ارتباط النشأة الأولى بالسنن الطبيعية يجعلها خاضعة لقانون العلية علماً أن هذا القانون لا يستقل بنفسه وإنما يكون محكوماً بالإرادة الإلهية، ولذلك نلاحظ عدم تطابق التفرعات المستخرجة من هذا القانون مع الأحداث المشاهدة، وقد ذكر القرآن الكريم هذا المعنى في كثير من متفرقاته كما في قوله تعالى: (فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم) الشعراء 63. وكذا قوله: (قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم) الأنبياء 69. وما ورد في الآيتين من إبطال لخاصيتي الإغراق والإحراق أمر لا يألفه الإنسان وهذا لا يعني أن النشأة الأولى بعيدة عن اجتماع الأسس القانونية المسيرة لأبعادها المتفرقة، وإذا أردنا أن نبين مجموعة من الأدلة على ما نحن فيه يجب إظهار قانون النشأة الأخرى بطريقة بعيدة عن النظرة السائدة، ومن هنا نجد عدم اتفاق القانون الآخر مع القانون الأرضي بوجه حسير دون اجتماعه مع القوانين الأخرى، ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى: (إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم... طلعها كأنه رؤوس الشياطين) الصافات 64- 65. وعند تأمل هذا السياق نلاحظ أن هذه النشأة ما هي إلا مثالاً مصغراً للنشأة الأخرى بدليل أن الآية آنفة الذكر يمكن أن تتفرع منها مجموعة من الآيات المتشابهة التي تحمل في تفاصيلها ما يبين الأنواع المتفرقة للنشأة الأولى وكيفية اجتماعها مع النشأة الأخرى، ومن تلك الآيات قوله تعالى: (أفرأيتم النار التي تورون... أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشؤون) الواقعة 71- 72. وكذا قوله: (الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار) النور 35. وقوله: (الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً فإذا أنتم منه توقدون) يس 80.
وبناءً على ما تقدم نعلم أن القانون الأرضي ما هو إلا أحد الأجزاء المكملة للنظام العام الذي أبدعه الخالق على غير مثال ووهب من خلاله للإنسان حق التصرف والاختيار، وهذا ما يجعل عملية التغيير المقررة من قبل الأخير لا تنسجم مع النظام الإصلاحي المعتمد لديه، ولذلك اقتضت حكمة الله تعالى أن يبعث الرسل ويجعل لكل واحد منهم شرعة خاصة لا تتعدى أحكامها إلى ما يستجد في الوقت اللاحق إذا ما علمنا أن هناك محدثات قد تكون هي السبب المباشر في فرض الأحكام الاستثنائية وبالتالي يصح أن توضع الحلول المناسبة من خلال ما ينتج عن تلك الأحكام لكي يتم إصلاح جميع الملابسات الدخيلة على النظام التشريعي المسن من قبل الحق سبحانه.
فإن قيل: إذا كان الله عالماً بكل شيء فكيف يطرأ التغيير على نظامه؟ أقول: التغيير لا يطرأ على القوانين الثابتة التي بني عليها النظام الكوني وإنما يحدث تبعاً لحق الاختيار الذي وهبه الله تعالى للإنسان، ومن هنا نرى أن المقتضيات الزمنية تسير وفق قانون ثابت دون أن تخضع للمتغيرات الطارئة، وقد أشكل هذا السبب على كثير من الناس الذين يظنون أن هناك نقصاً في تنزيل الأحكام عند خضوعها للنسخ والتبديل، علماً أن سنة الحياة تقضي أن تكون المراحل الزمنية تابعة للمتغيرات الطارئة مما يجعل الحل المثالي يأخذ الدور الكبير في الإشراف على ما يرجح من تجديد لجميع القضايا التي لم تعد تعمل بصورتها الطبيعية.
من هنا يظهر أن أتباع الديانات السابقة لعصر التنزيل قد ألزموا أنفسهم بعدم تبديل ما أنزل عليهم جهلاً وعناداً لئلا يكون ذلك سبباً في فقدان الخصائص العامة التي تكفل لهم التسلط على رقاب الآخرين في المجال التشريعي على أقل تقدير، وأنت خبير بأن الدين الجديد لا يكره الناس على الدخول فيه ولهذا كان لهم الحق في إبداء ما كانوا يعتقدون به حتى وصل بهم الأمر إلى فرض ذلك الاعتقاد على جميع الناس من غير وجه حق، ولا يخفى على ذوي البصائر أن هذا الاعتقاد لا يخرج عن كونه مصداقاً للحسد المشار إليه في آية البحث التي سنتعرض إليها لاحقاً في المساحة المخصصة للتفسير، وسنبين أن الأفعال التي كان يقوم بها أهل الكتاب لا تقتصر على إفساد الفطرة السليمة التي يتمتع بها المؤمنون وإنما تتعدى إلى صرف الناس عن التعاليم التي جاء بها القرآن الكريم، وبهذا تظهر النكتة في قوله تعالى: (وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون) آل عمران 72.
تفسير آية البحث:
قوله تعالى: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير) البقرة 109. مفهوم الآية يوحي بأن الفترة التي نزلت فيها كان المسلمون بحاجة إلى القوة سواء بالعدة أو العدد، ويمكن أن يعلل هذا الأمر نظراً للحكم المؤجل المشار إليه في السياق، وبناءً على ما قدرنا لم تكن الآية منسوخة بآية القتال لأن الحكم المؤجل لا يجتمع مع النسخ وإنما يكون تابعاً للمتغيرات الزمنية، وهذا المنطوق نظير قوله تعالى: (واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلاً) النساء 15.
وقال ابن الجوزي في زاد المسير: إن للآية ثلاثة أسباب للنزول:
الأول: إن حيي بن أخطب وأبا ياسر كانا جاهدين في رد الناس عن الإسلام فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس.
الثاني: إن كعب ابن الأشرف كان يهجو النبي، ويحرض عليه كفار قريش في شعره، وكان المشركون واليهود من أهل المدينة يؤذون رسول الله حين قدمها، فأمر النبي بالصفح عنهم، فنزلت هذه الآية، قاله عبد الله بن كعب بن مالك.
الثالث: إن نفراً من اليهود دعوا حذيفة وعماراً إلى دينهم فأبيا، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل.
وأضاف في زاد المسير: الحسد: تمني زوال النعمة عن المحسود، وإن لم يصر للحاسد مثلها، وتفارقه الغبطة، فإنها تمني مثلها من غير حب زوالها عن المغبوط، وحد بعضهم الحسد فقال: هو أذى يلحق بسبب العلم بحسن حال الأخيار، ولا يجوز أن يكون الفاضل حسوداً، لأن الفاضل يجري على ما هو الجميل، وقال بعض الحكماء: كل أحد يمكن أن ترضيه إلا الحاسد فإنه لا يرضى إلا بزوال نعمتك، وقال الأصمعي: سمعت إعرابياً يقول: ما رأيت ظالماً أشبه بمظلوم من الحاسد، حزن لازم ونفس دائم وعقل هائم وحسرة لا تنقضي.
وأضاف ابن الجوزي: أن قوله تعالى: (حتى يأتي الله بأمره) قال ابن عباس: فجاء الله بأمره في النضير بالجلاء والنفي، وفي قريظة بالقتل والسبي، وقد روي عن ابن مسعود، وابن عباس، وأبي العالية، وقتادة، رضي الله عنهم: أن العفو والصفح منسوخ بقوله تعالى: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) التوبة 29. وأبى هذا القول جماعة من المفسرين والفقهاء واحتجوا بأن الله لم يأمر بالصفح والعفو مطلقاً، وإنما أمر به إلى غاية وما بعد الغاية يخالف حكم ما قبلها، وما هذا سبيله لا يكون من باب المنسوخ بل يكون الأول قد انقضت مدته بغايته والآخر يحتاج إلى حكم آخر. انتهى بتصرف يسير منا.
فإن قيل: الحسد لا يأتي إلا عن طريق النفس فلمَ قال الله في آية البحث: (حسداً من عند أنفسهم) أليس هذا من باب تحصيل الحاصل؟ أقول: الزيادة في هذا الموضع تدل على أن حسدهم لم يكن تابعاً لحرصهم على الدين، وإنما كان بسبب فساد أخلاقهم وإلزام أنفسهم بالباطل الذي أرادوا أن يدحضوا به الحق، وقد ظهر هذا المعنى من خلال السياق في قوله تعالى: (من بعد ما تبين لهم الحق) من آية البحث. فتأمل ذلك بلطف.
من كتابنا: السلطان في تفسير القرآن
وبناءً على ما تقدم نعلم أن القانون الأرضي ما هو إلا أحد الأجزاء المكملة للنظام العام الذي أبدعه الخالق على غير مثال ووهب من خلاله للإنسان حق التصرف والاختيار، وهذا ما يجعل عملية التغيير المقررة من قبل الأخير لا تنسجم مع النظام الإصلاحي المعتمد لديه، ولذلك اقتضت حكمة الله تعالى أن يبعث الرسل ويجعل لكل واحد منهم شرعة خاصة لا تتعدى أحكامها إلى ما يستجد في الوقت اللاحق إذا ما علمنا أن هناك محدثات قد تكون هي السبب المباشر في فرض الأحكام الاستثنائية وبالتالي يصح أن توضع الحلول المناسبة من خلال ما ينتج عن تلك الأحكام لكي يتم إصلاح جميع الملابسات الدخيلة على النظام التشريعي المسن من قبل الحق سبحانه.
فإن قيل: إذا كان الله عالماً بكل شيء فكيف يطرأ التغيير على نظامه؟ أقول: التغيير لا يطرأ على القوانين الثابتة التي بني عليها النظام الكوني وإنما يحدث تبعاً لحق الاختيار الذي وهبه الله تعالى للإنسان، ومن هنا نرى أن المقتضيات الزمنية تسير وفق قانون ثابت دون أن تخضع للمتغيرات الطارئة، وقد أشكل هذا السبب على كثير من الناس الذين يظنون أن هناك نقصاً في تنزيل الأحكام عند خضوعها للنسخ والتبديل، علماً أن سنة الحياة تقضي أن تكون المراحل الزمنية تابعة للمتغيرات الطارئة مما يجعل الحل المثالي يأخذ الدور الكبير في الإشراف على ما يرجح من تجديد لجميع القضايا التي لم تعد تعمل بصورتها الطبيعية.
من هنا يظهر أن أتباع الديانات السابقة لعصر التنزيل قد ألزموا أنفسهم بعدم تبديل ما أنزل عليهم جهلاً وعناداً لئلا يكون ذلك سبباً في فقدان الخصائص العامة التي تكفل لهم التسلط على رقاب الآخرين في المجال التشريعي على أقل تقدير، وأنت خبير بأن الدين الجديد لا يكره الناس على الدخول فيه ولهذا كان لهم الحق في إبداء ما كانوا يعتقدون به حتى وصل بهم الأمر إلى فرض ذلك الاعتقاد على جميع الناس من غير وجه حق، ولا يخفى على ذوي البصائر أن هذا الاعتقاد لا يخرج عن كونه مصداقاً للحسد المشار إليه في آية البحث التي سنتعرض إليها لاحقاً في المساحة المخصصة للتفسير، وسنبين أن الأفعال التي كان يقوم بها أهل الكتاب لا تقتصر على إفساد الفطرة السليمة التي يتمتع بها المؤمنون وإنما تتعدى إلى صرف الناس عن التعاليم التي جاء بها القرآن الكريم، وبهذا تظهر النكتة في قوله تعالى: (وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون) آل عمران 72.
تفسير آية البحث:
قوله تعالى: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير) البقرة 109. مفهوم الآية يوحي بأن الفترة التي نزلت فيها كان المسلمون بحاجة إلى القوة سواء بالعدة أو العدد، ويمكن أن يعلل هذا الأمر نظراً للحكم المؤجل المشار إليه في السياق، وبناءً على ما قدرنا لم تكن الآية منسوخة بآية القتال لأن الحكم المؤجل لا يجتمع مع النسخ وإنما يكون تابعاً للمتغيرات الزمنية، وهذا المنطوق نظير قوله تعالى: (واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلاً) النساء 15.
وقال ابن الجوزي في زاد المسير: إن للآية ثلاثة أسباب للنزول:
الأول: إن حيي بن أخطب وأبا ياسر كانا جاهدين في رد الناس عن الإسلام فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس.
الثاني: إن كعب ابن الأشرف كان يهجو النبي، ويحرض عليه كفار قريش في شعره، وكان المشركون واليهود من أهل المدينة يؤذون رسول الله حين قدمها، فأمر النبي بالصفح عنهم، فنزلت هذه الآية، قاله عبد الله بن كعب بن مالك.
الثالث: إن نفراً من اليهود دعوا حذيفة وعماراً إلى دينهم فأبيا، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل.
وأضاف في زاد المسير: الحسد: تمني زوال النعمة عن المحسود، وإن لم يصر للحاسد مثلها، وتفارقه الغبطة، فإنها تمني مثلها من غير حب زوالها عن المغبوط، وحد بعضهم الحسد فقال: هو أذى يلحق بسبب العلم بحسن حال الأخيار، ولا يجوز أن يكون الفاضل حسوداً، لأن الفاضل يجري على ما هو الجميل، وقال بعض الحكماء: كل أحد يمكن أن ترضيه إلا الحاسد فإنه لا يرضى إلا بزوال نعمتك، وقال الأصمعي: سمعت إعرابياً يقول: ما رأيت ظالماً أشبه بمظلوم من الحاسد، حزن لازم ونفس دائم وعقل هائم وحسرة لا تنقضي.
وأضاف ابن الجوزي: أن قوله تعالى: (حتى يأتي الله بأمره) قال ابن عباس: فجاء الله بأمره في النضير بالجلاء والنفي، وفي قريظة بالقتل والسبي، وقد روي عن ابن مسعود، وابن عباس، وأبي العالية، وقتادة، رضي الله عنهم: أن العفو والصفح منسوخ بقوله تعالى: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) التوبة 29. وأبى هذا القول جماعة من المفسرين والفقهاء واحتجوا بأن الله لم يأمر بالصفح والعفو مطلقاً، وإنما أمر به إلى غاية وما بعد الغاية يخالف حكم ما قبلها، وما هذا سبيله لا يكون من باب المنسوخ بل يكون الأول قد انقضت مدته بغايته والآخر يحتاج إلى حكم آخر. انتهى بتصرف يسير منا.
فإن قيل: الحسد لا يأتي إلا عن طريق النفس فلمَ قال الله في آية البحث: (حسداً من عند أنفسهم) أليس هذا من باب تحصيل الحاصل؟ أقول: الزيادة في هذا الموضع تدل على أن حسدهم لم يكن تابعاً لحرصهم على الدين، وإنما كان بسبب فساد أخلاقهم وإلزام أنفسهم بالباطل الذي أرادوا أن يدحضوا به الحق، وقد ظهر هذا المعنى من خلال السياق في قوله تعالى: (من بعد ما تبين لهم الحق) من آية البحث. فتأمل ذلك بلطف.
من كتابنا: السلطان في تفسير القرآن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق