سورة البقرة.. الآية 61/ عبدالله بدر اسكندر

إذا ما أردنا المقارنة بين الأشياء المعنوية وما يقابلها من الماديات فلا جرم أن النتائج سوف تفقد الامتياز المقرر لها إن لم تكن متطابقة مع المعطيات اليقينية المرتبطة بالنهج السليم الذي ارتضاه الحق سبحانه وأنت خبير بأن اتباع النهج الرباني يقتضي أن يجعل للتفوق الإيماني ظهوراً طاغياً على جميع الأشكال المادية مما يجعلها تنحسر أمام أهون الأسباب دون أن تراعى فيها القيم المعتادة لدى الناس، ومن الأمثلة على ذلك ما نشاهده من نبذ الإنسان لأهم متطلباته المادية وإيثار المعنويات عليها وصولاً إلى الرقي المتكامل الذي يحقق له المحافظة على القدر اللازم لمعرفة السبيل القويم، وبهذا يكون أمامه مجموعة من الخيارات تشترك جميعها في إبقائه على ما هو عليه من العهد الذي قطعه في التسليم لله تعالى أو إخراجه من هذا العنوان ليصبح كالأنعام بل هو أضل، وبالتالي يحدث التباعد بينه وبين المستلزمات المعنوية التي أقرها الشرع وجعلها في منأى عن الاتجاه المادي السقيم الذي لا يكتب له الثبات أمام المغريات.
من هنا نرى أن القرآن الكريم قد بين مجموعة من الصور التي يرتقي الإنسان بواسطتها إلى المكانة التي يجب أن يكون عليها نابذاً كل الاهتمامات التي يجعلها بعض الناس ضمن أولويات حياتهم، ولذلك نلاحظ أن الإيثار قد ظهر بأبهى صوره لدى أصحاب الكهف عند تفضيلهم للطعام الطاهر على الرغم من حاجتهم الماسة لأي نوع من أنواعه ولهذا كان اتفاقهم على أزكى أنواع الطعام دون المذاق الحاصل منه، وقد أشار تعالى إلى هذا المعنى حكاية عنهم بقوله: (فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاماً فليأتكم برزق منه وليتلطف ولا يشعرن بكم أحداً) الكهف 19. والإشارة بالزكاة إلى الطعام تقيد حليته على الرغم من الجوع الحاصل لديهم بسبب انقطاعهم عن الأكل مدة طويلة، وهذا المعنى يجعلنا نصل إلى موقف آخر يتمثل في إيثار أولياء الله تعالى للطعام وهم بأمس الحاجة إليه، وقد بين تعالى ذلك في قوله: (ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً... إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً) الإنسان 8- 9.
وإذا ما تأملنا هذه الصور المعنوية نجد أن هناك ما يقابلها من الصور المادية التي تنحدر بأصحابها إلى أسفل دركات الأرض، وعلى رأس هذه الصور تلك الصورة السيئة لبني إسرائيل الذين تفضل الله تعالى عليهم بأرقى أنواع الطعام إلا أنهم أرادوا استبدال ذلك الطعام بما هو أدنى منه، ولهذا رسم القرآن الكريم هذه الصورة بأسمى بيان وذلك في قوله تعالى: (وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصراً فإن لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون) البقرة 61.
فإن قيل: الرغبة إلى اختيار الطعام من متطلبات الحياة التي اعتاد الإنسان عليها، وهو بطبيعته لا يستطيع الإبقاء أو الصبر على نوع واحد من الطعام وهذا يبين أن طلباتهم كانت مشروعة فلماذا قرعهم الله تعالى؟ أقول: قد يمر الإنسان في مرحلة من المراحل لم يكن أمامه إلا الاختيار الأصعب إذا ما حصل تزاحم بين الأهم والمهم، ولهذا كان لزاماً على بني إسرائيل أن يصبروا على الطعام الذي أنزله الله تعالى عليهم وذلك تزامناً مع المرحلة التي مروا بها حيث لم يكن أمامهم إلا التضحية بالطعام المعتاد لديهم وذلك لأجل إنجاح المهمة التي كلفوا بها أما خلاف ذلك فإن الرغبة إلى اختيار نوع الطعام غير مذمومة ولهذا السبب كان تقريعهم.
فإن قيل: الذائقة في الطعام تختلف بين إنسان وآخر فقد نرى بعض الناس يميل إلى البصل دون العسل إضافة إلى ذلك لو أردنا تبيان القيمة الغذائية للطعام الذي ذكروه في معرض حديثهم مع موسى قبال ما أنزل عليهم، نجد أن ما ذكر على لسانهم يحتوي على كثير من الفوائد التي لا يستطيع الإنسان الاستغناء عنها خلافاً لما كان يقدم إليهم، فلماذا وصف الله تعالى ما أرادوه من الطعام بأنه أدنى من المن والسلوى في قوله: (اتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير) من آية البحث؟ أقول: الإشارة إلى خيرية الطعام لا ترجع للقيمة الغذائية المتعارف عليها، وإنما ذكر التفاضل في هذا الموضع لأجل إظهار الفرق بين الرزق النازل عليهم من الله تعالى دون توسط الأسباب الطبيعية وبين الرزق الذي تتدخل فيه الأسباب ولهذا تعتبر الأرزاق المباشرة أهم وأرقى وذلك نظراً للإعجاز الظاهر فيها، وهذا الأمر يكاد يتقارب مع الرزق الذي كانت تتلقاه مريم بطريقة غير مألوفة مما جعل زكريا يتساءل عن مصدر ذلك الرزق المنزل إليها، وقد صور الحق سبحانه هذه الواقعة بقوله: (كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب) آل عمران 37.
فإن قيل: هل كانت حاجتهم لاستبدال الطعام هي الداعي لهذا الطلب أم أن هناك أشياء أخرى مجهولة؟ أقول: لم يكن الطلب المشار إليه هو الجوهر الذي تسبب في اعتراضهم على نوع الطعام المنزل إليهم وإنما يرجع السبب في ذلك إلى استخفافهم بالأوامر الملقاة على عاتقهم، وذلك لتمكن حب المادة في نفوسهم حتى أصبحوا لا ينظرون إلى الأشياء الخارقة إلا من طرف خفي، وهذا الطلب يكاد يتقارب مع طلب رؤيتهم الله تعالى جهرة، كما في قوله سبحانه: (لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة) البقرة 55. ولذلك أراد هؤلاء أن يكون الطعام الذي يسد حاجتهم فيه بعض المشقة التي دأبوا عليها في طريقة عيشهم منذ أن كانوا في مصر ولغاية إخراجهم منها، ومن هنا كان اعتقادهم أن كل ما يحدث أمامهم فيه شيء من الخديعة من قبل موسى، ظانين أن هذه الأفعال قد تقودهم إلى مصير مجهول يؤدي إلى نهايتهم ولذلك تراهم في عناد مستمر إزاء كل الأوامر التي تصدر إليهم، حتى وصل بهم الأمر إلى عدم الامتثال إلا إلى اقتراحاتهم اللا معقولة فتأمل.
فإن قيل: هل المقصود من مصر التي أمروا بالهبوط إليها هي مصر فرعون؟ أقول: للمفسرين في هذا الباب مجموعة من الآراء أهمها:
أولاً: مصر فرعون وإن شئت فقل البلد المعروف بهذا الاسم، وهذا يدل على أن في إجابتهم نوع من التقريع، أي اهبطوا إلى أدنى المستويات وارجعوا إلى ما كنتم عليه من الذل والاستعباد وبالتالي يتوفر لكم ما سألتم من الطعام الأدنى.
ثانياً: أمرهم الله تعالى بالهبوط إلى الأرض المقدسة، وبهذا تكون محاربتهم لأعدائهم ثمناً للحصول على نوع الطعام الذي سألوه.
ثالثاً: أمر الله تعالى موسى بأن يبين لهم أن ما أرادوه من الطعام لا يمكن الحصول عليه في الصحراء ولكن قد يتوفر لهم في المدن، وبهذا يكون معنى قوله تعالى: (اهبطوا مصراً) من آية البحث. فيه دلالة على إرادة المفهوم العام للمدينة دون مصر المعهودة. 
وعندي أن الرأي الأخير هو الصواب وذلك بسبب عدم منعها من الصرف في آية البحث، بخلاف المواضع الأخرى التي أشارت إلى مصر ممنوعة من الصرف، كما في قوله تعالى: (وقال الذي اشتراه من مصر) يوسف 21. وكذا قوله: (ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين) يوسف 99. وقوله: (ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر) الزخرف 51. وكذلك قوله تعالى: (وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتاً) يونس 87.
فإن قيل: إذا كان قتل الأنبياء بغير الحق أمر لا ريب فيه فما معنى الزيادة الحاصلة في السياق؟ أقول: قيامهم بهذا الفعل يدل على علمهم ببطلانه ولهذا كان تصرفهم أقرب إلى الجحود مع الاستيقان، أو أن هذا من باب التأكيد والكلام البليغ لا يخلو من ذلك، كما في قوله تعالى: (فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) الحج 46. وكذا قوله: (ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برهان له به) المؤمنون 117. وقوله: (قال رب احكم بالحق وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون) الأنبياء 112. وكما ترى فإن المعنى قد ظهر في الكبرى بصورة أكثر جلاءً فتأمل. 

من كتابنا: السلطان في تفسير القرآن 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق