التسليم اليقيني المفروض على المكلف يتعدى حدود الأركان الإيمانية المنصوص عليها في الكتاب والسنة وذلك بسبب عدم إحاطة الإنسان بما وراء تلك الأركان لا سيما ما ورد في القرآن الكريم من قواعد مثالية لا يستطيع العقل أن يحتويها من جميع جوانبها، ومن هنا أخذ بعض الناس ينظر إلى تلك القواعد على أنها من المغيبات التي يصعب تفسير كنهها أو إيجاد ما يناسبها من تأويل وإن كان بوجه، ويبقى السؤال حائراً على الرغم من وصول جمع من العلماء إلى تحليل الرموز الأولى لكثير من الظواهر القرآنية من خلال الدراسات التفسيرية أو ما يتناقله قسم آخر منهم منسوباً للأوحدي، ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره الحق سبحانه بشأن الرحلة التي قام بها موسى مع العبد الصالح أو ما نقل لعيسى من القدرة بإذن الله تعالى، وكذا ما جرى لسليمان مع الهدهد أو النملة وهلم جراً، وكما ترى فإن هذه الحقائق لها حكم مخالف لما هو مألوف لدى الناس ولا يمكن معرفته من خلال النظر في أصل الواقعة، وكذا لا نجد ما يتطابق مع ذلك في المحدثات التي وصل إليها الإنسان، وبناء على هذا العجز تظهر حقائق أخرى لا تقل أهمية عن الأمثلة التي أشرنا إليها، وهذه الحقائق ترتبط ارتباطاً مباشراً بالعالم الخفي الذي لا يجد الإنسان سبيلاً إلى معرفة كنه مجرياته كما يلاحظ ذلك في عالم الملائكة أو عالم الجن، وما يلحق بهذين العالمين من تفرعات لا يستطيع العقل استيعابها.
فإن قيل: إذا كان العقل لا يستطيع استيعاب تلك المغيبات فهل يجب الإيمان بها؟ أقول: من الواجب الإيمان بكل ما جاء في القرآن الكريم أو على لسان النبي (ص) ولهذا قيل إن الإيمان بالملائكة ركن من أركان الإيمان، وقد أشار الله تعالى إلى هذه الحقيقة بقوله: (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير) البقرة 285. ولذلك قسم العلماء الإيمان بالملائكة إلى درجات متفاوتة أهمها:
أولاً: الإيمان المجمل: وهو يتلخص بالإيمان بوجودهم وأنهم خلق من خلق الله تعالى، ولهم ما يميزهم عن الكائنات الأخرى، وهذا القدر من الإيمان لا يمكن أن يعرض المؤمنون عنه فهو واجب على جميع المكلفين.
ثانياً: الإيمان التفصيلي: وهو الإيمان الذي يصل الإنسان بواسطته إلى معرفة المهمة التي يقوم بها كل واحد من الملائكة إضافة إلى معرفة التفاصيل الجزئية التي كلفوا بها، وهذا الأمر لا يمكن أن يتحقق لجميع الناس ولذا فهو وارد على سبيل الكفاية، أي إذا قام به بعض الناس سقط عن المجموع.
وبناءً على ما قدمنا نستطيع القول إن من عادى واحداً من الملائكة فهو بلا ريب يكون عدواً لهم جميعاً وهذا ما حصل مع اليهود الذين كانوا يعتقدون أن بغضهم لجبريل ناتج عن كونه يأتي بالعذاب النازل بحق الأمم السالفة، خلافاً لميكال الذي ينزل بالمطر والرحمة على جميع الناس، ولهذا رد الله تعالى عليهم هذا الاعتقاد وبين لهم عدم صحة ما ذهبوا إليه من التفريق بين الملائكة، وسيمر عليك هذا المعنى في تفسير آيات البحث.
سبب النزول:
ذكر الواحدي في أسباب النزول مرفوعاً إلى سعيد بن جبير ما يلي: أقبلت اليهود إلى النبي (ص) فقالوا يا أبا القاسم نسألك عن أشياء فإن أجبتنا فيها اتبعناك، أخبرنا من الذي يأتيك من الملائكة؟ فإنه ليس نبي إلا يأتيه ملك من عند ربه عز وجل بالرسالة بالوحي، فمن صاحبك؟ قال: جبريل، قالوا: ذاك الذي ينزل بالحرب وبالقتال، ذاك عدونا، لو قلت ميكائيل الذي ينزل بالمطر والرحمة اتبعناك، فأنزل الله تعالى: (قل من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك... إلى قوله: فإن الله عدو للكافرين) من موضوع البحث.
تفسير آيات البحث:
قوله تعالى: (قل من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقاً لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين) البقرة 97. جبريل هو الملك المقرب عند الله تعالى والمكلف بنقل رسالة السماء إلى الأنبياء وقد نزل بالقرآن الكريم، واختصاص الإنزال في هذا الموضع على قلب النبي (ص) فيه تشريف لجبريل وإزالة للوهم الحاصل لدى اليهود الذين كانوا يسألون عن الملك الذي ينزل بالوحي، والالتفات من الغيبة إلى الحضور فيه رفع لشأن النبي من جهة وجبريل من جهة ثانية، ولهذا أضاف سبحانه ما يتمم هذا المعنى فقال: (مصدقاً لما بين يديه) من سياق البحث. أي مصدقاً لما بين يديه من الكتب المنزلة على الرسل السابقين، وفيه ميزة أخرى ذكرها تعالى في قوله: (وهدى وبشرى للمؤمنين) من سياق البحث.
قوله تعالى: (من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين) البقرة 98. الآية فيها إشارة نوعية إلى حكم عام مستخرج من الآية التي سبقتها، أي إن كان هؤلاء اليهود أعداء لجبريل فإن الله تعالى عدو لكل من يجد في نفسه العداء سواء لجبريل أو ميكال أو غيرهما من الملائكة والرسل وكما هو ظاهر فإن الله تعالى اختص من بين الملائكة جبريل وميكال ثم عطفهما على الملائكة وذلك لأهميتهما وفضلهما على سائر الملائكة، ولهذا أنزل من يُظهر لهما العداء منزلة الكافرين، لأنه سبحانه يريد من عباده الإيمان به وبملائكته ورسله، وهذا ما أشرنا إليه في مقدمة البحث.
قوله تعالى: (ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون) البقرة 99. قيل في الآيات البينات مجموعة من الآراء منها:
أولاً: الآيات القرآنية، لأن الإنسان لا يحتاج إلى كثير من الجهد في فهم مقاصدها من حيث الدلالة الأولية.
ثانياً: من الآيات البينات امتناع أهل الكتاب عن المباهلة، وفي هذا دليل على صدق ما جاء به النبي (ص).
ثالثاً: نبوع الماء من بين أصابع النبي، وهذا دليل آخر على صدق دعوته (ص) وقد نقل ذلك بالتواتر.
رابعاً: امتناع اليهود عن تمني الموت وإن كان ذلك عن طريق النفاق أو الكذب، وفي كلا الحالتين لم يحصل.
خامسا: الآيات الواردة في كتابي التوراة والإنجيل.
سادساً: انشقاق القمر.
وعندي: أن الآية تشير إلى القرآن لا غير، لأن التخصيص لا يشتمل على النقاط المذكورة آنفاً، ويرجع السبب في ذلك إلى ما ورد في القرآن الكريم من إخبار لما هو غامض عنهم في الكتب السابقة، وقد أشار الحق سبحانه إلى هذا المعنى بقوله: (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين) المائدة 15.
قوله تعالى: (أو كلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون) البقرة 100. في الآية إشارة إلى نقضهم لجميع العهود والمواثيق التي أبرموها مع الأنبياء على مر التأريخ، وذلك بسبب عدم التزامهم بالمعاهدات التي تعقد بينهم وبين الآخرين، ولم يرد الله تعالى أن يبخس حقوق بعضهم، ولهذا اقتصر الأمر على فريق منهم، ولما كان لفظ (فريق) يوهم أن المراد منه العدد القليل، أزال سبحانه هذا الإبهام بقوله: (بل أكثرهم لا يؤمنون) من سياق البحث. وفي الآية دليل على إخبار القرآن الكريم بالغيب الذي لا سبيل إلى معرفة تفاصيله إلا عن طريق الوحي، ولا يزال هذا الأمر قائماً إلى اليوم دون أن يتخلف إلا في عدد قليل منهم، كما هو مبين في موضوع البحث فتأمل.
من كتابنا: السلطان في تفسير القرآن
فإن قيل: إذا كان العقل لا يستطيع استيعاب تلك المغيبات فهل يجب الإيمان بها؟ أقول: من الواجب الإيمان بكل ما جاء في القرآن الكريم أو على لسان النبي (ص) ولهذا قيل إن الإيمان بالملائكة ركن من أركان الإيمان، وقد أشار الله تعالى إلى هذه الحقيقة بقوله: (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير) البقرة 285. ولذلك قسم العلماء الإيمان بالملائكة إلى درجات متفاوتة أهمها:
أولاً: الإيمان المجمل: وهو يتلخص بالإيمان بوجودهم وأنهم خلق من خلق الله تعالى، ولهم ما يميزهم عن الكائنات الأخرى، وهذا القدر من الإيمان لا يمكن أن يعرض المؤمنون عنه فهو واجب على جميع المكلفين.
ثانياً: الإيمان التفصيلي: وهو الإيمان الذي يصل الإنسان بواسطته إلى معرفة المهمة التي يقوم بها كل واحد من الملائكة إضافة إلى معرفة التفاصيل الجزئية التي كلفوا بها، وهذا الأمر لا يمكن أن يتحقق لجميع الناس ولذا فهو وارد على سبيل الكفاية، أي إذا قام به بعض الناس سقط عن المجموع.
وبناءً على ما قدمنا نستطيع القول إن من عادى واحداً من الملائكة فهو بلا ريب يكون عدواً لهم جميعاً وهذا ما حصل مع اليهود الذين كانوا يعتقدون أن بغضهم لجبريل ناتج عن كونه يأتي بالعذاب النازل بحق الأمم السالفة، خلافاً لميكال الذي ينزل بالمطر والرحمة على جميع الناس، ولهذا رد الله تعالى عليهم هذا الاعتقاد وبين لهم عدم صحة ما ذهبوا إليه من التفريق بين الملائكة، وسيمر عليك هذا المعنى في تفسير آيات البحث.
سبب النزول:
ذكر الواحدي في أسباب النزول مرفوعاً إلى سعيد بن جبير ما يلي: أقبلت اليهود إلى النبي (ص) فقالوا يا أبا القاسم نسألك عن أشياء فإن أجبتنا فيها اتبعناك، أخبرنا من الذي يأتيك من الملائكة؟ فإنه ليس نبي إلا يأتيه ملك من عند ربه عز وجل بالرسالة بالوحي، فمن صاحبك؟ قال: جبريل، قالوا: ذاك الذي ينزل بالحرب وبالقتال، ذاك عدونا، لو قلت ميكائيل الذي ينزل بالمطر والرحمة اتبعناك، فأنزل الله تعالى: (قل من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك... إلى قوله: فإن الله عدو للكافرين) من موضوع البحث.
تفسير آيات البحث:
قوله تعالى: (قل من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقاً لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين) البقرة 97. جبريل هو الملك المقرب عند الله تعالى والمكلف بنقل رسالة السماء إلى الأنبياء وقد نزل بالقرآن الكريم، واختصاص الإنزال في هذا الموضع على قلب النبي (ص) فيه تشريف لجبريل وإزالة للوهم الحاصل لدى اليهود الذين كانوا يسألون عن الملك الذي ينزل بالوحي، والالتفات من الغيبة إلى الحضور فيه رفع لشأن النبي من جهة وجبريل من جهة ثانية، ولهذا أضاف سبحانه ما يتمم هذا المعنى فقال: (مصدقاً لما بين يديه) من سياق البحث. أي مصدقاً لما بين يديه من الكتب المنزلة على الرسل السابقين، وفيه ميزة أخرى ذكرها تعالى في قوله: (وهدى وبشرى للمؤمنين) من سياق البحث.
قوله تعالى: (من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين) البقرة 98. الآية فيها إشارة نوعية إلى حكم عام مستخرج من الآية التي سبقتها، أي إن كان هؤلاء اليهود أعداء لجبريل فإن الله تعالى عدو لكل من يجد في نفسه العداء سواء لجبريل أو ميكال أو غيرهما من الملائكة والرسل وكما هو ظاهر فإن الله تعالى اختص من بين الملائكة جبريل وميكال ثم عطفهما على الملائكة وذلك لأهميتهما وفضلهما على سائر الملائكة، ولهذا أنزل من يُظهر لهما العداء منزلة الكافرين، لأنه سبحانه يريد من عباده الإيمان به وبملائكته ورسله، وهذا ما أشرنا إليه في مقدمة البحث.
قوله تعالى: (ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون) البقرة 99. قيل في الآيات البينات مجموعة من الآراء منها:
أولاً: الآيات القرآنية، لأن الإنسان لا يحتاج إلى كثير من الجهد في فهم مقاصدها من حيث الدلالة الأولية.
ثانياً: من الآيات البينات امتناع أهل الكتاب عن المباهلة، وفي هذا دليل على صدق ما جاء به النبي (ص).
ثالثاً: نبوع الماء من بين أصابع النبي، وهذا دليل آخر على صدق دعوته (ص) وقد نقل ذلك بالتواتر.
رابعاً: امتناع اليهود عن تمني الموت وإن كان ذلك عن طريق النفاق أو الكذب، وفي كلا الحالتين لم يحصل.
خامسا: الآيات الواردة في كتابي التوراة والإنجيل.
سادساً: انشقاق القمر.
وعندي: أن الآية تشير إلى القرآن لا غير، لأن التخصيص لا يشتمل على النقاط المذكورة آنفاً، ويرجع السبب في ذلك إلى ما ورد في القرآن الكريم من إخبار لما هو غامض عنهم في الكتب السابقة، وقد أشار الحق سبحانه إلى هذا المعنى بقوله: (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين) المائدة 15.
قوله تعالى: (أو كلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون) البقرة 100. في الآية إشارة إلى نقضهم لجميع العهود والمواثيق التي أبرموها مع الأنبياء على مر التأريخ، وذلك بسبب عدم التزامهم بالمعاهدات التي تعقد بينهم وبين الآخرين، ولم يرد الله تعالى أن يبخس حقوق بعضهم، ولهذا اقتصر الأمر على فريق منهم، ولما كان لفظ (فريق) يوهم أن المراد منه العدد القليل، أزال سبحانه هذا الإبهام بقوله: (بل أكثرهم لا يؤمنون) من سياق البحث. وفي الآية دليل على إخبار القرآن الكريم بالغيب الذي لا سبيل إلى معرفة تفاصيله إلا عن طريق الوحي، ولا يزال هذا الأمر قائماً إلى اليوم دون أن يتخلف إلا في عدد قليل منهم، كما هو مبين في موضوع البحث فتأمل.
من كتابنا: السلطان في تفسير القرآن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق