الأم ماري ألفونسين في تأسيس الرهبنة، ففيها يوجد الفرح الذي نعيشه لكي ننقله إلى الآخرين وفيها الألم الذي بدونه لا طعم للحياة، فلكي نصل إلى النصر علينا أن نختبر الصعوبات وفي النهاية يوجد المجد.
(3) خلال اجتماع الكرادلة في مجمع القدّيسين في الفاتيكان، في 14 شباط، أعلن البابا فرنسيس الأول أنه سيتم تقديسهما في 17 ايار الجاري مع راهبتين، الأخت جان إيميلي دي فيلنوف من رهبانية الحبل بلا دنس من كاستر، والأخت ماريا كريستينا دل إيماكولاتا، مؤسسة أخوية خدام القربان المقدس.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق