التعلق اليقيني بالكتب السماوية يحتاج إلى مدخل يتطابق في تراكيبه مع التلاوة الصحيحة التي تقوم أركانها على مقدمات أساسية بعيدة عن السطحية، أما إذا اتخذ الإنسان ما يخالف هذا النهج فمن الطبيعي أن يجانب الثوابت المثالية التي يتطلع من خلالها إلى معرفة الكليات البديهية المحتواة في الكتب المنزلة من الله تعالى، وههنا تحدث الإشكالية المنسوبة لتلك الكتب والتي يتحدد على ضوئها المقدار الخاطئ الملازم للبراهين الجزئية التي تمهد السبيل لتدبر الأحكام المتفرقة في الكتب المشار إليها، وتأسيساً على ذلك يمكن تقسيم الذين يتلون كتاب الله إلى قسمين، يختص الأول في التلاوة الخالية من العمق المعرفي المحيط بالألفاظ المبينة للمعاني، ولا يخفى على المتلقي أن هذا النهج سوف يؤول بأصحابه إلى الكفر والإعراض عن المفاهيم السليمة، أو أن يبقى أتباع هذا القسم في دائرة الشك وذلك أضعف الإيمان، ومن هنا يتسلل إلى قلوبهم التفريق بين المعطيات الإلهية وما دونها من المعطيات السلبية وبالتالي يصل كل واحد منهم إلى مرحلة عدم البيان في الاعتقاد الذي كان يأمل في الحصول عليه من خلال التلاوة، وكما ترى فإن هذا المطاف يمكن أن يؤدي به إلى الهلاك بدلاً من السير في الطريق الموصل إلى الهدى.
أما القسم الثاني فهؤلاء هم الذين يتلون الكتاب وفق أسس علمية رصينة ما يجعلهم أقرب إلى فهم الحقيقة الكلامية المنزلة من الله جل شأنه، وقد تتفرع على هذين القسمين مجموعات أخرى منهم من التزم الأخذ بالمصاديق دون إرجاعها إلى المفاهيم العامة وإن شئت فقل دون إرجاعها إلى الكبرى من حيث الفهم التدريجي ومنهم من اتخذ العكس، وقياساً إلى هذين الاتجاهين نستطيع أن نجعل التعليلات آيلة إلى أحد أمرين أولاهما ناشئ عن عدم الإيمان بالمعارف اليقينية للتلاوة، أو الاعتماد الموافق للبلاغة وكذا ما يتفرع على الكتاب من المواقف العلمية المثيرة التي لا تخرج عن المفهوم النظري للألفاظ دون المعاني ما يجعل الأغراض المتخذة من قبل أصحاب هذا الأمر في منأى عن التجديد، وبهذا تقع الأعباء على فهم الكتاب ظاهراً دون الحقيقة التي ترد إلى أصل الحجب الخارجية التي تحول بين القارئ والمراعاة المنهجية للتلاوة، وبهذا القدر يمكن القول إن من كان هذا ديدنه فمن الضروري أن يتم إدخاله ضمن أولئك الناس الذين أدت بهم التلاوة إلى الكفر بدلاً من الإيمان، وثانيهما يرجع إلى معنى التلاوة الحقة التي تأخذ بأيدي مريديها إلى بر الأمان بعيداً عن الفئة الأولى، كون الذين اعتمدوها أقروا بمبادئ الفهم الإيماني دون تعصب أو تعقيد.
من هنا نعلم أن كلا القسمين قد اعتمد الدخول إلى أصل الكتاب إلا أن التباين قد حدث في نوعية الحجب التي ابتلي بها كل فريق منهما، وبناءً على هذا المفهوم نستطيع إبعاد الصنف الأول الذي لم ينتفع بالتلاوة ونجعل اهتمامنا منصباً على الصنف الثاني، وبذلك يمكن تقسيم هذا الصنف إلى مجموعات كثيرة تتفاوت لديهم المعرفة بين التلاوة اليقينية وما دونها من التلاوات التي لا تقف على وجه تطبيقي، ونظراً لهذا التباين نرى أن التقسيم قد آل إلى الاعتقاد الراسخ لدى الإنسان الذي يعمل جهده من أجل الوصول إلى ما يروم إليه من الإيمان الناتج جراء تلاوته إذا ما علمنا أن فقده لأسس المعرفة يحول دون مبتغاه، وعند وصوله إلى هذه المرحلة يصبح مأموراً بالفقرات الاستطاعية التي من أهم مصاديقها تيسير القرآن عند التلاوة كما في قوله تعالى: (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر) القمر 17. مع تكرار الآية عدة مرات في نفس السورة. ومن تلك المجموعات تتفرع مجموعات أخرى من القراء الذين تصعب عليهم التلاوة لأعذار معاشية أو مرضية وكذا من يقاتل في سبيل الله، وقد خاطب سبحانه هؤلاء بقوله: (فاقرؤوا ما تيسر من القرآن علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرؤوا ما تيسر منه) المزمل 20.
وبناء على ما ذكرنا يمكن أن نجعل جميع الأقسام مندرجة تحت أصل المفهوم الذاتي للاستطاعة والذي قد تتطابق أغراضه بالتلازم مع الواجبات المفروضة على الإنسان، ومن هنا يمكن تقسيم تلك الواجبات إلى قسمين، يتمثل أولهما في التقوى المستطاعة وإن كان ملاكها الضعف، أما الثاني فيأخذ الجانب الأقوى منها ويشهد للأول قوله تعالى: (فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيراً لأنفسكم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) التغابن 16. ويشهد للثاني قوله: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) آل عمران 102. ويتناسب هذا المعنى مع التصورات الفلسفية التي تبين للإنسان معنى الجهاد في سبيل الله تعالى وبنفس القدرة المفروضة في التقوى وكذا ما يرجع إليها من أقسام، ولهذا خاطب الحق سبحانه القسم الأول بقوله: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون) الأنفال 60. أما القسم الثاني فقد خاطبهم بقوله: (وجاهدوا في الله حق جهاده) الحج 78.
من ذلك نستطيع القول إن للتلاوة درجات تعتمد في مدلولها على التدبر المناسب لمعاني كتاب الله تعالى من أجل الوصول إلى مقومات الإيمان الأساسية، ما يجعل الإنسان يسير في الاتجاه الصحيح للعقيدة السليمة دون الاعتماد على الفهم السطحي الناتج عن قواعد التجويد، كون للتأمل الصادق وجوهاً أخرى خارجة عن المدلول اللفظي الذي لا يتعدى حدود الأساليب المتعارف عليها، وبهذا نعلم أن التلاوة تتضمن معنى الفهم الحقيقي الذي يدعو إلى الإيمان إذا علمنا أن ليس هناك ما يفرق بين تلاوة القرآن والكتب الأخرى التي لم يطالها التحريف، وقد تطرق الحق سبحانه إلى وصف تلك الكتب بأبلغ الأوصاف كما في قوله: (إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور) المائدة 44. وكذا قوله: (وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور) المائدة 46. وقد ذكر تعالى تصديق القرآن الكريم لتلك الكتب بقوله: (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه) المائدة 48.
من هنا نستشف معنى زيادة الإيمان الناتجة عن التلاوة الصحيحة سواء قام بها الإنسان بنفسه أو إذا تليت عليه، وهذا ما يفهم من منطوق قوله سبحانه: (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون) الأنفال 2. ويقابل هذا المعنى قوله تعالى: (وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم) آل عمران 101. وبالتلازم مع ما قدمنا نلاحظ أن القرآن الكريم قد أثنى على أهل الكتاب الذين يتلون آيات الله حق تلاوتها، وذلك في قوله عز من قائل: (ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون... يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين... وما يفعلوا من خير فلن يكفروه والله عليم بالمتقين) آل عمران 113- 115. وقد قابل تعالى هذا الصنف المحق بصنف آخر وذلك في قوله: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا) الحج 72. وسيتضح الفرق بين الفريقين من خلال تفسير آية البحث.
تفسير آية البحث:
قوله تعالى: (الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون) البقرة 121.
الكتاب: اسم جنس يقع على الواحد والجمع، وقد ذكر في القرآن الكريم على وجوه أهمها:
أولاً: الفرض: كما في قوله تعالى: (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً) النساء 103.
ثانياً: الأجل: كما في قوله تعالى: (وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم) الحجر 4.
ثالثاً: الحجة والبرهان: كما في قوله تعالى: (فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين) الصافات 157.
أما الكتاب بمعنى القرآن فقد ورد في مواضع كثيرة منها عطف العام على الخاص أو العكس، إلا أن أظهرها ما ذكره تعالى بقوله: (وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين... قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى مصدقاً لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم) الأحقاف 29- 30. وبهذا يظهر زيف من أراد التفريق بين معنى الكتاب والقرآن.
أما التلاوة فلها معنيان:
الأول: القراءة: كما في آية البحث وكما في قوله تعالى: (فالتاليات ذكراً) الصافات 3. وكذا في الآيات التي مرت عليك في معرض حديثنا قبل الدخول إلى تفسير آية البحث.
الثاني: الاتباع: كما في قوله تعالى: (والقمر إذا تلاها) الشمس 2.
من هنا نفهم أن آية البحث تشير إلى أهل الكتاب من اليهود والنصاري، وقد تحدثت عن قسمين:
القسم الأول: الذين يتلون الكتاب حق تلاوته: أي تلاوة تتسامى فيها المعاني دون الألفاظ، وبهذا يصلون إلى التفريق بين الحق والباطل أو الحلال والحرام وكذا الوصول إلى الدلائل التي تميز لديهم العام من الخاص أو المطلق من المقيد وكذا المحكم من المتشابه والناسخ من المنسوخ وما إلى ذلك، أما إذا حملنا الآية على ما في كتبهم فالضمائر لا تقبل الانطباق إلا على شخص النبي (ص) والمعنى الأول أظهر بشهادة السياق، وبناء على ما قدمنا تكون التلاوة الحقة قد أخذت بأيديهم إلى الإيمان بالكتاب المتلو أي المقروء.
القسم الثاني: هم الذين لم تنفعهم التلاوة: ويمكن معرفة هذا المعنى من خلال مفهوم الآية إذا أخذنا بقاعدة الاحتباك، وذلك لاهتمامهم بالتلاوة الشكلية التي تعتمد على الحفظ وما يؤول إليه من قواعد القراءة، وأنت خبير بأن هذا العمل قد لاقى انتشاراً واسعاً لدى فئات كثيرة من المسلمين الذين يبذلون أموالاً طائلة من أجل فتح المدارس التي تعنى بهذا الشأن، دون مبالاة بالتفاصيل المنهجية التي يحث عليها الكتاب، وبهذا يكون مثلهم كمثل الحمار يحمل أسفاراً... فتأمل ذلك بلطف.
من كتابي: السلطان في تفسير القرآن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق