اقتصر التكليف على إلزام الإنسان بتصديق الثوابت اليقينية وإن كانت أصولها متباعدة في المفهوم الزماني أو متباينة في الموقع المكاني، وقد تقاس تلك الثوابت نسبة إلى المادة التشريعية الموضوعة سلفاً في القضايا الرئيسة للعقيدة التي تعتمد في أدلتها على الركائز العامة مع مراعاة الأجزاء الفرعية حسب الاقتضاء، أما ما يقابل هذا المعنى فقد يرد إلى السلوك الجمعي الناشئ من قبل القوم الذين ينتمي إليهم المكلف المطالب باتباع آراء الفقهاء الذين يحق لهم التفريق بين الأسس التشريعية وبين المستحدثات التي ألزموا أنفسهم بها، ومن هنا أصبح لزاماً على الأتباع تأييد تلك الأوهام المرتضاة من قبل أسيادهم، أما إذا حدث العكس فبلا أدنى شك سيكون المتضرر الأول في هذا الاعتقاد هو الإنسان المنقذ أو المخلص الذي علم بما تؤول إليه المستجدات دون قصور أو تقصير، ولهذا وجب عليه تحمل الأعباء الإضافية التي جعلته خارج الإرادة الجمعية أو السلوك المعتاد لدى من وضع التشريع الثانوي المقر من قبل وجهاء الفرقة الذين جعلوا الأمر جزءاً لا ينفصل عن أركان العقائد الملزمة لهم، وبناءً على اتباع هذا النهج كان لا بد من إحداث ما يجب التسليم به نسبة إلى الاتجاه الآخر القاضي بتحرير الإنسان من تلك القيود حفاظاً على كرامته وعلى الاختيار الذي منحه إياه الحق سبحانه، أما في حالة تبني ما يخالف هذا النهج فمن الممكن جداً أن يقع على المكلف عبء التغيير مع استبقاء شرط التخلص من التبعات التي سوف تلحق به جرّاء ما حصل لديه من تجديد.
من هنا نرى أن القرآن الكريم يذم أولئك الناس الذين اتبعوا أسلافهم على الرغم من كثرة الأخطاء التي انتقلت إليهم ضمن الموروثات التي لا يمكن تجنبها أو الابتعاد عنها بشكل من الأشكال. فإن قيل: هل ينطبق هذا المعنى على الأخلاف إذا ما وجدوا أن هناك توافقاً بين دين الحق وبين أسلافهم؟ أقول: يسقط هذا الأمر في حال التوافق المذكور باعتبار أن الذم المشار إليه لا يتقارب مع المسوغات الفكرية لدى من أراد الحصول على القناعات الكاملة دون التقليد الأعمى الذي بينا جزءاً منه، ولا يخفى على من له أدنى علم أن القرآن الكريم قد وضع للإنسان نهجاً سليماً في هذا الشأن، وذلك في قوله تعالى على لسان يوسف: (إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون... واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون) يوسف 37- 38. وشتان بين هذا الاتجاه وبين اتجاه أولئك القوم الذين أشار إليهم تعالى بقوله: (بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون) الزخرف 22. وقريب منه الآية 23. من نفس السورة. وكذا قوله: (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون) البقرة 170. وقريب منه المائدة 104.
وبناءً على ما تقدم يتضح أن هذا التقليد الأعمى المتبع من قبل الأخلاف لم يجد نفعاً لاعتبارات كثيرة أهمها عدم التمحيص والتحليل لما كان متبع لدى أسلافهم دون وجه حق، ومن هنا نصل إلى أن العقائد الفاسدة لا يمكن أن تكون حجة ملزمة للأخلاف وإن كان التواتر يقضي بتصديقها، وذلك لاجتماع القرآن الكريم ومصادر التشريع الأخرى على بطلانها إضافة إلى ما يجده الإنسان أمامه من الأحداث الواقعية التي يكون للعقل نصيب في ترجيح أو أخذ ما يستحق منها. فإن قيل: ما هي العقيدة الباطلة التي لها ارتباط في هذا الطرح؟ أقول: عقيدة الرجعة التي ينظر إليها من طرف خفي لدى كثير من الناس وذلك حفاظاً على التشريع الجزئي المعد سلفاً من قبل أصحاب الشأن دون الاعتماد على الحقائق القرآنية التي تكون ملزمة لهم، وأنت خبير بأن الله تعالى ينفي الرجوع إلى الحياة الدنيا بعد الموت نفياً قاطعاً، وقد بين هذا المعنى في كثير من المواضع، كما في قوله تعالى: (لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ووقاهم عذاب الجحيم) الدخان 56. وكذا قوله: (حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون... لعلي أعمل صالحاً فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون) المؤمنون 99- 100. والمراد من هذا السياق مقاربة الموت دون وقوعه إلا أن فيه ما يدل على عدم الرجعة فتأمل. ومنه قوله تعالى: (ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحاً إنا موقنون... ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين) السجدة 12- 13. وكذلك قوله: (ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين... بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون) الأنعام 27- 28.
فإن قيل: ما هو دليل الناس الذين يؤمنون بالرجعة؟ أقول: دليل الناس الذين يعتقدون بالرجعة هو قوله تعالى: (ويوم نحشر من كل أمة فوجاً ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون) النمل 83. إذا ما قرن بقوله تعالى: (وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحداً) الكهف 47. ولذلك كان اعتقادهم أن الآية الأولى تشير إلى الرجعة في الحياة الدنيا أما الثانية فهي على بابها، والحقيقة أن هذا الرأي يحتمل الصحة في نفسه قياساً للفرق الظاهر بين الآيتين وعلى هذا وجب الأخذ به في الجملة لا بالجملة، ومن هنا يكون الرجوع مقتصراً على فئة من الناس دون الرجوع الجماعي المقرر في عودة أصحاب الإيمان المحض وما يقابلهم من أصحاب الكفر المحض فلاحظ الفرق.
ويرى بعضهم أن هناك دليلاً أكبر من الدليل السابق، وهو قوله تعالى: (وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون) الأنبياء 95. وكما هو ظاهر فإن الآية تنفي الرجعة ولا تثبتها، وقد تكون النتيجة أكثر بياناً إذا ما قرنت هذه الآية بقوله تعالى: (ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون) يس 31. وهناك أدلة أخرى اعتمدها القوم إلا أنها لا تجدي نفعاً، ومن بين تلك الأدلة هناك خمس آيات في سورة البقرة ذكر فيها تعالى الإحياء بعد الإماتة، وأول هذه الآيات هي آية البحث التي يقول سبحانه فيها: (ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون) البقرة 56. والثانية قصة صاحب البقرة التي ذكرها تعالى بقوله: (فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون) البقرة 73. والثالثة قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون) البقرة 243. والرابعة قوله تعالى: (أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه) البقرة 259. أما الآية الخامسة فهي قوله تعالى: (وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً ثم ادعهن يأتينك سعياً واعلم أن الله عزيز حكيم) البقرة 260.
وكما ترى فإن الآيات التي أشارت إلى الرجعة لا يراد منها إلا بيان قدرة الله تعالى على الإحياء بعد الإماتة وفيها دليل على البعث يوم القيامة لأن من بدأ الخلق أول مرة قادر على إعادته ثانية، وقد أشار سبحانه إلى هذا المعنى بقوله: (وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم... قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم) يس 78- 79. فإن قيل: هل يدخل موسى في آية البحث؟ أقول: لا يدخل موسى في آية البحث لأن موتهم كان حقيقياً ولهذا خاطبهم تعالى بقوله: (ثم بعثناكم) البقرة 56. أما موسى فقد قال تعالى عنه: (فلما أفاق) الأعراف 143. فتأمل الفرق. فإن قيل: ألا يعتبر موتهم في هذا الموضع بمعنى النوم؟ أقول: يطلق على النوم مصطلح التوفي وليس الموت وجميع الألفاظ المشتقة من التوفي تفيد معنى أخذ الشيء كاملاً، كما في قوله تعالى: (وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون) الأنعام 60. وكذا قوله: (الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) الزمر 42. وبهذا تظهر النكتة في قوله تعالى: (إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا) آل عمران 55.
من كتابنا: السلطان في تفسير القرآن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق