لا يمكن تصديق الذين يدعون علم الغيب والقدرة على التنبؤ بأحداث المستقبل وإن طابق كلامهم الواقع أحياناً، وذلك لأن الله تعالى نفى العلم بالغيب عن جميع المخلوقات، كما ذكر هذا الأمر في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، كقوله جل شأنه: (قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله) النمل 65. وقوله: (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر) الأنعام 59. فهذه الآيات وغيرها تثبت أن علم الغيب من اختصاصه تعالى ولا يمكن الوصول إليه من قبل مخلوقاته إلا على سبيل التبعية التي تكون بتعليم منه لرسله في الأمور التي تهم الرسالة، كما أشار إلى ذلك بقوله: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً... إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً... ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عدداً) الجن 26- 28.
والآية صريحة بأن الرسل الذين يرتضيهم الله تعالى قد يمكنهم من معرفة بعض المغيبات وبسرية تامة كما هو ظاهر من قوله: "فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً" وهذا يدل على أهمية البلاغ المودع لدى الرسل وما يظهره لهم فهذا على سبيل التبعية كما هو الحال في التوفي الذي هو من اختصاصه تعالى إلا أن هناك بعض الآيات تشير إلى الاستثناء المتحقق في الخارج، فقوله: (الله يتوفى الأنفس حين موتها) الزمر 42. يدل على حصر التوفي به تعالى، أما قوله: (حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون) الأنعام 61. وقوله: (قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون) السجدة 11. فههنا أراد تعالى التبعية التي يكون فيها ملك الموت أو غيره من الملائكة وسائط تعمل بأمره فهم لا يملكون المعرفة اللازمة للتوفي سوى تطبيقهم للأوامر الملقاة إليهم.
وهذا المثال الذي ضربته بآيات التوفي أشبه بعلم الغيب الذي يرتضيه الله تعالى لبعض رسله، كما هو الحال في نقل القدرة إلى بعضهم كما حصل مع عيسى وإبراهيم (عليهما السلام) أما المغيبات التي رويت عن النبي (صلى الله عليه وسلم) فالهدف منها إثبات صحة الرسالة لا غير، وقد صرح النبي في مواقف كثيرة عن الأمور التي ستحدث في المستقبل كما في قوله يأتي زمان على الناس، أو يأتي زمان على أمتي، أو قوله لأم سلمة "أنت على خير" وغيرها من أقواله التي كان لها تحقيق في الخارج كقوله لفاطمة "أنت أول أهل بيتي لحوقاً بي" وقد تحقق ذلك بالفعل.
إضافة إلى ماذكره الرسول من زوال بعض الدول والممالك وكذلك تعيينه لمن يقتل من أكابر قريش في معركة بدر، حتى وصل الأمر إلى تبيينه مواضع قتلهم، فلم يجاوز أحدهم الموضع الذي عين له، وهذا العلم الغيبي لا يمكن أن يظهر للنبي إلا بتعليم من الله تعالى لأن صدق الرسول دليل على صدق الرسالة. فعندما يحدثنا القرآن الكريم عن المغيبات التي ستصبح مشاهدة في يوم ما فهذا يدل على صدق الكتاب وصدق من أنزل عليه، ولذلك نجد الكثير من الآيات القرآنية قد تحدثت عن المستقبل بكل جوانبه سواء المستقبل القريب أو المتوسط أو البعيد، وعند التحقق من وقوع ما أخبر به القرآن الكريم فلا بد من نفي الريب والشك الذي يختلج في نفوس من يريد النيل من كتاب الله تعالى، وخير مثال على ذلك تلك المعركة التي وقعت بين الروم والفرس، والتي انتصر فيها الفرس على الروم كما جاء ذلك في قوله تعالى: (غلبت الروم... في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون... في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون) الروم 2- 4.
وكما قال المفسرون: فقد غلبت فارس الروم وظهروا عليهم على عهد النبي وفرح بذلك كفار قريش، لأن أهل فارس لم يكونوا أهل كتاب وساء ذلك المسلمين وكان بيت المقدس لأهل الروم كالكعبة للمسلمين فدفعتهم فارس عنه، وقوله: "في أدنى الأرض" أي أدنى الأرض من أرض العرب، ولهذا لا يعتد برأي من قال إن العلم الحديث اكتشف أن الأرض التي وقعت فيها المعركة هي أدنى أرض قياساً للكرة الأرضية، وذلك لأن اللام في "الأرض" للعهد وليس للاستغراق. وهذه الآية من الآيات الدالة على أن القرآن الكريم من عند الله تعالى لأن فيه أنباء ما سيكون، ولا يعلم ذلك إلا الله تعالى، لذلك عقب بقوله: "لله الأمر من قبل ومن بعد" ولما ظهر صدق القرآن وغلبت الروم فارس في غضون بضع سنين، دل هذا على صدق الرسالة وصدق من جاء بها لأن المشركين هم الفئة الممتنعة من التصديق، أما أصحاب النبي فهم على يقين من صدق القرآن الكريم، ولذلك عندما ذكر هذا الأمر لأبي بكر فإنه قامرهم بغلبة الروم وفي بعض الروايات إنه قامرهم فقمرهم وكان القمار بإشارة من رسول الله ومن ذهب إلى هذا الرأي قال إن ذلك كان قبل تحريم القمار، لأن تحريم القمار جاء مع تحريم الخمر في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون) المائدة 90.
أقول: لا يمكن أن يكون تحريم الخمر والقمار في سورة المائدة وهي من أواخر ما نزل من القرآن الكريم ولكن الخمر والقمار حرمت في بداية البعثة وذلك في قوله تعالى: (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي) الأعراف 33. وسورة الأعراف من السور التي نزلت في بداية البعثة، ولا يمكن أن نقول إن النبي لا يعلم أن الخمر والميسر من الإثم، وقد بين القرآن ذلك فيما بعد بقوله تعالى: (يسئلونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما) البقرة 219. وأنت خبير بأن الأعراف حرمت ظاهر الفواحش وباطنها إضافة إلى الإثم الذي من مصاديقه الخمر والقمار فتأمل.
فتبين بما مر أن القرآن الكريم قد مزق حاجز المستقبل وأثبت صدقه لكل من حضر الغلبة التي تحققت للروم، وهذا يدل على صدق كل ما قص القرآن من قصص الأنبياء والأمم السالفة لأن من يمزق حاجز المستقبل أولى به أن يمزق حاجز الماضي على تعبيرنا، وهناك أمثلة كثيرة أخرى ظهر فيها صدق القرآن من بينها ما حدث للمسلمين من نصر في معركة بدر على الرغم من ضعفهم وقلة عددهم وهذا ظاهر من "سين الاستقبال" في قوله تعالى: (سيهزم الجمع ويولون الدبر) القمر 45. وهذه الآية من ملاحم القرآن العظيمة، ولو لم يتحقق النصر للمسلمين آنذاك لطعن المشركون وغيرهم في صدق الرسالة، وأكثر من هذا فقد بين الله تعالى أن الوليد بن المغيرة سيضرب على أنفه وتكون فيه سمة ظاهرة كما في قوله: (سنسمه على الخرطوم) القلم 16. والآية أظهر ما يكون في تمزيق حجب الغيب وفيها مباحث:
المبحث الأول: سبب نزول الآية كما بينت أنها نزلت في الوليد بن المغيرة وذلك قبل الحدث المشار إليه فيها. وقد تحقق ذلك بالفعل وضرب الوليد على أنفه وأصبح ذو علامة فارقة وهذا هو المقصود من قوله: "سنسمه على الخرطوم".
المبحث الثاني: في لفظ الخرطوم بدلاً من الأنف استهانة ظاهرة لأنه لا يكون إلا في الفيل والخنزير، فالتعبير بهذا اللفظ يدل على الإذلال وذهب آخرون إلى أن هذا سيحصل في الآخرة.
المبحث الثالث: قال الفراء: وإن كان الخرطوم قد خص بالسمة فإنه في معنى الوجه، لأن بعض الشيء يعبر به عن الكل، وقال الطبري: نبين أمره تبياناً واضحاً حتى يعرفوه فلا يخفى عليهم كما لا تخفى السمة على الخراطيم، وقيل: المعنى سنلحق به عاراً حتى يكون كمن وسم على أنفه لأن السمة لا يمحى أثرها، كما قال جرير:
لما وضعت على الفرزدق ميسمي... وعلى البعيث جدعت أنف الأخطل
وقيل: المعنى سنحده على شرب الخمر والخرطوم يعني الخمر وجمعه خراطيم كما قال الشاعر:
تظل يومك في لهو وفي طرب... وأنت بالليل شراب الخراطيم
وكل هذا الذي ذكروه وجوهاً لتفسير الآية والصواب ما قدمنا. فإن قيل: عند تشبيه القرآن الكريم بعض الصفات السلبية لدى الناس ببعض صفات الحيوانات ألا يعتبر هذا إهانة للحيوانات؟ أقول: إن الصفات التي تكون في الحيوانات هي صفات مكملة لها وطبيعة فطرية راسخة فيها، أما في الإنسان فقد تكون نقصاً لأن المشبه لا يستلزم الأخذ بمراتب المشبه به، ألم تر إلى الذي يضل الطريق ينادى "بالأعمى" ويعتبر ذلك من النقص أما في حالة ضلال الأعمى الحقيقي للطريق فلا يعتبر ذلك من النقص وهذا يجري في جميع المراحل السلبية التي تستعمل في التشبيه.
فقوله تعالى: (واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير) لقمان 19. ليس فيه إهانة للحمير لأن صوتها كمال للمهمة التي خلقت من أجلها، أما ارتفاع صوت الإنسان فذلك يعتبر من النقص ولهذا السبب كان التشبيه، وخير دليل على ذلك قوله تعالى: (مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين) الجمعة 5. ففي هذه الآية الكريمة قد شبه تعالى الذين حملوا التوراة ولم يعملوا بها بالحمار الذي يحمل الكتب وهو لا يدري ما بداخلها وليس من العقل أن نكلف الحمار بتلك المهمة، ولكن النقص في من ضرب لهم المثل، وإلا كيف يصف تعالى الحمير بأنها زينة في قوله: (والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون) النحل 8.