سورة البقرة.. الآية 54/ عبدالله بدر اسكندر

 
الإنابة الاختيارية التي يلجأ الإنسان من خلالها إلى اتخاذ سبيل الرشاد والابتعاد عن السبل الأخرى والإصرار على عدم الرجوع إلى ما كان عليه كل هذا يدخل تحت عنوان التوبة، فإذا حصل الإنسان على نتائج هذا الأمر وتمكن من الحفاظ عليها فمما لا شك فيه سوف يكون من السعداء الذين يبدل الله سيئاتهم حسنات، وقبل الشروع في تفصيل هذه المقدمة نود الإشارة إلى أن هناك بعض الأخطاء الشائعة التي يتناقلها الناس من عدم قبول توبة المشرك وأنت خبير بأن هذا الباب لا يمكن أن يصنف إلا ضمن أبواب الباطل التي تقضي بترجيح قول على قول من غير دليل، والذي يدعو هؤلاء الناس إلى هذا الظن لا يخرج عن فهمهم القاصر لقوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالاً بعيداً) النساء 116. وقريب منه الآية 48. من نفس السورة، والحقيقة أن الآية ناظرة إلى موت الإنسان على الشرك من قبل أن يتمكن من الرجوع إلى طريق الحق، أما حكم قبول توبة المشرك فهذا لا يختلف فيه أهل العلم شريطة أن ينتقل الإنسان إلى جهة أخرى تباعد بينه وبين الخطايا التي أحاطت به في حياته الدنيا، وبهذا يكون مفهوم الآية وكذا منطوقها لا يراد منه إلا الموت على الشرك كما قدمنا، ومن هنا نعلم أن قبول التوبة يصدق على جميع الناس مهما كان نوع الذنوب التي اقترفوها فتأمل ذلك بلطف.
فإن قيل: ما هو الباعث الذي يجعل الأبواب مفتحة لأصحاب الكبائر عند الإقلاع عن المعاصي التي ارتكبوها؟ أقول: الأفعال الكبيرة التي يقترفها الإنسان قد تجرفه إلى ما هو أكبر منها وذلك بحكم الغريزة الفطرية التي تدفعه إلى جعل تلك الأفعال من المكتسبات التي لا يقوى على الابتعاد عنها أو التخلص منها، وإذا ما وصل به الأمر إلى هذه الدركات السفلى فمن الطبيعي أن يصبح لديه كسب السيئات أقرب إلى اكتسابها، مع ملاحظة بيان الفرق بين الكسب والاكتساب، وقد أشار سبحانه إلى هذا المعنى بقوله: (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) البقرة 286. ثم انتقل المعنى إلى جعل الكسب كالاكتساب، وذلك في قوله تعالى: (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس) الروم 41. وكذا قوله: (بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) البقرة 81. وهذا يدل على أن الاكتساب الذي يحتاج إلى كلفة وجهد سوف يكون كسباً وذلك بسبب تكرار الفعل، ولذا أنزل هذه المنزلة فتأمل.
وبناءً على ما تقدم يمكن القول إن التوبة شرعت من أجل الحفاظ على النظام العام وما يتفرع عليه من وحدة الأمة وأمنها، ولا يمكن أن يستقيم هذا الأمر إلا بالابتعاد عن المحرمات التي اعتاد الإنسان فعلها والتي يظن أن الخلاص منها أصبح أبعد من أن ينال، ومن هنا نرى مدى اختلاف المراحل التي يمر بها الإنسان وما يتفرع عليها من طغيانه وتجبره وصولاً إلى حاجته وفقره إلى واجب الوجود، وهذا الأمر لا يمكن أن يغيب عن أصحاب العقول الراشدة الذين يقدرون هذه الحقيقة ويجعلونها لا تخرج عن الفاقة الملازمة للمسيرة الإنسانية دون أن تفترق عنها بحال من الأحوال، ولهذا وصف الحق سبحانه حالة الإنسان قياساً إلى هذه الجهة بقوله: (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد) فاطر 15. وقد وجه النبي موسى (عليه السلام) هذا المعنى بألطف بيان كما في قوله تعالى حكاية عنه: (فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير) القصص 24. وهذه هي طبيعة النفس البشرية، وهذا هو ملاك الإنسان المتأرجح بين اليأس والرجاء، أي اليأس بسبب الحالات التي تقوده إلى الدركات السفلى، والرجاء الذي يرفعه إلى الدرجات العليا.
من هنا نعلم أن الرجوع إلى الله تعالى قد شرع بناءً على الضعف الذي يمتاز به الإنسان، ولهذا كانت توبته سبحانه متقدمة على ما يقابلها من توبة الإنسان، كما في قوله جل شأنه: (ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم) التوبة 118. وعند تأمل الآيات التي تتحدث عن التوبة يظهر أن في منطوقها أبواباً واسعة تدلل على قبولها، ولا توصد تلك الأبواب إلا بملازمة الكفر الذي يلاحق الإنسان إلى آخر مراحل حياته، ومن هذه الآيات قوله تعالى: (إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليماً حكيماً) النساء 17. وشتان بين هذا المعنى وبين اللجوء إلى التوبة عند مقاربة الموت، كما في قوله تعالى حكاية عن فرعون: (وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغياً وعدواً حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين... آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين) يونس 90- 91. وقد يُرد هذا المعنى إلى الكبرى التي بينها تعالى في قوله: (وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذاباً أليماً) النساء 18.
فإن قيل: كيف يطمع الكافر بالتوبة إذا وقع عليه الموت؟ أقول: أراد سبحانه المقاربة دون الوقوع، ولهذا جعل أعمال العباد مصحوبة بتكرار التوبة نسبة إلى مقام القرب منه جل شأنه، وقد يتضح هذا المعنى جلياً من المقام الرفيع لإبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) وكيف أبديا رغبتهما في الرجوع إليه سبحانه في جميع توجهاتهما وإن لم يصدر منهما ما يدعو إلى الندم على فعل بعينه، ولكن هذا الرجوع يبيّن حقيقة الإنسان وفقره وحاجته إلى الله تعالى، ويمكن أن يستشف ذلك من قوله: (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم... ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم) البقرة 127- 128. وكذلك ينطبق هذا الأمر على موسى، كما في قوله تعالى حكاية عنه: (فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين) الأعراف 143. وهذا يبيّن أن توبة الأنبياء لا يترتب عليها ذنب معيّن وإنما هي حالة من التسليم إليه سبحانه في جميع تحركاتهم وأفعالهم، وذلك لأجل إظهار مدى فقرهم إليه جل شأنه على الرغم من أن ليس هناك ما يدعو إلى هذا الفعل على حد تعبيرنا.
من هنا تظهر النكتة في قوله تعالى: (لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم) التوبة 117. فإن قيل: هل أن قبول التوبة يعتبر واجباً على الله تعالى؟ أقول: قبول التوبة من الحالات الاستثنائية التي يمن بها تعالى على عباده دون أن تدخل ضمن الأفعال الاضطرارية، وهذا ما يفهم من قوله تعالى: (إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفراً لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون) آل عمران 90. ولذلك فقد من الله تعالى على بني إسرائيل بأن شرع لهم التوبة علماً أن أعمالهم لا ترقى إلى هذا التشريع، وقد يُفهم هذا المعنى من التشديد المصاحب لنوع التوبة التي بينها لهم، كما في قوله تعالى: (وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم) البقرة 54.
فإن قيل: ما المقصود بقتل أنفسهم؟ أقول: القصد من ذلك قتل بعضهم بعضاً لأن النفس الواحدة تطلق على الناس الذين تجمعهم روابط مشتركة، وقد بين الله تعالى هذا المعنى في كثير من المواضع، كقوله: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم) التوبة 128. وكذا قوله: (فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم) آل عمران 61. وقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً) النساء 29. وقوله: (فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون) النور 61. وقريب منه الآية 12. من نفس السورة. وكذلك قوله: (يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون) الحجرات 11. لأن من لمز أخاه كمن لمز نفسه... وهذا الباب يحتاج إلى تأمل.
 فإن قيل: ورد في آية البحث قوله تعالى: (ذلكم خير لكم) خير لهم من أي شيء؟ أقول: خير لهم من عدم قتل أنفسهم الذي فسرناه بقتل بعضهم بعضاً، لأن توبتهم لا تقبل إلا عن هذا الطريق، ولذلك عقب تعالى بقوله: (عند بارئكم) لأجل أن يتم المعنى المقرر للفعل. فإن قيل: ما معنى الباء في قوله: (باتخاذكم العجل) أقول: الباء سببية أي بسبب اتخاذهم العجل معبوداً من دون الله، وحذف المفعول الثاني لدلالة الكلام عليه. 
من كتابنا: السلطان في تفسير القرآن  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق