"حارسُ الذاكرة"، هو أكثرُ من عُنوان ٍلكتاب. إنه محطةٌ شامخةٌ في تاريخِ لبنانَ ومِنطقةِ الشرقِ الاوسط، يحوي في طيّاتِه أبعاداً كثيرةً تتجلّى برسالتينِ اساسيتين: الأولى كنَسية ٌفي رسالةِ بطريركٍ أُعطي له مجدُ لبنانَ، فحملَ صَولجانَ المسيحيّةِ والمارونيةِ في أنطاكية َ والشرق، والثانية ُ وطنية ٌ لأنَّ لبنانَ الرسالة َ هو اكثرُ من بلدٍ. انّه نموذجُ الانفتاحِ والتعدديةِ للشرقِ وللغرب، حَمَلهُما حارسُ الذاكرةِ في أحلَكِ ظرفٍ في تاريخِ لبنانَ الحديث، ظرفِ الانتقال ِمن لغةِ المَدفعِ والدمارِ والموتِ الى لـَمْلمةِ الأشلاءِ والبحْثِ عن المخارجِ وتضميدِ الجـِراح، وتثبيتِ السيادةِ والحريةِ والاستقلال، وبناءِ الدولةِ والانسان.
إنّه البطريرك ُالتاريخيّ، الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير الكليُّ الطُّوبى الذي استحقَّ عن جدارةٍ أنْ يكونَ "الحارسَ للذاكرة ِاللبنانيةِ على تنوُّعِ نسيجِها الوطنيِّ وفرادتِه في الشرقِ وفي العالم.
سنة َألفينِ وتسعه، التقينا هنا في هذا المكان، في رِحابِ كنيسةِ وديرِ ومعهدِ مار شربل لتوقيعِ الجُزءِ الأولِ من كتابِ البطريركِ صفير "حارسُ الذاكرة". ونلتقي اليومَ مجدَّداً لاطلاقِ الجُزئينِ الرابعِ والخامسِ من الكتابِ عينِه، وفيهما وثائقُ تُسجِّلُ الوقائعَ والاحداثَ لسنتيْ ألفٍ وتسعِمئةٍ وثمانيةٍ وثمانينَ، والفس وتسعِمئةٍ وتسعةٍ وثمانين. وتكْشِفُ هذه الوثائقُ من ناحية ٍأُولى معاناة َبطريركٍ وضعَ نـُصْبَ عينَيهِ قضيّة َشعبٍ ومستقبلَ وطنٍ، حاملاً كلَّ يومٍ صليبَه بايمانٍ كبيرٍ ورَجاءٍ وَطيدٍ على دروبِ جُلجلةِ الشرقِ الاوسطِ المُعذَّبِ والمُعَذِّب. وفي المقابلِ، تكشِفُ هذه الوثائقُ اسراراً ومُعطياتٍ تـُنشَرُ للمرّةِ الاولى أمانة ً للتاريخِ، وتحْمِلُ غالبيتـُها مضامينَ أحاديثَ لزُوارِ البطريرك، وما نقلوهُ اليه، ونادراً ما كتبَ هو انطباعاتِه او تقييمَه للاشخاصِ او للاحداثِ والمواقف.
واهمية ُاطلاقِ هذا الكتابِ اليومَ تؤكدُ على امرينِ: أولاً ثباتُ البطريركِ صفير على مواقفِه الوطنية، فما قاله في العلنِ قاله ايضا ًفي مجالسِه الخاصة. وفي كِلْتا الحالتينِ لم يكنْ ليَطلُبَ مطلباً مسيحياً فئوياً. فحينَ كان يُسْألُ : ماذا يريدُ المسيحيون؟ كان يجيب:"انا لا اتحدثُ باسمِ المسيحيين َفقط، انما الهموم ُالتي احمِلـُها تطالُ جميعَ اللبنانيينَ وحقوقـَهم بالعيشِ الكريم، مُطالِباً بالأمنِ والسلامِ وكرامةِ الانسان. من هنا عُرف البطريركُ صفير برجلِ الثوابتِ الكنسيّةِ والوطنية.
الامرُ الثاني الذي نستخلصُه من هذه الوثائقِ يُظهـِرُ الى حدٍّ كبيرٍ "عِلـّة َ" المَوارنةِ الاساسيّة، ألا وهي تهافتُ اكثريةِ زعمائـِهم، وبطريقةٍ أنانيةٍ وعمياءَ على السلطة. وقد ادى ذلك الى تنافـُسِ عِدائي فيما بينهم استـُبيحتْ فيه احياناً كلُّ المُحرَّمات، وكانت نتيجتـُه تراجعاً كبيراً لدورِهم وإضعافاً لحضورِهم على الساحةِ اللبنانية ِوالعربيةِ والدولية.
ومَن كُلّفَ بحراسةِ هذه الذاكرة، "كي لا تبقى مجرّدَ وثائقَ في أرشيفٍ، تقتصِرُ فائدتُه فقط على أربابِ التاريخِ الذين يدخلونَه بعد خمسينَ سنة، بحيثُ يكونُ التاريخُ قد دارَ دورتـَه. ورُغمَ صُعوبة ِالمَهمّة، قام الأستاذ جورج عرب مشكورا، بنشرِ هذه الوثائقِ، وهي كـَنزٌ ثمينٌ للكنيسةِ والوطن، والبطريركُ لم يزل حيًّا، وأيضًا الكثيرُ من الذين وُرِدَت أسماؤُهم ومواقفُهم في هذه النصوص، لا يزالونَ على قيدِ الحياة، لعلَّ هذا الخرقَ في جدارِ التاريخِ يُساعدُ على فهمِ ما جرى وأخذِ العِبرِ وانطلاقِ المرحلةِ الجديدة.
أيها الأحباء
في هذه النـَّدوة ِالثقافيةِ والكنسيّة ِواللبنانيةِ- التي تُشرّفـُني رِعايَتـُها- نلتقي حولَ الذاكرةِ وحارسِها: فالبطريركُ من صَومعتهِ ينْظرُ إلى ما نقومُ به؛ والأستاذ جورج عرب، يحمِلُ إلينا ما اكتنـَزَه من قراءةٍ لهذه الوثائق. وكلُّ ذلك بدعوةِ التجمّعِ المسيحيِّ اللبنانيِّ الأوستراليِّ ودعمِه وإعدادِه ، فالشكرُ الكبيرُ لرئيسِه ولي وهبه الذي يتميزُ ايضاً بثبات الموقفِ وبُعدِ الرؤية، والاستعدادِ الدائمِ لعملِ الخير. والشكرُ لمديرِه السيّد جو حداد ولفريقِ العملِ الذي أعدَّ هذه النـَّدوة؛ في قاعةِ القديسة ماري ماكيلوب-الصليب؛ ومن عواملِ النجاحِ الروحيِّ والرسوليِّ في كنيستِنا المارونية ، وجودُ الرَّهبانيةِ اللبنانيةِ المارونية، رَهبانية ِالقديسين، مُمَثـَّلة ًهنا بشخصِ رئيسِ ديرِ ومعهدِ مار شربل الاب جوزف سليمان مع جُمهورِ رُهبانِه؛ وما هذا الحشدُ الكبيرُ من المؤمنينَ والإعلاميّينَ وابناءِ الجاليةِ اللبنانية، ألا شهادة ً وصِلة ً بينَ ما كُتِبَ بِمَن كَتَبَ، وهذا امتيازٌ كبير.
وفي الختام، يبقى صاحبُ الغِبطةِ البطريركُ مار نصرالله بطرس صفير "الحارسَ الامينَ للذاكرة ِالمارونيةِ واللبنانية" لأنّه رجلُ الحقيقة؛ والحقيقة ُلا تـُخيفُ إلاّ من يَخافـُها.
والكنيسةُ المارونية ُاليومَ تتابعُ مسيرتـَها ورسالتـَها التاريخية َمع غِبطةِ أبينا البطريركِ الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي الكليِّ الطوبى الذي يؤكدُ يوما ًبعدَ يومٍ على الثوابتِ التاريخيةِ للبطريركيةِ المارونية، مواجهاً تحدياتِ المرحلةِ وتنامي الاصولياتِ الدينيةِ المتطرفةِ بحكمةٍ وشجاعة، مُنبِّها ًالى الأخطارِ التي تـُحْدِقُ بلبنانَ، واهمُّها مسألةُ الفراغِ في سُدّةِ الرئاسة.
ويبقى البطاركةُ، حُرّاسَ ذاكرةِ الكنيسةِ المارونية، وحُراساً للبنانَ الوطنِ والرسالةِ، وشهوداً للحقِ ومَنارة ً للأجيالِ القادمة.
وشكرًا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق