سورة البقرة من الآية 58 إلى الآية 60/ عبدالله بدر اسكندر

الدعوات العرضية الصادرة عن أناس لا يربطهم الواقع العملي بالأسباب الإيجابية لا يمكن أن تكون وسيلة لاستخلاص المؤشرات التأريخية من ناحية ومن ناحية أخرى لا تجد السبيل الذي يقارب بين الحالات المعاشية المشهودة من قبل الحاضر، ولهذا نرى أن أصحاب تلك الدعوات لم يقفوا على دليل علمي يمكنهم الوصول من خلاله إلى التسليم المطلق بالتأريخ وكيفية التعامل معه، ولذلك أراد هؤلاء أن يضعوا حداً فاصلاً بين الحياة المعاصرة وبين الالتزامات الجزافية التي ارتضوها، وبناءً على هذا البيان يصعب على الباحث تبرئة الأخلاف من الأعمال السيئة التي قام بها أسلافهم في فترة من فترات التأريخ ولهذا كان من الضروري أن يلتحق الأحفاد بالأجداد وكذا تلتحق المسيرة الحاضرة بالتي سبقتها دون أن يكون هناك تفاضلاً في فعل كل طرف من الأطراف، ومن هنا نعلم أن كل مجتمع من المجتمعات إذا كان فاقداً للقدرة على فك الارتباط بأسلافه فهو لا بد أن يكون قد اشترك معهم في نفس الإثم الناتج عن ممارساتهم السلبية المتفرعة على الظلم والاضطهاد بحق الآخرين.
من ذلك نفهم أن للتأريخ سيادة مباشرة على ربط الأفكار بعضها ببعض على مر العصور ما لم يظهر هناك من يعمل على تصحيحها ومحاربتها والخروج بنتائج مستحدثة لا تمت للواقع الأليم بأي صلة، أما إذا استمر الحال على نفس التكرار السيء فإن العقاب الإلهي سوف لا يرحم اللاحق وإن كان بعيداً عن الأجواء التي عاصرها من سبقه وذلك بسبب القبول الصادر منه، وهذا ما حصل بالفعل لبني إسرائيل الذين كانوا في عهد النبي (ص) ومن هنا خاطبهم الحق سبحانه مذكراً إياهم بما كان يفعل أجدادهم، وذلك في قوله: (وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغداً وادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين... فبدل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزاً من السماء بما كانوا يفسقون) البقرة 58- 59.
والظاهر من سياق االآيتين أن الله تعالى قد أنعم عليهم من طريقين:
الأول: الطريق المتمثل بالنعم الدنيوية والذي من مصاديقه تظليل الغمام وإنزال المن والسلوى.
الثاني: الطريق المتعلق بالدين والذي يكفل لهم مغفرة ذنوبهم، وهذا ما يستشف من قوله تعالى: (وادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين) البقرة 58.
وكما هو مبين في السياق فإن التكليف فيه نوع من المشقة الكبيرة وذلك بسبب الجمع بين دخول الباب وبين السجود، وكما ترى فإن الأمر يخلو من الإباحة دون الفعل الإلزامي الصادر إليهم من الله تعالى وإن كان ثقيلاً، وهذا ناتج جرّاء الأعمال التي قاموا بها، ويؤيد هذا الوجه بقوله سبحانه: (ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم) المائدة 21. والأرض المقدسة هي بيت المقدس كما قيل. واختلف المفسرون في الباب على وجهين:
الأول: يدعى باب حطة من بيت المقدس.
الثاني: جهة من جهات القرية ومدخلاً منها.
وعندي أن الرأي الثاني هو الأقرب، لأن الباب يطلق على الجهة الموصلة إلى المبتغى، كما في قوله تعالى حكاية عن يعقوب: (وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة) يوسف 67. وكذا قوله: (وإن جهنم لموعدهم أجمعين... لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم) الحجر 43- 44. ويمكن الاستدلال بالكبرى وذلك في قوله تعالى: (فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء) الأنعام 44.
فإن قيل: ما المقصود من دخول الباب سجداً؟ أقول: اختلف المفسرون في هذا المعنى على وجهين:
الأول: السجود المتعارف عليه أي وضع الجبهة على الأرض.
الثاني: المراد من السجود في هذا الأمر الموجه إليهم هو الركوع.
والوجه الثاني هو الأقرب، لأن الدخول يتحقق مع الركوع دون السجود. فإن قيل: لماذا قال سجداً ولم يقل ركعاً؟ أقول: هذا من باب تسمية الشيء باسم لازمه، وذلك لأن التواضع يظهر في السجود أكثر من الركوع، وقد يفهم هذا المعنى من قوله تعالى: (وقولوا حطة) الذي اختلف المفسرون فيه على أقوال:
الأول: أحطط عنا ذنوبنا وخطايانا.
الثاني: أي قولوا شيئاً يؤدي إلى الحط من ذنوبكم وخطاياكم.
الثالث: أمروا أن يقولوا لا إله إلا الله.
الرابع: أمروا أن يتعبدوا بهذا اللفظ ليحط عنهم أوزارهم.
وأقوى الآراء أولها: أي أحطط عنا ذنوبنا وخطايانا، وإن كانت الآراء الأخرى فيها إشارة ضمنية لهذا المعنى، ولهذا بدل الذين ظلموا هذا القول إلى قول آخر، ومن هنا فقد أنزل الله تعالى عليهم الرجز من السماء، كما هو ظاهر في قوله: (فأنزلنا على الذين ظلموا رجزاً من السماء) من سياق البحث.
قوله تعالى: (وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين) البقرة 60. الاستسقاء: طلب السقيا "لأن السين للطلب" وهذا عادة ما يكون عند حبس المطر، ويظهر من السياق أن هذا الأمر قد حصل في التيه، فأمر موسى بضرب الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً، أي لكل سبط عين يشربون منها، ويمكن الاستدلال من هذه المعجزة العظيمة على شيئين مهمين:
الأول: النفع الحاصل لهم في الدنيا والكيفية التي تم بواسطتها إزالة الحاجة إلى الماء.
الثاني: دلالة هذا الفعل على وجود الله تعالى مما يزيل أعذارهم عن عدم تصديق موسى.
وبهذا يكون المعنى الموجه للذين عاصروا النبي (ص) منهم فيه دلالة على ذكر النعم التي تفضل بها الله تعالى على أسلافهم، فكأنه قال: يا بني إسرائيل اذكروا تلك المرحلة العصيبة التي مر بها من كان قبلكم وقت التيه، وكيف أن الله تعالى قد من عليهم وذلك بسبب طلب السقيا الذي قام به موسى، معللاً ذلك على إنكارهم لتلك النعم، وذلك في قوله: (ولا تعثوا في الأرض مفسدين) البقرة 60.
فإن قيل: يظهر من سياق الآية أن الاستسقاء حصل في التيه، وهذا يباعد بينه وبين الآيات السابقة؟ أقول: لا يحمل السياق القرآني على أنه سرد للأحداث التأريخية، وإنما تراعى فيه العبر بغض النظر عن الأوقات التي يتكلم عنها الحق سبحانه فتأمل.
فإن قيل: قال الله تعالى في سياق البحث: (فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا) وقال في سياق آخر: (فانبجست منه اثنتا عشرة عينا) الأعراف 160. فكيف الجمع بين الآيتين؟ أقول: ذكر المفسرون لهذا المعنى مجموعة من الوجوه منها:
أولاً: الانبجاس والانفجار بمعنى.
ثانياً: العملية الأولى للضرب تسمى الانبجاس ثم تحدث العملية الثانية التي يطلق عليها الانفجار.
ثالثاً: الانبجاس خروج الماء من الحجر الصلب والانفجار خروجه من اللين.
رابعاً: التعبير الوارد في سورة الأعراف فيه إشارة إلى طلبهم السقيا من موسى وهذا ظاهر من قوله: (إذ استسقاه قومه) الأعراف 160. ولهذا أتى بالانبجاس الذي يدل على خروج الماء بقلة أما في سياق البحث فالمعنى ظاهر في طلب موسى السقيا من ربه بطريقة مباشرة، ولهذا اختلف التعبير في الموضعين.
ومن هنا يظهر أن الماء كان ينبجس في بعض االأحيان ثم ينفجر في أحيان أخرى وذلك حسب الحاجة إليه فتأمل.  

من كتابنا: السلطان في تفسير القرآن
   

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق