مراحل عمر الإنسان/ عبدالله بدر السلطان

في عقد السبعينيات من القرن الماضي عندما كنا في المرحلة الابتدائية من الدراسة روى لنا أحد الأساتذة ما يلي: كان في إحدى الجامعات استاذ بلغ من العمر أرذله ولا يزال في التدريس وبكامل قواه العقلية والبدنية ولم يطرأ عليه أي نوع من التغيير الذي يطرأ على الناس الذين يجتازون هذه المرحلة من العمر وبدافع حب الاستطلاع ورغبة في العمر الطويل كان يوجه إليه السؤال التالي من قبل الطلبة وباستمرار، أستاذنا كيف وصلت إلى هذه المرحلة من العمر ولا زلت تعيش حياة يتمناها الإنسان الذي في مقتبل العمر؟ وكان هذا الأستاذ لا يجيب الطلبة على سؤالهم.

 ولكن بعد إلحاح الطلبة وافق الأستاذ على إجابتهم مشترطاً أن يقوم بتأليف كتاب ثم يضعه في مكتبة الجامعة ولا يطلع عليه أحد إلا بعد مماته، فطال انتظار الطلبة حتى وافى أستاذهم الأجل وبعد مراسم دفنه توجه الطلبة إلى المكتبة للاطلاع على ذلك الكتاب وبعد فتحهم لصفحاته وجدوها بيضاء دون أن يكتب فيها شيئاً ما عدا الصفحة الأخيرة التي كتب فيها مايلي: إذا أردت العمر الطويل والصحة الجيدة فتتبع النقاط التالية:

أولاً: الأكل القليل: بحيث تترك المائدة أو الوجبة الغذائية وأنت لا تزال في شهية للطعام.
 ثانياً: عدم التفكير واسترجاع الهموم والمتاعب حين تأوي إلى فراشك قبل الخلود إلى النوم.
 ثالثاً: تدفئة الأرجل والأطراف أثناء النوم. انتهى كلام أستاذنا بتصرف.

 وهذه الشروط التي وضعها الأستاذ في الكتاب ليست بسيطة كما نتصور إلا من بعد التمرين والممارسة اللهم إلا الشرط الثالث فهو في متناول أيدينا والذي نستفيده من هذه الرواية سواء كانت حقيقية أو من وحي الخيال، أن الإنسان هو الذي يتحكم في عمره دون أن ننسى أن للطبيعة عوامل مساعدة، فقد نجد متوسط عمر الإنسان يختلف من بيئة إلى أخرى ومن شعب إلى آخر حيث إن للمناخ دور في ذلك إضافة إلى الظروف الملائمة والصحة والحالة النفسية لشعب دون آخر، فالعوامل كثيرة وهذا العمر الذي منحه الخالق لنا يجب الحفاظ عليه بقدر المستطاع أما الأشياء التي تخرج عن إرادة الإنسان فقد يعذر فيها، ومراحل العمر التي يمر بها الإنسان منها ما يكون هو المسؤول فيها عن نفسه ومنها ما يتحمله الأهل أو ولي الأمر الذي يتولى رعايته، لأن الإنسان لا يتحمل مسؤولية سنينه الأولى التي يحتاج فيها إلى التوجيه من الأهل أو المدرسة التي ترعاه.

 وبعد هذه المرحلة تأتي مرحلة المراهقة وهذه المرحلة على الرغم من صعوبتها إلا أنها مرحلة نشطة في حياة الإنسان، ومصطلح المراهقة يعني المقاربة وإن كان في التسمية نوع من التوسع حين الإطلاق، والمقصود منها مقاربة الطفل لمرحلة البلوغ وهذا يعني أن الطفل بدأ في مرحلة النضج والرشد العقلي والجسدي، وهذه المرحلة بالذات تحتاج إلى رعاية الأهل إن لم نقل مراقبتهم للطفل لأنها من أخطر المراحل التي يمر فيها الطفل قبيل البلوغ، وفي بعض المناطق الباردة يحتاج الطفل إلى عقد من الزمن بعد هذه المرحلة حتى يبلغ الحلم.

ثم يبدأ بالانتقال التدريجي الذي يفضي به إلى تغيير ملامح جسده وسلوكه وتصرفاته وهنا يبدأ الطفل في تذمر مستمر حيث إن هذه المرحلة تفجر لديه العديد من الأحاسيس، وهذه الفترة المهمة لا يمكن أن تعد بالسنين فقد تكون قصيرة على بعض الأطفال وطويلة على البعض الآخر، ولكنها بكل الأحوال ترافق الإنسان فترة من الزمن تصاحبها قفزات سريعة تؤدي إلى تغيير ملامح الصوت والطول والوزن وما شابه ذلك.

 ثم تأتي بعد هذه المرحلة مرحلة الشباب وهذه أجمل المراحل العمرية لدى الإنسان لأنها تصل به إلى النضوج البدني والعقلي على حد سواء، وتعتبر هذه المرحلة بالذات بمنزلة المؤسس للمراحل اللاحقة لأنها تحدد اتجاه الإنسان سواء في التخصص أو الزواج أو علاقاته الاجتماعية وغيرها، وهنا يميل الشاب إلى الاستقلالية وشق طريقه خارج إرادة الوالدين كونه يبدأ مرحلة جديدة من التفهم المواكب للزمن الذي يعيشه اللهم إلا إذا كان الأبوان يمتلكان الثقافة المعاصرة التي يرتضيها الشاب دون منغصات تفرض عليه من قبلهم، ويتوقف على تلك المرحلة المهمة النجاح سواء في الدراسة أو العمل، وقد تتوقف هذه المرحلة على تلك السمات حتى تأخذ مسارها الصحيح في حياة ذلك الشاب.

وبعد ذلك تأتي مرحلة الكهولة والتي تسمى "شباب الشيخوخة" وهذه هي مرحلة الاستقرار، التي افتقدها في المراحل السابقة التي كان يطمح فيها لتحقيق آمال وأحلام لا نهاية لها.

 أما الآن فقد أصبح في المرحلة التي تعتبر بمنزلة النتيجة لتلك المراحل بعد الفراغ من متاعب الحياة، وهنا ربما يكون قد فارق الأهل بسبب موتهم أو انتقاله عنهم، وعند هذه المرحلة تكون رؤية الإنسان قد اتسعت فما كان يغيضه بالأمس أصبح اليوم في طور التحكم لديه لأن للعمر أحكام، فما كان يمارسه في شبابه وطفولته مع أقرانه من ضحك ومزاح وتصرفات تعتبر في وقتها صحيحة أصبح اليوم ينظر إليها نظرة مختلفة وربما يلقي اللوم على من يقوم بها وكأنه لم يمر بها.

 ثم تأتي بعد ذلك مرحلة الشيخوخة وهذه هي المحطة التي تكون أشبه بنهاية المطاف والخاتمة للمحطات التي مررنا عليها بايجاز وهذه هي المرحلة التي قال عنها تعالى: (ومن نعمره ننكسه في الخلق أفلا يعقلون) يس 68. أي إن الإنسان ينقلب في هذه المرحلة رأساً على عقب، حتى إن قدراته وقواه تبدأ بالتراجع نحو الضعف والوهن ويبدأ التغيير يطرأ على خلقه أيضاً، وكذلك قال تعالى عن هذه المرحلة: (ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم من بعد علم شيئاً) النحل 70. وقريب من هذا اللفظ، الحج 5.

 أي إن الإنسان يبدأ بالضعف والنسيان بعد العلم المسبق للأشياء وقد تنهار أعصابه أمام كل المستجدات التي يمر بها والضغط النفسي الذي يصارعه وهنا قد يحتاج إلى نفس الرعاية التي كان بحاجة إليها وهو في سن الطفولة، وقد جمع القرآن الكريم هذه المراحل في قوله تعالى: (هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلاً ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخاً ومنكم من يتوفى من قبل ولتبلغوا أجلاً مسمى ولعلكم تعقلون) غافر 67.

 فإن قيل: قصة الأستاذ التي عرضتها في مقدمة المقال تشير إلى أن الإنسان هو الذي يحدد استمراره بالحياة ضمن شروط ذكرتها، وهذا يعني أن الأجل ليس مكتوباً من الخالق جل شأنه فهل تؤيد هذا؟ أقول: نعم إن الأجل لا يحدده الخالق جل شأنه وإن كان هو قائم على كل نفس، باعتبار أن الحياة تسير بواسطة قانون العلة والمعلول وهذا يدخل ضمن الاختيار الذي كرمنا به تعالى والذي ينفي الجبر عنه جل شأنه أما ما تتناقله العامة من الناس من تقديم الأجل وتأخيره فهذا حسب فهمهم الساذج وإلا فإن الآيات ناظرة إلى معنى آخر غير المعنى الذي يتبادر إلى الأذهان وسأناقش تلك الآيات التي يكاد أن يكون اللفظ في واحدة منها مشابهاً للجميع فقوله تعالى: (ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) الأعراف 34.

 فهذه الآية لا تشير إلى أجل الأفراد من الناس ولو كانت تشير إلى الأفراد لكان من حق الكلام أن يكون "لكل أحد أجل" ولكن القول انصرف إلى الأمة والمقصود هنا عذاب الاستئصال الذي يقضي على الأمة بكاملها وهو وقت يضرب لانقضاء المدة التي أمهلهم الله تعالى إياها على لسان رسله بسبب تكذيبهم للرسل وقد كرر هذا اللفظ أو ما يشابهه في النحل 61. ويونس 49.

 فإن قيل: ماذا عن قوله تعالى: (الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت) الزمر 42.

 أقول: الآية صريحة من أن الله تعالى يتوفى الأنفس حين موتها، أي إن هناك سبب معين أدى إلى الموت ثم بعد ذلك توفى الله تلك النفس وقد عقب بقوله: "فيمسك التي قضى عليها الموت" والآية صريحة بنسبة الموت إلى مجهول والإمساك إليه تعالى علماً أن التوفي ليس هو الموت كما حدثنا تعالى عن عيسى (عليه السلام) بقوله: (إذ قال الله ياعيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا) آل عمران 55. وهذا ظاهر حيث إن عيسى لم يمت بعد، كما في قوله تعالى: (وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقيناً) النساء 157.         

كلمة المونسنيور مرسلينو يوسف في حفل الإفطار الرمضاني بدعوة من القوات اللبنانية - سيدني

بادئ ذي بدء، أتوجه إليكم يا أصحاب السماحة وأيها الإخوة والاخوات الأفاضل بتحية سلامية مسيحية ومريمية في هذا الشهر الفضيل أعاده الله علينا وعليكم باليمن والبركات. 
ما أجمل أن يجتمع الإخوة معاً تحت سقف واحد وما دعوة القوات اللبنانية لهذا الإفطار إلا تجسيد للمحبة التي تجمع ولا تفرق، تقبل الآخر كما هو ولا تفرض عليه ما لا يقبله. رغم كل الحروب والمآسي التي نشهدها في عالمنا المعاصر ما زلنا نصرّ على العيش معاً وعلى نبذ الفرقة والتطرف. 
هل تتصوّرون شرقاً خالياً من صوت المسيح، أم غرباً خالياً من صوت نبي الرحمة؟ 
خالياً من الآخر الذي يغتني ويغني.
 فلا والله هذا من المحال لأن المقصود من هذا الخواء وهذا الدمار هو الإسلام الصافي من كل تطرّف، إسلام السلام والمسيحية التي نشرت المحبة وثقافة الحياة. 
ونحن على العهد باقون، معاً نواجه كل تطرّف لأنه شواذ وغريب عن مجتمعاتنا التي نمت على الإعتدال وأواصر الإلفة والمحبة فيما بينها. هذه الموجة موجة التطرّف مهما عظمت وكبرت فإنها سوف تندثر على أسوار اعتدالنا ومحبتنا لبعضنا البعض. فلا يصح إلى الصحيح وسوف نبقى معاً نواصل إختبارنا الإنساني لم فيه خير البشرية جمعاء.
ففي لقائنا حياة وفي تفرقنا ممات. 
أيها الإخوة والاخوات الأفاضل، أنقل إليكم محبة سيدنا المطران أنطوان-شربل طربيه، مطران المسلمين قبل المسيحيين في هذا البلد المعطاء اوستراليا، وهو يشدّ على أزركم لتواصلوا العمل معاً لما فيه خير اوستراليا ووطننا الحبيب لبنان. 
أعاننا الله لنكون معاً رسلاً للإسلام الحقيقي البعيد كل البعد عن التطرّف والحقد ونبذ الآخر. تقبّل الله صومكم وصلاتكم ونضم صلاتنا مع صلاتكم ليتقبل الله كل أعمالنا الصالحة لنكون خير مثال للتضامن والتآزر والعيش معاً في عالمٍ يشوّه صورتنا الأصيلة التي خلقنا الله عليها. شهر رمضان هو شهر المحبة والتلاقي ونتمنى أن تزول هذه الغيمة السوداء عن منطقتنا العربية ويعمّ السلام والوئام على العالم أجمع.
أختم كلامي كما بدأته بسلام المسيح وأمه مريم أم المؤمنين لكي ينيروا قلوبنا ويسدّدوا خطانا على دروب الاعتدال والألفة والمحبة لما فيه خير البشرية جمعاء. آمين. 

عيد فطر مبارك

إخواني الأعزاء،

أجواء عيد الفطر المبارك تجلب فرحة مشتركة لا تقتصر على أصحاب العيد، ففورة إحياء حلوله تتسرّب لتغمر قلوب الجميع.

أشاطركم، إخوتي الأعزّاء، بهجتكم وأتقدّم منكم بأصدق التهاني وأطيب التمنيات آملاً ان يستجيب العليّ القدير لأدعيتكم الصادرة عن نقاء سريرة، ويجزي الثواب عليكم لإقرانكم إيّاها بأعمال برّ وإحسان وإلتزام بالفضائل السامية.

أشاع الله أجواء الغبطة والهناء في محافلكم ومنحكم وفير النِعم وملأ قلوبكم بفيض من المحبّة ومسّها ببلسم الأريحيّة وأرخى اعتصار كلّ غصّة وأفرج قبضة كلّ ضيق. 

تيّمنوا ببركات العيد.

حميد عوّاد

الكتاب والنبوة/ عبدالله بدر السلطان

 يشتمل الأمر الخارق للعادة على عدة عناوين، كالمعجزة والكرامة والسحر وقد تتفرع على هذا الأمر مجموعة من الأحداث لا يمكن ان تظهر علائقها عند المشاهدة وذلك لبعدها عن الأسباب المألوفة، أو ربما ترتبط بها من وجه خفي يصعب الوصول إلى معرفة حقيقته بالطرق التقليدية على أقل تقدير. ولهذا أصبح استقرار العَلمية لا يتعدى لغير المفهوم العام، كالصلاة التي لا تعرف إلا بالحركات العبادية المتعارف عليها، علماً أن هذا اللفظ لا يراد منه إلا الدعاء كما في أصل الوضع، وقد ذكر القرآن هذا المعنى في قوله تعالى: (وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاءً وتصدية) الأنفال 35. وبهذا يتحصل أن المعجزة لا تظهر إلا على أيدي الأنبياء مصحوبة بالتحدي الذي يكون حجة لله تعالى على الأقوام المرسل إليهم بغض النظر عن إيمانهم أو عدمه، وأمثلة ذلك كثيرة في القرآن الكريم، كإبطال خاصية النار وانشقاق القمر وصولاً إلى المعجزة المعنوية المتمثلة في القرآن الكريم.

أما الكرامة فهي لا تختلف عن الفاعلية التي جعلها الله تعالى في المعجزة، إلا أنها تفترق عنها في المشتركات العرضية، على الرغم من مجيئها بقانون آخر دون التحدي، كإتيان مريم (عليها السلام) فاكهة الصيف بالشتاء أو العكس. ومن غرائب التفسير ما ذهب إليه بعض الذين أرادوا نفي حقيقة السحر بقولهم إن السحرة الذين جاء بهم فرعون قد استعملوا طلاء الزئبق مما جعل الحبال تتحرك كأنها حيّات تسعى، ولو أن الأمر كما يقولون لكان السحرة من المقربين لفرعون، إلا أن متفرقات القرآن الكريم تظهر أنهم ليسوا كذلك، كما في قوله تعالى: (قالوا أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين... يأتوك بكل ساحر عليم) الأعراف 111- 112. وبعد مجيء السحرة كانت لهم مجموعة من المطالب أهمها الأجر حين الغلبة، كما صور القرآن الكريم ذلك في قوله تعالى: (وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين... قال نعم وإنكم لمن المقربين) الأعراف 113- 114. وهذا يدل على عدم قربهم من فرعون لما لذلك العمل من انتشار لا يتناسب مع شريعته، ولا أريد الإطناب في هذا الموضوع لأنه يجعلنا نخرج عن البحث المخصص لهذا المقال، وعسى أن نوفق إليه في مقال آخر.

من هنا يظهر أن السحر لا يختلف عن المعجزة والكرامة من جهة إبطاله للقوانين الطبيعية، إلا أنه يجانب الأسس الشرعية، وهذا ظاهر من اعتماد أصحابه على التخيلات التي يصدقها من لا يحيط بأسرار هذا العمل، وربما يستند السحر إلى تعاليم شيطانية قد تخفى على كثير من الناس، كما ورد ذلك في قوله تعالى: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون) البقرة 102.

وبناءً على ما تقدم يظهر أن للمعجزة سمواً وبعداً لا يمكن تواجدهما في الكرامة والسحر، حتى ذهب بعض المفسرين إلى أن ما حصل من ولادة النبي عيسى (عليه السلام) لا يمكن حمله على الكرامة التي ظهرت لمريم (عليها السلام) وإنما يصنف من المعجزات التي دلت على براءة ساحتها على الرغم من أنها ليست من الأنبياء، واعتبر آخرون أن هذه الولادة العجيبة يمكن أن تكون كرامة لمريم ومعجزة لعيسى، وفي كلتا الحالتين فإن الكلمات الأولى التي نطق بها عيسى (عليه السلام) تؤكد الإعجاز بكل تفرعاته التي لا يمكن أن تظهر لمولود آخر إلا بإذن الله، وهذا ظاهر في قوله تعالى: (إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً) مريم 30. وفي الآية مبحثان:

المبحث الأول: ذهب جمع من المفسرين إلى أن الكتاب الذي آتاه الله تعالى لعيسى هو الإنجيل، وقال آخرون إن الكتاب هو التوراة باعتبار أن الإنجيل لم ينزل بعد، وقال بعضهم إنه كتاب القضاء، كما سيمر عليك في المبحث الثاني المخصص لآراء المفسرين، والحقيقة: إن الكتاب الذي ذكره عيسى (عليه السلام) لا يراد منه الإنجيل أو التوراة لأن نزول الكتب التشريعية لا يتحقق إلا في فترة الرسالة التي تأتي بعد النبوة التي أشار إليها أو التي ولدت معه كما في ظاهر الآية.

وعند التأمل في متفرقات القرآن الكريم يظهر أن الكتاب يحمل العمومية التي لا تختص بها الكتب الحاملة للمنهج كالتوراة والإنجيل ولا حتى القرآن، وهذا العموم يشتمل على المعارف الإيمانية والحقائق التكاملية، إضافة إلى الأسرار والحكم الربانية التي تكون خارج الأطر التشريعية، التي تتفرع عليها الكتب المنهجية التي تحمل الهداية العامة، فتأمل الفرق.

وبالإضافة إلى ما مر فإن هذا الكتاب الذي أشرنا إليه لا يختص به نبي دون آخر بل هو من المشتركات التي يتوارثها الأنبياء، وقد يكون للصالحين والأوصياء نصيب منها، كما سيمر عليك في هذا المقال، فإن قيل: إذا كان هذا الكتاب مما يتوارثه الأنبياء فما تفضيل عيسى إذن؟ أقول: الفرق إن هذا الكتاب ولد مع عيسى دون سائر الأنبياء الذين حصلوا عليه لاحقاً كما في قوله تعالى: (أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة) الأنعام 89. ولا يمكن القول إن المراد هنا هو أحد الكتب المعهودة كالتوراة والإنجيل، لأن الكلام فيه إشارة إلى مجموع الأنبياء، فإن قيل: وماذا عن الزبور؟ أقول: الزبور لا يحتوي على الأحكام والكتاب الذي حكم به داود هو التوراة التي توارثها جمع من أنبياء بني إسرائيل.

ولأجل التوصل إلى بيان أكثر تفصيلاً علينا أن نشير إلى قوله تعالى: (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه) البقرة 213. ومن هنا تظهر النكتة في خطابه تعالى للنبي (ص) بقوله: (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله) المائدة 48. وقد يظهر الأمر جلياً عندما أشار تعالى إلى عيسى بقوله: (ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل) آل عمران 48. وبهذا يظهر أن الكتاب أعم من الكتب التي تحمل المنهج، وبعبارة أخرى فإن هذا الكتاب هو العلم اللدني الذي يخص به الله تعالى بعض من عباده المخلصين، كما في قوله: (فوجدا عبداً من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علماً) الكهف 65. وكما هو ظاهر فإن الآية تشير إلى العلم الحضوري الذي يهبه الله تعالى لعباده المخلصين، دون العلم الذي يحصل عن طريق الاكتساب، ومن هنا يظهر معنى قوله: (من لدنا) وعند التأمل في الآيات التي تبين هذا النوع من العلم نجده لا يخضع للقوانين الطبيعية، أو الطرق المعتادة لدى عامة الناس.

ومن الأمثلة على هذا العلم ما ذكره تعالى بقوله: (كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم) يوسف 76. وبالإضافة إلى هذا فإن ما بينه تعالى من أمر يعقوب يجعلنا أمام دليل آخر، كما في قوله: (ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغني عنهم من الله من شيء إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها وإنه لذو علم لما علمناه ولكن أكثر الناس لا يعلمون) يوسف 68. وبهذا يظهر ما خفي على بعض الناس من قوله تعالى: (قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك) النمل 40. وعند التأمل في هذا الأمر يتبين أن هذا العلم هو جزء من علم الكتاب الذي أفاضه الله تعالى على وصي سليمان الذي قيل إنه آصف بن برخيا، أما علم الكتاب كاملاً فقد أشار إليه تعالى بقوله: (ويقول الذين كفروا لست مرسلاً قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب) الرعد 43.

المبحث الثاني: اختلف المفسرون في قوله: (آتاني الكتاب) حيث قال ابن الجوزي في زاد المسير: نقلاً عن ابن عباس: إنه آتاه الكتاب وهو في بطن أمه وقيل علم التوراة والإنجيل، ثم خلص إلى القول إن في الكتاب قولان: أحدهما التوراة والثاني الإنجيل، أما النسفي في مدارك التنزيل: فقد ذهب إلى أن الكتاب هو الإنجيل دون أن يضيف شيئاً آخر. وقال البغوي في معالم التنزيل: إن هذا إخبار عما كتب له في اللوح المحفوظ، ثم نقل عن أكثر المفسرين: إنه أوتي الإنجيل وهو صغير وأضاف عن طريق الحسن البصري إن الله تعالى ألهمه التوراة وهو في بطن أمه.

وللصوفية رأي آخر حيث يقول مكي بن أبي طالب في تفسير الهداية إلى بلوغ النهاية: نقلاً عن عكرمة: إن الكتاب يعني القضاء، ومن أغرب الأقوال ما نقله ابن كثير عن ابن أبي حاتم: من أن عيسى قد درس التوراة وأحكمها وهو في بطن أمه، ويقول الشوكاني في فتح القدير: (آتاني الكتاب) الإنجيل: أي حكم لي بإيتائي الكتاب والنبوة في الأزل وإن لم يكن قد نزل عليه في تلك الحال ولا قد صار نبياً، وقيل إنه آتاه الكتاب وجعله نبياً في تلك الحال وهو بعيد، على حد قول الشوكاني.

وللإمامية رأي حيث يقول الطبرسي في مجمع البيان: أي حكم لي بإتيان الكتاب والنبوة، ثم نسب إلى قيل: إن معناه إني عبد الله سيؤتيني الكتاب وسيجعلني نبياً، وكان ذلك معجزة لمريم (عليها السلام) على براءة ساحتها، ويقول الجنابذي في بيان السعادة: أتى بالماضي لتحقق وقوعه أو لتحقق استعداده، والمراد بالكتاب الإنجيل أو كتاب النبوة. انتهى ماذهب إليه جمع من المفسرين. وآخر الآراء هو الأقرب لما قدمنا وهو ما ذهب إليه الجنابذي من أن الكتاب هو كتاب النبوة على الرغم من عدم تفصيله لما ذهب إليه.

فإن قيل: السؤال الذي وجّه إلى مريم يراد منه نفي التهمة عنها، كما يظهر من قوله تعالى: (يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوءٍ وما كانت أمك بغياً) مريم 28. ولكن عيسى لم ينف تلك التهمة، بل ذهب إلى أبعد من هذا الأمر كما يظهر من قوله تعالى: (قال إني عبد الله آتاني الكتاب...... إلى قوله...... والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً) مريم 30- 33. وهذا السياق لا يظهر فيه نفي التهمة عن مريم؟ أقول: الكلام الذي صدر منه وهو في المهد يعد من الآيات التي لا يمكن عدم تصديقها من قبل القوم، فإذا ثبت هذا فمن باب أولى يثبت تصديقهم بنبوته التي أشار إليها علماً أن النبوة لا يمكن أن تأتي إلا بالطرق الشرعية، وهذا ما يعلم بالفطرة كما بين النبي ذلك بقوله: لم يزل ينقلني من أصلاب الطاهرين إلى أرحام المطهرات حتى أخرجني في عالمكم هذا. وقد يؤيد هذا الحديث بقوله تعالى: (الذي يراك حين تقوم... وتقلبك في الساجدين) الشعراء 218- 219. 

الامارات تطلق اسم "مريم أم عيسى" على مسجد

ديانا سكيني المصدر: "النهار" 

بُدّل اسم مسجد الشيخ محمد بن زايد في حي المشرف في مدينة أبوظبي، فبات يُعرَف من الآن فصاعداً بمسجد "مريم أم عيسى"، وذلك بناءً على أوامر الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي ونائب القائد الأعلى للقوات المسلحة في دولة الإمارات، من أجل "ترسيخ الروابط الإنسانية بين أتباع الأديان المختلفة".

وشيّد المسجد عام 1985، وهو يتسع لألف ومئتي مصل، وله أربع مآذن مستلهمة من فن العمارة العثمانية، ويتميّز بالقبة الرئيسية التي تحيط بها 32 نافذة مرصعة بزجاج أزرق وأصفر وأبيض، تعكس الإضاءة خلال النهار.

وقالت الشيخة لبنى بنت خالد القاسمي، عضو مجلس الوزراء، وزيرة الدولة للتسامح، ل"النهار" أن دولة الإمارات العربية المتحدة "قيادةً وحكومةً وشعباً تحرص على قيم التسامح والسلام والتعايش والوئام بين كل مكونات المجتمع بمختلف شرائحه وفئاته الفكرية والثقافية والدينية والطائفية". 

وشددت على أن دولة الإمارات "تنطلق من ثوابت راسخة في تعاملها مع الآخرين مبنيٌّ على أساس الاحترام المتبادل والقبول بالآخر".

وعبّرت القاسمي عن "الشكر والتقدير والامتنان لسمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان على المبادرة الرائدة، والتي تزامنت مع يوم زايد للعمل الإنساني الذي يصادف 19 رمضان من كل عام".

ونوهت وزيرة الدولة للتسامح إلى أن "المسجد يقع في منطقة تجسد أروع وأنبل قيم التسامح والإخاء والتعايش والوفاء، إذ تشتمل هذه المنطقة على عدد من دور العبادات جنباً إلى جنب في مشهد حضاري وإنساني يعبّر عن رسالة التسامح لدى دولة الإمارات قيادةً وحكومةً وشعباً، وهو ترجمةً للفلسفة التسامحية والفكر الإنساني الراسخ الذي أرسى دعائمه الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان".

على بعد أمتار من المسجد، تقع كنيسة "القديس اندرو" الانجيلية. وفي سياق متصل، أوضحت القاسمي أن دولة الإمارات تحتضن أكثر من 200 جنسية "يعيشون بكرامة وسلام ويعملون بتقدير واحترام ويتواصلون بتناغم وانسجام"، كما دعت "إلى ضرورة الوقوف صفاً واحداً محلياً وإقليمياً ودولياً لإبراز وترسيخ القيم الفاضلة التي تعبّر عن الفطرة الإنسانية السوية، وتؤكد على قيم التعاون والتعارف والتضامن والتآلف بين كل الجنسيات والأديان والثقافات، خاصةً في ظل ما يشهده العالم من استشراء خطابات التمييز والكراهية والتعصب والعنصرية".

في شباط (فيراير) 2016، استحدثت الحكومة الإماراتية وزارة التسامح، وعيّنت الشيخة لبنة القاسمي على رأسها. وفي حزيران (يونيو) من العام نفسه، أقرّت الحكومة البرنامج الوطني للتسامح انطلاقاً من سبع ركائز أساسية – الإسلام، والدستور، وإرث الشيخ زايد، وأخلاقيات الإمارات، والاتفاقات الدولية، وعلوم الآثار والتاريخ، والحس الإنسانيوالقيم المشتركة.

وهذا الأسبوع، فتحت كنيسة في العين أبوابها أمام المصلّين. وقام عمّالها بوضع سجاد على أرض الكنيسة الخشبية ليتمكّن أكثر من مئتَي عامل مسلم آسيوي من أداء الصلاة.
وقد بادر العديد من كبار المسؤولين الإماراتيين في العين إلى الاتصال بالقيّمين على الكنيسة للثناء على هذه المبادرة.

ونقلت "غولف نيوز" عن بوبين سكاريا، أحد العاملين في كاتدرائية القديس جاورجيوس اليعقوبية للسريان الأرثوذكس في العين: "هذه المرة الأولى، أقلّه في الإمارات، التي تفتح فيها كنيسة أبوابها لاستقبال المصلّين المسلمين".

الأحد الثالث بعد العنصرة

(متى 6: 22 – 33 )

" قال الرب سراج الجسد العين. فإن كانت عينك بسيطة فجسدك كله يكون نيراً..." 
إن الفكرة وراء هذا المقطع هي فكرة بسيطة وبدائية. تعتبر العين النافذة التي منها يدخل النور الى الجسد. إن وضع النافذة يحدّد النور الذي سيدخل إلى كل البيت. وحالة النافذة تقرر مقدار النور الذي سيدخل إلى البيت: النظافة، الوضوح، عدم وجود موانع الخ... فإذا تحققت الشروط يدخل النور بقوة إلى البيت ويُنيره كله. أما إذا كان زجاج النافذة ملوناً أو وسخاً أو أسوداً أو ... فإن الموانع ستجعل الضوء قليلاً والبيت يبقى مظلماً. فكما أن كمية الضوء الذي ستدخل البيت تتعلق بحالة النافذة كذلك، يقول السيّد المسيح، فإن النور الذي سيدخل إلى قلب الإنسان وروحه بواسطة عينيه سيتعلق بحالة عينيه الروحيتين، لأن العين هي نافذة كل الجسد.

إن الفكرة التي نأخذها عن الآخرين تتعلق بحالة أعيننا. هناك أمور معينة تعمي أعيننا وتشوّه نظرنا .
1- الحكم المسبق يشوِّه نظرنا:
ليس من شيء آخر يمكن أن يشوّه حكم الإنسان على إنسان آخرأكثر من الحكم المسبق. يمنعه من تكوين حكم واضح ومنطقي. يعمي بصيرته عن الحقيقة وأهميتها.
إن من أهمّ مبادئ الحياة أن يفحص الإنسان نفسه ويرى إذا كان يحكم على الأمور منطقياً وبعدل أم أنه يُسيَّر بالأحكام المسبقة.
2- الحسد:
الحسد يمكن أن يهدم البصيرة. الكثير من العائلات والصداقات قد تكسرّت على صخرة الحسد التي تُحوّل أمور بسيطة وبريئة إلى أعمال إجرامية وتعمي عيني الحقيقة والواقع.
3- الغرور:
الغرور يهدم بصيرة الإنسان كلياً، إذ تجعله غير قادر أن يرى ذاته كما هو، وغير قادر أن يرى الآخرين كما هم حقيقة. فإذا كان الإنسان مقتنعاً بكماله وحكمته، سوف لن يرى جهله؛ وإذا كان قد أعمي عن كل الأمور الأخرى سوف لن يُدرك أخطاءه. عندما يقارن نفسه مع آخرين ينطلق دائماً من تفوقه. لذلك سوف لن يستطيع أبداً أن ينقد ذاته وسوف لن يتمكن من التقدم. النافذة التي منها يرى نفسه والآخرين سوداء لكن المسيح ههنا يتكلم عن فضيلة خاصة يمكنها أن تملأ العينين بالنور وعن حالة يمكن أن تملأهما بالعميان. يقول السيّد:" ليس من شيء يمكنه أن يعطيك نوراً ووضوحا لحياتك أكثر من الكرم؛ وليس من شيء يمكن أن يعطي ظلمة وسوء فهم للآخر أكثر من الغرور.
4- الحكم على الآخر بمحبة:
انه لمن صفات الطبيعة البشرية أن تُفكر بالأسوأ، وأن تجد فرحاً في السيء المعاد. في كل يوم تشوَّه أسماء أشخاص بريئين من قِبَل نمّامين قد تغمّست ألسنتهم بالسمّ.... سوف يتخلص العالم من مشاكل وأحزان كثيرة لووضعنا على ألسنتنا الأفضل وليس الأسوأ.

علينا أن نكون كرماء في أعمالنا:
السؤال الذي يجب أن يلازمنا هو:" ماذا أستطيع أن أفعل؟ متى وأين يمكنني أن أساعد؟
عندما نبدأ بالشعور بحب العطاء للآخرين، عندها سنرى العالم والأشياء بوضوح، وتُصبح أعيننا مليئة بالنور.

هناك ثلاثة شرور تُعشعِش في الروح البخيلة وفي العين الحقودة:
الأولى: تجعل حياة الشخص صعبة. إذا كان إنسان ما يحسد نجاح آخر وفرحه، وإذا أغلق قلبه عن حاجات جاره، يصبح شخصاً يدعو للأسف والشفقة.
الثانية: يصبح من غير الممكن أن يعيش مع الآخرين. الإنسان القاصي مكروه من الجميع. والرجل المكروه من الآخرين، قلبه مليء بالكراهية وحب الذات. المحبة تغطي الكثير من السيئات، بينما الروح الحقودة تحوِّل الفضائل إلى شرور.
الثالثة: الروح البخيلة لا يمكنها أن تعيش مع الله. ليس من إنسان أكرم من الله. ولا يمكن الجمع بين شخصين يعيشان حياتهما بمبادئ متعاكسة. ولا يمكن أن يجتمع الله الذي يشتعل قلبه بالمحبة ورجل قد تجمّد قلبه بالسوء. العين الحسودة تشوّه نظرنا، بينما العين الكريمة ترينا بوضوح، لأنها وحدها ترى الله.
لا يمكن أن تعبدوا ربين:
لكي نفهم المعنى العميق لهذا التعبير علينا أولاً أن نتذكر شيئين من عبيد الماضي:
أولاً: كان العبد في عينيّ القانون " لا شخص" ولكنه شيء. لم يكن له حق خاص به. كان ملك سيده الذي يحق له أن يفعل به كما يشاء حتى قتله.
ثانياً:لم يكن للعبد حق في الوقت. إن كل برهة من حياته هي ملك سيده.
هنا نفهم معنى علاقتنا مع الله. ليس لدينا من حق خاص بنا بعلاقتنا مع الله . يجب أن يكون الله السيّد المطلق لحياتنا. أن نسأل دائما " ماذا يريدني الله أن أعمل؟ الوقت ليس ملكنا. سأعمل ما يريدني الله عمله. ليس هناك من وقت بالنسبة للمسيحي لا يكون فيه مسيحياً. لا يمكنه أن يكون مسيحيا في وقت وفي نسبة وغير مسيحي في وقت آخر وبنسبة أقلّ.
ثم يتحول السيد ليوضح مكان الممتلكات في حياتنا. وبناء لهذا التعليم هناك ثلاثة مبادئ:
1- كل شيء هوملك الله. الكتب المقدسة واضحة في هذا الأمر" الأرض كلها لله و كل ما فيها" (مزمور 24: 1). كل حيوانات الغابات، هم ملكي .... (مزمور 50: 10- 12) .
السيّد، حسب تعليمه، هوالذي يُعطي عبده المكافأة (متى 25: 15) وهوالمالك. يستطيع الإنسان أن يشتري ما يريده، أن يغيّر لدرجة الأمور، لكنه لا يستطيع أن يخلقها. إن المالك الأوحد هوالله.
2- المبدأ الثاني يقول: إن الإنسان دائماً أهمّ من الأشياء. إذا كان تجميع الكنوز يتم على حساب معاملة الإنسان؛ عندها يكون الغنى باطل.
3- الغنى دائماً يخضع لمصلحة الإنسان. لا يقل الكتاب المقدس " بأن المال سبب كل الشرور"، لكنه يقول: حبّ المال هوأساس كل الشرور،(1 تيموتي 6: 10) . يمكن لواحدنا أن يجد في الغنى ما يعرف عادة " بالخلاص المنافس". يُمكن للإنسان الغني أن يظن بأنه يمكنه أن يملك ما يشاء ويشتري ما يشاء... فيصبح عندها الغنى السلاح الذي يواجه به الحياة. وإذا أراده ليكون لمصلحته فقط، يصبح الغنى الشيء الذي يعيش له ويعيش به، عندها يصبح عبداً للغنى، والغنى هوالمالك والسيّد وليس الله. مِن ما قلت يتّضح لنا بأن المال والغنى ليسوا خطيئة بحد ذاتهم، ولكنهم مسؤولية كبيرة. فالمالك الكثير ليس شخص يستحق التهنئة، بل الصلاة ليستعمل أملاكه كما يريده الله أن يستعملها.
الهموم الممنوعة:
" أقول لكن أن لا تهتموا بما تأكلون  بما تشربون..."  يجب أن نعرف قبل الدخول في درس هذا المقطع ما هوممنوع وما هومسموح به. كان الحاخامات الكبار يعلمون بأن على الرجال أن يواجهوا الحياة بخليط من الحكمة وصفاء العقل، وعلى كل والد أن يُعلّم أولاده مهنة، لأن في عدم تعليمهم مهنة يعني بأن يعلمهم السرقة. وبنفس الوقت علموا بأن الذي عنده رغيف واحد من الخبز ويسأل ماذا سآكل غداً؟ إنه رجل ذي إيمان ضعيف. يُعلّم السيد المسيح في هذا المثل درساً يعرفه إنسان يومه جيداً، درس الحكمة والهدوء والثقة مجتمعين.
الإهتمام و الدواء:
في هذا الدرس يضع السيّد أمامنا سبعة براهين ضدّ الإهتمام:
1- يُوضح في البداية بأن الله منحنا حياة، وإذا كان قد أعطانا حياة عليه يجب أن نثق به في الأمور الأخرى الأقل أهمية.
2- يتكلم عن طيور السماء. لا يهتمون ولا يجربون أن يحزنوا للمستقبل، ومع ذلك تسير حياتهم كالمعتاد.
3- يبرهن السيّد بأن الإهتمام لا ينفع. ويُمكن أن نجد معنيين في الجملة: إن بالإهتمام لا يمكننا أن نزيد شيئاً على طول جسدنا، وبالإهتمام سوف لن نستطيع أن نزيد شيئاً لحياتنا.
4- يتكلم عن الزهور. ويظهر من كلامه بأنه يحب الزهور. الليلكي تُزهر يوماً لتعود وتموت.
ولكن في حياتهم القصيرة فإنهم يلبسون حللاً جميلة تفوق جمال حلل الملوك. فإذا كان الله يعطي مثل هذا الجمال للورود، فهل تتصوروا كم سيهتم بخليقته – الإنسان -؟ 
5- يقدم لنا السيّد طريقة لمحاربة الإهتمامات. الإهتمامات هي شيمة من شيَم الوثنية وليست للإنسان الذي يعرف الله. الإهتمامات هي عدم الثقة بالله. على المسيحي أن لا يهتم لأنه يحب الله.

6- ثم يعرض لنا طريقين لدحر الإهتمامات:
(1) التصويب على ملكوت الله. 
(2) يعرف كل منا كيف أن المحبة تقهر الخوف والإهتمام. المحبة تلهم عمل الإنسان، تشجعه على الدرس. تنقّي حياته وتسيطر على كل وجوده. يعرف السيد المسيح بأن الإهتمامات تزول عندما يصبح الله مركز كل حياتنا.
7- أخيراً يقول المسيح بأن الإهتمامات يُمكن أن تُغلَب إذا ما عرفنا أن نعيش كل يوم بيومه. يقول المثل القديم: " لا تهتم بشياطين الغد، لأنك لا تعرف ماذا سيحمل الغد، يمكن أن لا تكون حياً نهار الغد، فتكون قد اهتممت بعالم ليس عالمك". يعلمنا السيّد أن نهتم بكل يوم فقط دون أن نهتم بالمستقبل غير المعروف وبأمور يمكن أن تحدث.

الإهتمامات إذاَ باطلة، عادمة الفائدة وفي الجوهر مضرة. الإهتمامات لا يمكن أن تؤثر على الماضي، لإن الماضي هوالبارحة. الماضي هوماضٍ. أنا لا أقول بأنه ينبغي أن نفصل ذواتنا عنه؛ ولكن أن يُستعمل الماضي كحافز للعمل وكمُوجّه لمستقبل أفضل، وليس شيئاً يسيطر على تفكيرنا فيشلّه ويقتله.

قال النبي ( أشعياء في 26: 3) ما يلي: " إنك ترعاها بالسلام ،السلام لأنها عليك توكلت". توكلوا على الرب إلى الأبد. " تعلموا من طيور السماء" يقول لنا سيّدنا.

المتروبوليت بولس صليبا

برلين: مسجد ابن رشد - غوتيه "ليبرالي" يكسر المحظورات

© أ ف ب/أرشيف
نص فرانس 24  

في بادرة هي الأولى من نوعها، قام مسلمون بتأسيس مسجد داخل مبنى تابع لكنيسة في برلين. ويقوم هذا المسجد بكسر المحظورات إذ يمكن أن يصلي فيه الرجال والنساء سويا،وأن تؤم المصلين امرأة وأن ترتاده السافرات والمثليون والمثليات.

 قام مسلمون بتأسيس مسجد داخل مبنى تابع لكنيسة في برلين. ويعتبر هذا المسجد "ليبراليا" يكسر المحظورات إذ يمكن فيه أن يصلي الرجال والنساء سويا، بمن فيهم السافرات والمثليون، وأن تؤم المصلين فيه امرأة، وذلك في محاولة منهم للترويج لإسلام معتدل وكسر صورة العنف والتطرف التي ألصقها الجهاديون بهذا الدين.

ومع حلول صلاة الجمعة يرتفع صوت الآذان في أرجاء مسجد ابن رشد-غوتيه وهو عبارة عن قاعة صغيرة اكتظت بالمصلين نساء ورجالا. ولكن في هذه الصلاة الأولى المؤذن هو امرأة. إنها الأمريكية-الماليزية آني زونيفيلد التي تعتبر واحدة من "الأئمة" القليلات في العالم.

بعدها تستهل امرأة أخرى هي المحامية الألمانية-التركية سيران أتيس (54 عاما) بعباءتها البيضاء وشعرها القصير المكشوف، صلاة الجمعة بعبارات ترحيب بالمصلين.

وتقول هذه المرأة البرلينية الناشطة في مجال الدفاع عن حقوق النساء والشهيرة جدا في معرض تعريفها بالمسجد الذي شاركت في تأسيسه "نريد توجيه رسالة ضد الإرهاب الإسلامي واختطاف ديانتنا. نريد أن نمارس ديانتنا معا".

أما المصلون الذين احتشدوا جنبا إلى جنب نساء ورجالا وقد ركع كل منهم على سجادة صلاة فردية خضراء فيسجدون باتجاه القبلة أمام عدسات المصورين وتحت أنظار مسيحيين ويهود تمت دعوتهم إلى هذه الصلاة الافتتاحية التي أثارت عاصفة من ردود الفعل على الإنترنت.

وفي حين كانت بعض المصليات محجبات فإن مصليات أخريات لم يجدن أي حرج في الصلاة بدون حجاب والإنصات إلى الخطبة التي ألقيت بالألمانية.

والمبادرون إلى تأسيس هذا المسجد هم سبعة ناشطين وناشطات لم يجدوا مكانا لهم في المساجد المحافظة لأداء الصلاة كما يريدون فأطلقوا هذه المبادرة.

وتقول أتيس التي أثارت فضيحة في أوساط المسلمين بدعوتها الإسلام إلى ثورة جنسية إن "هؤلاء السادة والسيدات (السلفيون) عليهم أن يكفوا عن السعي لسلبي حقي في أن أكون مسلمة".

وهذا المسجد، وهو واحد من حوالي 80 مسجدا في برلين، أقيم في الطابق الثالث من مبنى تابع للطائفة البروتستانتية ويضم أيضا كنيسة ودار حضانة، في خطوة أراد منها المؤسسون التأكيد على انفتاح مسجدهم على الجميع.

ويؤكد المؤسسون أن كل تيارات الإسلام مرحب بها في هذا المسجد التقدمي الذي أطلق عليه عن قصد اسم "ابن رشد-غوتيه" تيمنا بكل من الفيلسوف والطبيب الأندلسي الشهير والكاتب والمفكر الألماني فولفغانغ غوتيه.

وبذلك فإن المسلمين السنة والشيعة والعلويين والإسماعيليين.. هم جميعا موضع ترحيب في هذا المسجد الذي يفتح أبوابه أيضا أمام المثليين.

ويقول الخبير الألماني في الشؤون الإسلامية عبد الحكيم أورغي إن "هذا المسجد يتيح أمام المسلمين إمكانية التعريف عن أنفسهم بطريقة جديدة (...) سنعمل على نزع الصبغة السياسية عن الإسلام لأن الدين شأن خاص".

وجرت الصلاة في حين انتشر أمام المبنى عناصر من الشرطة في إجراء احترازي على الرغم من أن مؤسسي المسجد أكدوا أنهم لم يتلقوا أي تهديد مع علمهم أن ما يقومون به ليس موضع ترحيب من كثيرين.

وألمانيا التي تضم أكثر من أربعة ملايين مسلم تعرضت في الآونة الأخيرة لهجمات جهادية عدة ولا سيما في 19 كانون الأول/ديسمبر حين دهس جهادي يقود شاحنة جمعا من المارة في سوق للميلاد في برلين موقعا 12 قتيلا.

وأدى تدفق أكثر من مليون لاجئ على ألمانيا، غالبيتهم العظمى من المسلمين، منذ 2015 إلى تأجيج مخاوف بعض الألمان ولا سيما حين تبين أن بعض الجهاديين استغلوا موجه الهجرة هذه للتسلل في صفوف هؤلاء اللاجئين.

 فرانس24/ أ ف ب

دمعة الشاعر السوري مفيد نبزو على الأديب كلارك بعيني

من محردة ـ سوريا أرسل الشاعر مفيد نبزو هذه القصيدة عن فقيد الكلمة كلارك بعيني
ـ1ـ
من هون بدي قولها كلمات 
من دمعة الأرزات والكرمات
في ناس ماتوا وانتهوا يا خطيْ 
وذكراك يا كلارك البعيني حيْ
المتلك وفا وإيمان لأ ما مات
ـ2ـ
يا مجدليا الجمر نار بمدمعك 
كلارك البعيني اليوم جايي يودعك
شربل قصيدة آه يا ناي الشجن 
من هون روح وعاطفة بكينا معك
ـ3ـ
يا كلارك جرعنا الزمن كاس المرار 
بعدك يا غالي وبكيت حجار الديار 
من بعد غربة كلها هموم وتعب 
فارقتنا بغربة ما في إلها قرار
ـ4ـ
كلما شفت شي طير بالعالي 
رح خبرو شو اللي شغل بالي 
ورح أمّنو ع مجدليا يروح 
ويبوس قبر "كلاركنا" الغالي 
ومطرح ما في أرزه ع قبرو ينوح
ويشكّلا من كرمة الدالي
**

أو من كان ميتاً فأحييناه/ عبدالله بدر السلطان


القرينة الملازمة لبيان المراحل المتعددة للإنسان في القرآن الكريم قد تخرجه عن وجوده المادي الذي لم يدخله التشريع بعد، ولذلك فإن الدلائل القرآنية لا تنسب إليه الصورة الإيمانية التي تقتضي التوجه إلى التداعيات المرتبطة في حياته المعنوية وكمالها المستمد من حركته في الوجود من خلال البصائر والملكات التي زود بها. ومن هنا فقد أشار الحق سبحانه إلى أصل الإنسان بقوله: (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً) الإنسان 1. أي إن هذا الإنسان لم يكن شيئاً مذكوراً في الأزل، ولذا فرع هذا الوجود على بيان الهدى المتمثل في السبيل الذي يصل به إما إلى الشكر وإما إلى الكفر، كما في قوله تعالى: (إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً) الإنسان 3. وبناء على تحقق وجود الإنسان بهذه الحيثية المجردة فقد بين القرآن الكريم جميع المقتضيات التي تجعله بمنأى عن الترابط المعنوي الذي خلق من أجله، ولهذا أشار إليه بأنه هلوع، جزوع، كفور، عجول، كنود، قتور، مختال، فخور، ظلوم، منوع، وما إلى ذلك. ثم جمع سبحانه هذه الأوصاف في الكبرى بقوله: (والعصر... إن الإنسان لفي خسر) العصر 1- 2. ثم أخرج الذين آمنوا عن هذه القاعدة بواسطة القرائن التي جاءت مكملة لإيمانهم والتي أشار إليها في سياق السورة.
 
وبناءً على هذا التفريق فقد أودع الله تعالى في الإنسان حقيقة الخلق المتفرعة على ما سخر له من أسباب  
وجعل النظام الكوني الذي يليه خاضعاً لإرادته، علماً أن هذا التسخير قد ذكر في كثير من متفرقات القرآن الكريم كقوله في الصغرى: (هو الذي جعل الشمس ضياءً والقمر نوراً وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب) يونس 5. وأخيراً فرع ذلك على المهمة التي خلق من أجلها فقال: (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهوداً) الإسراء 78. وكذا قوله: (وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها) طه 130. وبهذا يظهر أن قوله تعالى: (ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة) فاطر 45. يوحي بأن كل شيء خلق من أجله، ولهذا فإن هلاك الدواب مرتبط بهلاك الإنسان، وكذلك فإن مهمة الموجودات الأخرى سوف تنتهي بنهاية الإنسان، وقد بين سبحانه هذا المعنى في قوله: (إذا الشمس كورت) التكوير 1. والآيات التي بعدها، ولأجل الاختصار يمكن القول إن الله تعالى قد بين كل ما سخر للإنسان في قوله: (وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) الجاثية 13. وهذه هي الكبرى التي تتفرع عليها آيات التسخير.
 
مما سبق نعلم أن حياة كل إنسان تعادل حياة الناس جميعاً باعتبار أن المهمة الوجودية لا تقتصر على الكم، ولهذا جاء التشريع بالحفاظ على حياة هذا الكائن بنوعه، كما أشار سبحانه إلى ذلك بقوله: (من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً) المائدة 32. فإن قيل: لمَ كتب هذا الأمر على بني إسرائيل دون غيرهم؟ أقول الكتابة تجري فيهم وفي غيرهم إلا أن سن القوانين التشريعية وتفصيل الأحكام ذكر في التوراة. وبناءً على ما مر يمكننا القول إن الذي تتفرع عليه النفس الإنسانية إلى ما يرتقي بها ويخرجها من ضلالها إلى وجودها يتجسد في الصغرى التي أشار إليها سبحانه بقوله: (يا ايها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) الأنفال 24. أي لما يحييكم في الدعوة إلى الله تعالى والتي تنطبق مصاديقها على العلم والإيمان والعمل الصالح.
 
فإن قيل: كيف يمكن استمرار الدعوة بما فيها من مصاديق دون أن يحصل الإنسان على أسباب حياته المادية؟ أقول: عند تأمل المعنى المشار إليه في الآية نجد أن الحياة المادية لا تخرج عنه باعتبار أن الشريعة تحمل في تراكيبها كل المعطيات التي تحقق للإنسان سعادته المادية أو الروحية، وقد بين سبحانه هذه المعطيات بقوله: (كلوا من طيبات ما رزقناكم) البقرة 57. وكذا قوله: (ومن الأنعام حمولة وفرشاً كلوا مما رزقكم الله) الأنعام 142. وقوله تعالى: (كلوا وارعوا أنعامكم) طه 54. ثم بين تعالى علة هذا الأمر بقوله: (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم) المؤمنون 51. وعند تأمل هذه النتيجة نصل إلى أن الحياة الثانية لا تخرج عن الحياة المادية إلا أن لوازمها لا تنفك عن القيم الروحية.

 ومن هنا فقد أشار سبحانه وتعالى إلى الكبرى بقوله: (أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون) الأنعام 122. وأنت خبير بأن الموت المشار إليه في الآية لا يراد منه الموت الحقيقي وإنما الموت الذي يحمل صفات الحياة المفارقة للعلم والإيمان وما يترتب على ذلك من لوازم الطاعة، وإن شئت فقل تلك الحياة التي تجانب الروح المعنوية التي يتطلع الإنسان من خلالها إلى النهج الذي يبين له القيم والمعاني السامية أو بتعبير آخر يمكن أن تجرد إنسانيته عن جميع التشريعات التي تبين له الفرق بين الفعل والترك ومن هنا يكون مسيراً من قبل شهواته التي لا يستطيع أن يضعها في المكان المخصص لها.
 
وبناءً على هذا يكون الإنسان الذي بينا صفاته أقرب إلى أولئك الذين أشار إليهم سبحانه بقوله: (أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً) الفرقان 44. وقريب منه الأعراف 179. وإذا ما وصل الإنسان إلى هذه المرحلة تجده ينظر إلى الحقائق بنظرة أخرى حتى يصبح لا يفرق بين الحق والباطل أو الخير والشر، وهذا ما نراه اليوم لدى كثير من الناس الذين ابتعدوا عن منهج الله تعالى حتى وصلوا إلى المرحلة التي يسمون الأشياء من خلالها بغير مسمياتها. أما الإنسان الذي أحياه الله تعالى وجعل له نوراً يمشي به في الناس كما أشارت إلى ذلك آية البحث فهو أيضاً يرى ما لا يراه الناس ولكن من الجهة المقابلة فتأمل ذلك. من هنا يظهر أن الحياة الثانية التي يهبها الله تعالى للإنسان لا تخرج عن مفهوم العلم والإيمان.  

الجالية القبطية باستراليا تحتفل بشراء كنيسة جديدة فى سيدنى واستلام دير بملبورن


ببركة وصلوات قداسة البابا تواضروس الثانى وشريكة فى الخدمة الرسولية الانبا دانييل اسقف سيدنى قد تم شراء قطعة ارض على مساحة خمسة أفدنة عليها منزلان وذلك لإقامة كنيسة جديدة على اسم القديس كاراس السائح ومعسكر لخدمة الشباب والعائلات فى منطقة كامدن جنوب غرب مدينة سيدنى والمناطق الجديدة المحيطة بها والتى تم تعميرها اخر عشرة سنوات .
هذا وقد إحتفل  شعب الكنيسة ببدأ الخدمة صباح  اليوم الأحد ١١ يونيو بإقامة اول قداس إلهى بقيادة القمص أغسطينوس الانطونى راعى الكنيسة فى قاعة مؤقتة تم تأجيرها لإقامة قداسات الأحد من كل اسبوع  لحين إستلام المكان وتجهيزه  لإقامة الخدمات الكنسية الكاملة على مدار الأسبوع , ومن الجديد بالذكر ان القمص أغسطينوس قد بدأ خدمته باستراليا فى كنيسة القديسة بربارة والقديس ابو نوفر السائح بكامبلتاون حيث نجح فى تحويل وتطوير منزل للراهبات الكاثوليك تم شرائه منذ عدة سنوات الى كنيسة وإنشاء أماكن للخدمة حولها .
وفى السياق نفسه دعى نيافة الحبر الجليل الانبا سوريال اسقف ملبورن شعب الايبارشية لقضاء يوماً روحياً احتفالاً باستلام  دير رئيس الملائكة ميخائيل للراهبات يوم غداً الاثنين ١٢ يونيو ( عطلة رسمية بأستراليا بمناسبة عيد ميلاد الملكة ) وذلك بعد إتمام إجراءات نقل الملكية لإيبارشية ملبورن  حيث يبدأ اليوم بالقداس الألهى يليه برنامج للتعرف على الدير والخدمات التى يقدمها لابناء الجالية القبطية .

التوبة والمحبة/ نسيم عبيد عوض

" ثم إلتفت إلى المرأة وقال لسمعان .أتنظر هذه المرأة ؟ إنى دخلت بيتك وماء لأجل رجلى لم تعط.وأما هي فقد غسلت رجلي بالدموع ومسحتها بشعر رأسها.  قبلة لم تقبلنى .وأما هي فمنذ دخلت لم تكف عن تقبيل رجلي.    بزيت لم تدهن رأسى. وأما هي فقد دهنت بالطيب رجلى. من أجل ذلك أقول لك: قد غفرت خطاياها الكثيرة لانها أحبت كثيرا‘ والذى يغفر له قليل يحب قليلا.. ثم قال لها مغفورة لك خطاياك. إيمانك قد خلصك .إذهبى بسلام. والمجد لله أبديا. أمين.

فصل إنجيل هذا الصباح المبارك من إنجيل لوقا البشير 7: 36 -  50‘ عن إمرأة فى المدينة كانت خاطئة ‘ علمت أن الرب متكئ فى بيت الفريسى ‘ فجاءت بقرورة طيب ...إلخ وهذا الفصل من الإنجيل ضمن فصول تعليم منهج التوبة‘ ومليئ بتأملات متعددة تملئ النفس سلام وترشده لمعرفة التوبة والخلاص: وأهم مانتعلمه مما فعلته هذه المرأة:

أولا: " وقفت عند قدمية باكية

وإبتدأت تبل قدميه بالدموع

وتمسحهما بشعر رأسها."

وهذا هو منهج الإنسان الخاطئ التائب ‘ يتقدم تحت أقدام الرب بدموع التوبة الصادقة‘ ولذلك نصلى صلاة نصف الليل – الخدمة الثانية – " أعطينى يارب ينابيع دموع كثيرة كما أعطيت منذ القديم للمرأة الخاطئة ‘ وأجعلنى مستحقا أن أبل قدميك اللتين أعتقتانى من طريق الضلالة."

لقد إنجذبت المرأة التى كانت خاطئة – وهي تمثل كل شخص فينا – إلى الوليمة بدون دعوة بمجرد علمها بوجود طبيب النفوس الذى سيشفيها من مرض الخطية‘ فهو وحده القادر على الشفاء‘ وجدت فى قدمي المخلص سر إمكانية السلوك فى طريق البر والصلاح ‘لتنعم منه من محبته مغفرة خطاياها‘ وجهارا أعلنت توبتها بخطيتها أمام الجميع.

وأما السمعان الفريسى دخل السيد بيته ولم يدخل قلبه ‘ بعكس المرأة التى إقتحمت الوليمة بدالة الحب له والتقت مع عريسها السماوى‘

الفريسى يمثل النفس التى تختفى وراء المظاهر الخارجية الخداعة ‘ ليقول الناس أنه رجل مضياف ‘ فى البيت يستضيف ولكن فى القلب لا ‘

والمرأة هنا تمثل النفس الجادة فى الخلاص فإرتوت من الحب الإلهى وإستضافت العريس السماوى فى قلبها ‘ وهي متأكدة من رحمته وحنانه‘

وتشاركها السماء وملائكته ‘ كقول الرب" هكذا يكون فرح فى السماء بخاطئ واحد يتوب ‘ أكثر من 99 بارا لا يحتاجون إلى توبة." لو15: 7‘ وأيضا "هكذا أقول لكم يكون فرح قدام ملائكة الله بخاطئ واحد يتوب." لو15: 10‘ بل أن الله نفسه يفرح كما رأينا فى مثل الإبن الضال" إستقبله الآب بحفل وفرح كبير وقال" إبنى هذا كان ميتا فعاش ومفقودا فوجد. وأمر بذبح العجل المسمن وقال إذبحوه نأكل ونفرح." لو15: 23.

داود النبى: يحكى لنا سفر صموئيل النبى -2- إصحاح 11و12 ‘ قصة خطية داود ‘ مع بتشبع وزوجها أوريا الحثى ‘ زنى مع الأولى وقتل زوجها ‘ وكتم هذه الخطية عن الناس فترة طويلة ‘ ولكن الله لا يخفى عليه شيئ فهو عالم مابداخل كل إنسان ‘ فأرسل له ناثان النبى ‘ الذى بحكمة قص عليه خطيته بمثل عن رجل غنى وجاره الفقير ‘ وقال له هكذا قال الرب: لماذا إحتقرت كلام الرب لتعمل الشر فى عينيه‘ لماذا جعلت أعداء الرب يشمتون‘ صام داود صوما ‘ ودخل وبات مضطجعا على الأرض من أجل الصبى ‘ ثم دخل بيت الرب وسجد ‘ وقدم أعظم إعتراف بالخطية (سائلا المغفرة والتوبة" إرحمنى يا ألله كعظيم رحمتك ومثل كثرة رأفتك إمحو إثمى‘   إغسلنى كثيرا من إثمى ‘ ومن خطيتى طهرنى. إلخ  مز51‘)

ونصلى فى صلاة نصف الليل " توبى يانفسى مادمت فى الأرض ساكنة..

ونسأل إلهنا" إقتنى لى عمرا نقيا بالتوبة." ‘

فالتوبة هى ندم حقيقى على الخطية بالرجوع عنها ‘ والعودة لأحضان الرب ‘

ومنهج توبة هذه المرأة أو خطوات توبتها لنتمثل بها:

1- الدموع والتى هى تعبير عن الندم وحزن الخطية ‘ وفى مياه الدموع كمياه المعمودية تغسل آثامنا وذنوبنا‘ لم يقدم الفريسى عالم اللاهوت ماء لغسل قدمي السيد كعادة الضيافة فى ذلك الزمان ‘ وأما المرأة فغسلت بدموعها قدميه ‘ لنتعلم أن نغسل ضمائرنا حتى نقبل ماء المسيح – ماء المعمودية – ‘ لنتقدم إليه بدموع التوبة والمحبة ونسأله أن يغسل خطاياي بماء الحياة الأبدية‘ حتى أسمعه يقول لى" مغفورة لك خطاياك الكثيرة ."

2- غسلت رجليه ومسحتهما بشعر رأسها ( الذى هو تاجها ) وإعتبرتهما نفاية من أجل محبة المسيح . كقول الرسول " خسرت كل الأشياء وأنا أحسبها نفاية لكي أربح المسيح وأوجد فيه..." في 3: 8و9‘ والشعر هنا يرمز إلى طاقتنا الجسدية ومواهبنا ومشاعرنا وعواطفنا ‘الملتهبة‘ وكرامتنا ‘  لا نبخل بهما فى مسح قدمي المخلص بدموع التوبة.    

   3- تقبيل القدمين كتقبيل الفم ‘ علامة الحب الذى يملأ قلبها ‘ كقول عروس النشيد " ليقبلنى بقبلات فمه." نش1: 2‘ وفى الكنيسة وحدها لها نقدم لعريسنا قبلات العروس قبلات غير غاشة ‘ قبلات القلب والنفس النقية ‘ ليس قبلات الشفتين فقط ‘ وحيث لا يوجد حب ولا إيمان لا توجد قبلات  ‘  وشعر الرب بهذا الحب وقال عنه لأنها أحبت كثيرا ‘ والذى يغفر له قليل يحب قليلا‘ ولأنه من كثرةالإثم تبرد محبة الكثيرين‘ فليملأ الحب قلوبنا حتى يغفر لنا كثرة خطايانا‘  وظهر هذاالحب الكثير فيما فعلته المرأة ‘ وبقدر هذه المحبة على قدر شعورها بالغفران ‘ وكقول القديس العظيم الأنبا أنطونيوس " من عرف ذاته عرف الله.".

4- دهن الطيب لتنشر رائحة المسيح الذكية على كل من يقترب منه ‘ فينحنى تحت قدميه وينال الغفران. ومن هنا تحررت المرأة من عبودية الخطية ومن كل آثامها وخطاياها الكثير كقول الرب " فإن حرركم الإبن فبالحقيقة تكونون أحرارا."

ثانيا: "فقال للمرأة إيمانك قد خلصك ..إذهبى بسلام." وهنا نتكلم عن الإيمان ‘

فالرجل الفريسى لم ينتفع بلقاء المسيح بسبب إصراره على كبرياءه ‘ وقدم لنا مثلا للذين لهم صورة التقوى ولكنهم ينكرون قوتها ‘ بمعنى إيمان ناقص ‘ وتقوى خادعة‘ بعكس المرأة الخاطئة ‘ قلب مملوء حبا وإيمان بالله ‘ألقت رجاءها على الله الحي ‘ الذى هو مخلص جميع الناس ‘ الذى لا يشاء موت الخاطئ مثلما يرجع ويحي.

بإيمان المرأة المستقيم سكبت طيبا على قدمى المخلص ‘ الذى هو رائحة ذكية تنعش روحها بالتوبة والغفران ‘ وأشتمه الرب رائحة سرورفقال لها :إيمانك قد خلصك ‘ الإيمان هو طريق الحياة والنعمة وسلوكنا وسط العالم ‘

ومقياس إيماننا وهو مقدار الحب الكبير لله له ظواهر فى حياتنا مثل:

1- مقدار وقتى مع الله فى الصلاة ‘ وطيب الصلاة هو الصلة الثابتة فى ربنا ‘ والتى تدوم إلى الأبدية‘ كقول الكتاب" هذه هى الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقى وحدك ويسوع المسيح الذى أرسلته.يو17: 3‘هذه الصلاة التى يقول عنها المرتل " لتكن صلاتى قدامك كرائحة بخور"‘

7" مرات فى اليوم سبحتك على أحكام عدلك "‘

"يارب أستمع صلاتى وليدخل إليك صراخى."‘

لا تحجب وجهك عنى فى يوم ضيقى . أمل أذنك إلي فى يوم أدعوك.مز102‘

داود الملك والنبى العظيم ويحكم شعبا كبيرا لم يتوقف عن الصلاة ‘فكانت حياته كلها صلاة.فترك لنا أكثر من 70 مزمورا هى صلاته للرب .

2- إيماننا يتمثل فى سلوكنا وأعمالنا ..لأنه النور الذى نقدمه للعالم كقول الرب"فليضيئ نوركم هكذا قدام الناس لكي يروا أعمالكم الحسنة ‘ ويمجدوا أباكم الذى فى السموات." مت 5: 16‘ فالأعمال الصالحة الحسنة هى عنوان إيماننا ‘ والله يعرفها ‘ ويصل مفعولها إلى السماء مباشرة ‘ فنسمع لصوت الرب قائلا" تعالوا يامباركى أبى رثوا الملك المعد لكم منذ تأسيس العالم.‘ وهاهو عريسنا يقول لنا" قد دخلت جنتى يا أختى العروس." فسلوكنا وأعمالنا هو طيب رائحة ذكية لإيماننا الحقيقى.كقول الرسول" لأننا نحن عمله مخلوقين فى المسيح يسوع لأعمال صالحة قد سبق الله فأعدها لكي نسلك فيها." أف 2: 10. وأيضا قول الكتاب على لسان سليمان الجامعة" لأن الله يحضر كل عمل إلى الدينونة على كل خفي إن كان خيرا أو شرا." جا 12: 14. ( وماذا نقول عن من يتظاهرون بالتقوى والإيمان المسيحى ‘ فيخرج بعد نواله المغفرة والحياة الأبدية –من جسد الرب ودمه) يخرج وكما هو دخل قلب مملوء ظلمة وأفكار ردية ونية غير صافية ‘ وكقول الرسول

8 وَلكِنْ لِيَمْتَحِنِ الإِنْسَانُ نَفْسَهُ، وَهكَذَا يَأْكُلُ مِنَ الْخُبْزِ وَيَشْرَبُ مِنَ الْكَأْسِ.

9 لأَنَّ الَّذِي يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ بِدُونِ اسْتِحْقَاق يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ دَيْنُونَةً لِنَفْسِهِ، غَيْرَ مُمَيِّزٍ جَسَدَ الرَّبِّ.

0 مِنْ أَجْلِ هذَا فِيكُمْ كَثِيرُونَ ضُعَفَاءُ وَمَرْضَى، وَكَثِيرُونَ يَرْقُدُونَ.

1 لأَنَّنَا لَوْ كُنَّا حَكَمْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا لَمَا حُكِمَ عَلَيْنَا،

"2 وَلكِنْ إِذْ قَدْ حُكِمَ عَلَيْنَا، نُؤَدَّبُ مِنَ الرَّبِّ لِكَيْ لاَ نُدَانَ مَعَ الْعَالَمِ.

وأطياب كثير نعلن بها عن إيماننا:

طاعة وصاياه كقلادة على عنقى. 

  محبتى للغير كمحبتى لنفسى.  

  التسبيح والحمد الدائم لله صانع الخيرات   كلمة ربنا الحلوة من فم حلو وشفتان تقطرا شهدا بكل لطف ومحبة لكل الناس.

 وسنجد الرب فى خوف ورعدة ليقول لنا " ما أطيب حبك يا أختى العروس . كم رائحة أدهانك أطيب من كل الأطياب."نش4: 10 

لقد كشفت لنا المرأة الخاطئة عن أعماق محبة الله الفائقة لنا ‘ وخصوصا عن عودتنا لأحضانه تائبين‘ فهل نحن نعيش بتوبتنا المستمرة فى محبة الله؟

فلنصلى دائما ليسكب ويلهب روحه القدوس فى قلوبنا حتى نعطيه كل القلب حبا له ‘ لينعم علينا بغفران خطايانا ‘ وليغرس سلامه الدائم فى قلوبنا .

ولإلهنا المجد االدائم إلى الأبد . أمين. 

انفروا خفافاً وثقالاً/ عبدالله بدر السلطان

 الأمر الموجه للأبناء في مراعاة آبائهم لا يمكن أن يحدد في مرحلة زمنية من حياتهم ولكن الاستثناء اللاحق "كما سيمر عليك في الآية التي أشارت إلى هذا الأمر" فيه تخصيص للفترة التي تلزم الأبناء بالاهتمام بآبائهم عند فقدهم المقدرة على القيام بأعباء الحياة أو الاعتماد على أنفسهم في تنظيم أمورهم الخاصة، وهذه المرحلة يتفرع عليها بلوغ الآباء سن الكبر ويقاس على ذلك بعض الحالات الأخرى كالمرض والعوق والجنون وغيرها من الأمور التي تجعل الأبناء هم من يقوم بجميع احتياجات آبائهم، وقد بين الله تعالى هذا المعنى في قوله: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً) الإسراء 23.

وهذه هي المرحلة التي بينها سبحانه في قوله: (ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً) الحج 5. وقريب من هذا اللفظ النحل 70. ومرحلة أرذل العمر يبدأ فيها الإنسان بفقد العلم أو عدم مقدرته على إضافة علم إلى علمه الذي بدأ بفقد أجزاء منه بطريقة تتابعية، فالذي تنطبق عليه هذه الأعراض التي أشرنا إليها يمكن أن يسمى شيخ كبير أو عاجز عن العمل أو غير ذلك من الاطلاقات التي تخرجه عن مصطلح الشيخوخة المجرد، ولهذا نجد أن بنات الرجل الصالح قد وصفن أباهن بأنه شيخ كبير كما في قوله تعالى: (قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير) القصص 23. وقيل: إن هذا الرجل هو شعيب، وكذلك أضاف زكريا إلى كبره قرينة "عتياً" كما في قوله: (وقد بلغت من الكبر عتياً) مريم 8.

وهذه القرائن المضافة تفيد أن المراحل التي ذكرت في هذه الآيات، لا تعني السن الذي يحصل فيه الإنسان على التقاعد عن العمل كما هو متعارف في القوانين الوضعية للدول في وقتنا الحاضر، لذلك نجد أن بعض الدول تهتم بتعليم الكبار فضلاً عن غيرهم، ولهذا الاهتمام كثير من الأهداف أهمها عدم توقف عجلة الحياة في عمر معين، كذلك يمكن الاستفادة من الكبار ووضعهم في أماكن مناسبة لهم بعد اتمام دراستهم، باعتبار أن هناك بعض الأعمال لا يستطيع القيام بها إلا كبار السن، وقد يكون عمل الفئة المسنة من أكبر الحوافز التي تجعل الشباب يسيرون على خطاهم، وهذا النوع من الاهتمام بالكبار ربما يكون ضعيفاً أو معدماً في دول العالم الثالث التي تنظر إلى قانون التقاعد وإن شئت فقل التقاعس على أنه القانون الذي يحدد حركة الكبار، فإن قيل: هذا القانون يوجد في جميع دول العالم؟ أقول: نعم إلا أن حركة الكبار وتوجههم للدراسة والعمل الجديد الذي يناسبهم لا يحدد بهذا القانون، ولو تأملنا القرآن الكريم نجده يذم الحياة التي تبعث على الخمول والملل أو بالأحرى الحياة التي لا يوجد فيها أي نوع من أنواع الحركة التي يستحق الإنسان العيش من خلالها، ولذلك فإن الحق تبارك وتعالى يشير إلى هذه الحياة الخالية من العطاء في قوله: (ولتجدنهم أحرص الناس على حياة) البقرة 96. وفي تنكير حياة دليل على حقارتها أو أخذها على أي وجه حاصل لديهم.

ومن هنا فإن القرآن الكريم يضعنا في صورة من أروع الصور ألا وهي صورة الكهولة التي تجعل الإنسان يأخذ توازنه في الحياة، وكأن هذه المرحلة هي التي بدأ منها وليس تلك التي تكون بداية لنهايته كما في مخيلة البعض الذين لا يقدرون عمر الإنسان بالطرق الوسطى، ولذلك يقول عز من قائل: (حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحاً ترضاه) الأحقاف 15. وبلوغ الأشد على ما قيل هي الفترة الواقعة بين الثلاثين والأربعين، والأربعون تكون غاية الرشد التي يتهيأ فيها الإنسان لممارسة دوره في الحياة بصورة أكثر جدية من المراحل السابقة التي عاشها بين الطفولة والشباب، أما الآن فقد بلغ النضوج لديه مبلغاً يجعله يميز الغث من السمين والصحيح من السقيم، إلا أن الفرق الذي يجب أن نشير إليه هو الاهتمام في التوجه العرضي لعمر الإنسان، فقد يعيش الإنسان عمراً طويلاً ولا يقدم فيه للحياة إلا المأساة والمعاناة التي يتركها بعد رحيله.

ومقابل هذا نجد أن بعض الناس الذين لا يعمرون طويلاً قد أثروا الحياة حتى أمست آثارهم من أسباب بقاء ذكرهم الحسن بعد رحيلهم، ومن هنا نجد أن الحق تبارك وتعالى قد أقسم بعمر النبي (ص) في قوله: (لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون) الحجر 72. وهذا القسم بعمر النبي لا يعني أنه من المعمرين في الأرض ولكن العمر الذي مر عليه كان مليئاً بالعطاء والتضحية والجهاد في سبيل الله تعالى، حيث لا توجد في عمره ثغرة واحدة يتخللها الميول الخاص الذي نجده في نفوس من يتولى أمر الناس، وبناءً على ما مر نجد أن القرآن الكريم يولي اهتمامه بجميع الأعمار في حالات الجهاد والنفير العام إلا ما يخرجه الدليل، ولذلك يقول جل شأنه: (انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون) التوبة 41.

وهذه الآية نزلت في معركة تبوك، وفيها أمر بالجهاد ودعوة عامة إليه، وقوله تعالى: "خفافاً وثقالاً" الخفاف جمع الخفيف، والثقال جمع الثقيل، وهذا مفهوم عام تنطوي تحته كثير من المصاديق، أي انفروا في أي وضع كنتم شباباً أم شيوخاً، أغنياء أم فقراء، سواء كانت لكم أعمال أم لم تكن، تعولون أحداً أم لا تعولون، فالدعوة عامة للجميع وبدون استثناء إلا ما أخرجه الدليل كما قدمنا.                    

شيخ الازهر لوفد مجلس رؤساء وممثلي الكنائس الشرقية في أستراليا ونيوزيلندا: "زيارتكم دعم معنوي وأدبي ومادّي لشعبنا للتصدّي لثقافة الارهاب."


تقرير: رانيا زهرة شربل (تيلي لوميار- القاهرة)

في زيارتهم التاريخية الى الديار المصرية، بدأت جولة مجلس رؤساء وممثلي الكنائس الشرقية في أستراليا ونيوزيلندا، من مقرّ مشيخية الازهر الشريف في القاهرة، ولقائهم مع فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر الشريف الدكتور أحمد الطيّب ورئيس مجلس حكماء المسلمين في الأزهر، للتعبير له عن تضامنهم مع آلام الشعب المصري الناتجة عن ضربات الارهاب والتطرّف الديني والتأكيد على رسالة العيش المشترك والمواطنة المؤسَسة على المحبّة والتسامح والمساواة في الكرامة والحقوق والواجبات الدينية والوطنية.

وألقى كلمة الوفد المسؤول الإعلامي للمجلس الاب إيلي نخّول المرسل اللبّناني، أشار فيها إلى الاعمال الارهابية الموجّهة مباشرةً لضرب الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، لزرع بذور الفتنة بين المسيحيين والمسلمين. كما دعا الاب نخّول إلى مواجهة حرب العلمانية المُلحِدَة والداعية إلى تفريغ الاديان السماوية من مضمونها ورسالتها الساميّة، وعرض للتحدّيات والقضايا الاخلاقية المُنافية للتعاليم السماوية وكيفية مواجهتها في أستراليا والعالم، بيدٍ واحدة كمسيحيين ومسلمين.

ومن جهته أكدّ فضيلة الشيخ الطيّب على مواصلة الأزهر الشريف في الدفاع عن الحرية والمواطنة والتنوّع الكامل لإظهار الصورة الحقيقية لوجه مصر الحضاري.وإذ شكر الامام الاكبر الشيخ الطيّب وفد مجلس رؤساء وممثلي الكنائس الشرقية في أستراليا ونيوزيلندا، على قدومه إلى مصر ووقوفه إلى جانب شعب مصر بمسيحييه ومسلميه، أكدّ أيضاً على جهود الأزهر الشريف في مكافحة العنف والتطرّف والعمل على مراقبة الخطاب الديني الذي يواجه الافكار الشاذّة والخارجة عن سماحةِ الاديان.

هذا والتقى وفد المجلس مع فضيلة الشيخ الدكتور عباس شومان وكيل الازهر الشريف، الذي كشف عن إقامة مشيخية الازهر مرصداً إلكترونياً لرصدِ تعاليم داعش الذين يلعبون على العاطفة الدينية وإعداد الردود على هذه الشبهات المُضلّلة لتشويه صورة الإسلام الحقيقية.

وفي الختام، قدّم الوفد كتاباً من خشب الأرز حُفِرَ عليه آية قرآنية عن العذراء مريم من سورة آل عمران. وبدوره، قدّم المطران جوليان بورتيوس، رئيس اساقفة هوبارت للاتين في أستراليا، هديةً عبارة عن صندوق خشبي يتضمّن جذوراً لشجرة قديمة من شجر تزمانيا التاريخي.

الرئيس السيسي يؤكد امام وفد مجلس أساقفة أستراليا ونيوزيلندا للكنيسة القبطية الاورثوكسية:  لن نترككم!

قام وفد مجلس الكنائس الشرقية الرسولية في أوستراليا ونيوزيلندا، بزيارة رئيس جمهورية مصر العربية فخامة الرئيس عبد الفتّاح السيسي، في القصر الرئاسي في القاهرة، ونقل إلى فخامته تهاني المجلس لمناسبة شهر رمضان المبارك، شهر الصوم والغفران والفضيلة والسماح.

وعبّر المجلس له عن تضامنه مع شعب مصر الحبيب في الظروف العصيبة التي تمرّ بها البلاد هذه الفترة نتيجة سلسلة الاعمال الارهابية، التي تعرّض لها أبناء هذا الوطن من مسيحيين ومسلمين على الاراضي المصرية كافّة.

وأكدّ المجلس دعمه لفخامته ولشعب مصر الحبيب باسم أبناء الكنائس الرسولية الشرقية في أوستراليا. وقد ألقى كلمة الوفد سيادة المطران أنطوان شربل طربيه راعي أبرشية الموارنة في أوستراليا، أكدّ فيها على دور مصر الحضاري وقيَم الحرية والعيش المشترك التي يتمتّع بها هذا الوطن، وأشاد بدور الرئيس السيسي وحكمته في قيادة البلاد نحو برّ الامان في وجه المؤامرات التي تُحاك من أجل إيقاع الفتنة فيها مع التفجيرات والاعمال الارهابية التي أصابت المسيحيين الاقباط والمسلمين أيضاً.

وتوجّه الرئيس السيسي إلى الوفد بكلمة رحّب فيها بزيارة الوفد وشكره على تضامنه مع شعب مصر ودعمه لمؤسساتها، وأكدّ للوفد أنّ الاعمال الارهابية الحاصلة ليست ضدّ المسيحيين، إنّما ضدّ الوحدة الوطنية في مصر، ولإثارة النعرات والفتنة بين أبناء الأمّة الواحدة، كما أكدّ السيسي أمام الوفد متوجهاً إلى أساقفة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية قائلاً:" نحن لن نتككم".

كلمة صاحب السيادة المطران أنطوان-شربل طربيه خلال لقاء الأساقفة الاوستراليين مع فخامة الرئيس عبد الفتاح السيسي 

فخامة الرئيس عبد الفتاح السيسي،
أصحاب السيادة الأساقفة،
1. إنه لشرف كبير أن نكون اليوم في رحاب رئيس تاريخي لبلد ساهم بصناعة التاريخ العالمي وكان المهد لحضارات عظيمة أغنت الإنسان والانسانية. إنها لفرحة كبيرة أن نكون في مصر، بلد الكِنانة والمجد، والذي يعني الكثير للعالم أجمع خصوصاً للكنيسة وللمسيحيين، وهذا ما عبّرت عنه الزيارة التاريخية للبابا فرنسيس في نهاية شهر نيسان الفائت والتي قال فيها أن أرض مصر المباركة تعني الكثير لتاريخ الانسانية لأنها أرض الفراعنة والأقباط والمسلمين.
2. جئنا من اوستراليا، هذا البلد البعيد بالمسافة عن شرقنا ولكنه القريب والقريب جداً منه في إنسانه وأوجاعه وآلامه وتطلعاته وحاجاته الأساسية. ورغم ان اوستراليا هي بلد جديد نسبياً إلا أننا نفاخر بحضارته ورقي انسانه، لأنه أصبح اليوم عنواناً للتناغم بين مكوّنات المجتمع ونموذجاً للتعددية الاجتماعية التي يشكّلها أكثر من مئتي جالية يتكلمون اكثر من 150 لغة مختلفة.
3. لا نخفي عليكم فخامة الرئيس ان الاوضاع الأمنية الغير مستقرة في مصر، ومسلسل التفجيرات الارهابية الأخير ضد المسيحيين الأقباط وغيرهم، لا يشجع الكثيرين على زيارة مصر، ولكن بما أنكم أنتم على رأس الدولة وانطلاقاً من مواقفكم الشجاعة والتي عبّرتم عنها خلال زيارة قداسة البابا فرنسيس حين قلتم: "إن مصر تقف في الصفوف الأمامية لمواجهة الارهاب والارهابين"، لم نتردد في المجيء والتضامن معكم، وتقديم التعزية لكم ولقداسة البابا تواضروس ومواساة عوائل الشهداء، أبناء الكنيسة القبطية الجريحة. وقد شعرنا ومنذ اللحظة الأولى وكأننا قي بلدنا، لأن مصر كانت ولا تزال وسوف تبقى أم الدنيا.
4. إن وحدة الشعب المصري اليوم تتطلب جهوداً داخلية ودولية حثيثة، وهذا ما نريد أن نؤكد عليه ونسعى معكم فخامة الرئيس ومع كل أصحاب الإرادة الصالحة لإنجازه، لأن "كل مملكة او دولة تنقسم على نفسها تخرب" (متى 12: 25). فالكثيرون يرون في شخصكم القائد التاريخي والرئيس الحقيقي لكل المصريين دون تفرقة، لأنكم تشاركون شعبكم أحزانهم وتضمّدون جراحهم، وتسعون لمشاريع انمائية وحياتية أساسية لنهضة مصر وتقدمها. وأمام العنف والتدمير، نراكم تعدون باعادة بناء كل الكنائس التي تهدمت او أحرقت، معتبرين أن أوجاع كل مصريّ هي أوجاعكم وما أصابهم يصيبكم في الصميم.
فخامة الرئيس،
5. إن الخطر الأكبر الذي يواجه الوطن العربي بأجمعه، كما قال صاحب الغبطة والنيافة البطريرك الكاردينال ما بشاره بطرس الراعي الكلّي الطوبى في مؤتمر الأزهر ومجلس حكماء المسلمين في فبراير/ مارس 2017، هو التراجع في مبدأ العروبة والمواطنة حيث نشهد اليوم في بعض دول وطننا العربي مظاهر إقصاء أو محو أو طمس لحقّ أحد مكوّناتها بالوجود والمشاركة الفاعلة... فنرى مجموعات كبيرة تتنكر لعروبة غيرها، وترفض مواطنيتهم.
6. وفي نفس الاطار، نحن نرى أنّ الحرب في منطقة الشرق الاوسط، والتي ترتدي أحياناً وجوهاً مختلفة إنما هي في الأساس حرب على التعدّدية الاجتماعية والتنوّع الديني والتبادل الثقافي والحضاري، يسعى من يخطط لها إلى قيام دول عنصرية، شمولية وآحادية. إن التعددية كانت ولا تزال مصدر غنى وإنماء للمجتماعات المتقدمة وليست سبباً للاختلاف والتقاتل. والسّؤال الّذي يطرح نفسه، هل يمكن أن يستمر وأحيانًا دون حسيبٍ أو رقيب، كلّ الّذين ينادون بالمساواة والتسامح تجاه الآخرين ولكنّهم بالحقيقة يمارسون أو يحرّضون على الإرهاب والقتل ورفض الآخر المختلف في دينه وايمانه وطريقة عيشه. إنّه من المستحيل انسجام الايمان الحقيقي بالله مع أعمال الإجرام وإراقة الدماء. إن ثقافة السلام وتثبيت السّلم الأهلي الذي تتوق اليه اليوم شعوب ودول منطقة الشرق الأوسط لا يمكن ان يجد طريقه من دون تأمين الحرية الدينية كشرطٍ أساسيّ للسلام وترقّي الشّعوب، لأن البركة تحلّ ليس على محبّي السلام انما على صانعي السلام وأنتم منهم يا فخامة الرئيس.
7. إن أزمة التطرّف والإرهاب التي يعاني منها عالم اليوم تنتظر بزوغ فجرٍ جديد يطلق أنوار ثورة جديدة، ثورة الإسلام الحقيقي على الإسلام الزائف الأصولي الإرهابي. والأنظار تتّجه إليكم فخامة الرئيس وإلى شعب مصر الأبيّ لأخذ مبادرات تاريخية من هذا النوع، فتبرهِنوا مرة جديدة للعالم عن وحدة مصر وحضارتها، وعن رفض أبنائها لكل أنواع الإرهاب خصوصاً الإرهاب الديني.
وفي الختام،
8. أجدد شكري العميق لكم فخامة الرئيس لأنكم أفسحتم لنا الفرصة للقاء بكم، وإلى جانب إخوتي الأساقفة، أصحاب السيادة، المطران روبير رباط راعي أبرشية الروم الملكيين الكاثوليك في اوستراليا ونيوزيلاندا، وهو ايضاً رئيس مجلس أساقفة وكنائس الشرق الأوسط في أوستراليا، ومع المطران الأنبا دانيال راعي أبرشية الأقباط الأرثوذكس في ولاية نيو ساوث ويلز، ومع المطران جوليين بورتيس، رئيس أساقفة تزمانيا في الكنيسة الكاثوليكية اللاتينية، ومع المطران هيغازون نجاريان راعي أبرشية الأرمن الأرثوذكس في اوستراليا والمونسنيور باسيل صوصنيا النائب البطريركي للأرمن الكاثوليك في اوستراليا والأب ايلي نخول المسؤول الاعلامي لوفدنا، أريد باسمهم  أن أعبّر لكم عن محبتنا لمصر وشعبها العريق، وعن دعمنا لمسيرتكم وعن تقديرنا لمواقفكم الحكيمة والنبيلة،  طالبين من الله عزّ وجلّ أن يحفظكم ويعضدكم كي تتابعوا قيادة سفينة الدولة إلى برّ الامان والاستقرار والازدهار. وشكراً.

كلمة الأب الدكتور إيلي نخول، النائب الأسقفي والمسؤول الإعلامي لمجلس رؤساء وممثلي الكنائس الشرقية في أستراليا ونيوزيلاند خلال لقاء فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر الشريف الدكتور أحمد الطيب


فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر الشريف الدكتور أحمد الطيب الجزيل الإحترام،
جانب مجلس حكماء المسلمين في الأزهر الشريف المحترمين،
حضرة السادة الأساقفة السامي احترامهم،
الآباء الأجلاء،
تحية أخوية صادقة وبعد،

أود أولا أن أشكر فضيلتكم على استضافتكم الكريمة لوفد مجلس رؤساء وممثلي الكنائس الشرقية في أستراليا ونيوزيلاندا، في زيارتهم التاريخية هذه إلى الديار المصرية، للوقوف إلى جانبكم وإلى جانب شعب مصر الحبيب، وللتعبير له عن تضامننا مع آلامه الناتجة عن ضربات الإرهاب والتطرف الديني، ولكن أيضاً لشكر الله على نعمه المكوّنةِ لنسيج المجتمع المصري والمتجليةِ برسالة العيش المشترك المصان تحت مظلة الإيمان بالله وبتعاليم مضامين وحيه، وبالمواطنة المؤسسة على المحبة والتسامح والمساواة في الكرامة والحقوق والواجبات الدينية والوطنية. وأشكر أعضاء الوفد على ثقتهم بي في انتدابي لألقي بالنيابة عنهم كلمته في هذا المقام الشريف والمرجع الديني الحنيف لملايين المسلمين السنّة في مصر والعالم.
تأتي زيارتنا اليوم، بعد سلسلة أحداث عاشتها مصر الحبيبة في الشهرين الاخيرين. منها ما هو مؤلم ومحزن ومنها ما هو مفرح وواعد بالخير والمستقبل الافضل.

1. المؤلم تجلى بسلسلة أعمال عنف وإرهاب متكررة، في خلال فترة زمنية قصيرة، أصابت الحجر والبشر وأوقعت الخسائر المادية الفادحة وتسببت بسقوط عددٍ كبيرٍ من الضحايا البريئة من مسيحيين ومسلمين، أقل ما يقال فيها بأنها أعمال وحشية حاقدة ومتهورة، جبانة وفاشلة. وكانت جميع تلك الأعمال الإرهابية موجهة مباشرة لضرب الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، أي مؤمني الجماعة المسيحية المشرقية الإفريقية العربية الأقوى في المنطقة عدداً ونفوذاً وتأثيراً على محيطها الإسلامي، ربما لتوجيه رسائل سياسيةٍ معروفة بحسب بعض المحللين، أو ربما لأسباب دينية على خلفية تكفيرية لزرع بذور الفتنة بين المسيحيين والمسلمين، بحسب تحليل البعض الآخر، ولكن مهما تنوعت واختلفت التحاليل والتكهنات، فالمتضرر الأول والأكبر في النهاية من كل هذه الأعمال الإرهابية هي مصرُ وطن الحريات وثقافةِ العيش المشترك، ووحدةُ مصرَ كياناً وشعباً ومؤسسات.
2. أما المفرح، من جهة أخرى، فقد تجلى من خلال ثلاثة أحداث تاريخية بالغة الأهمية: الأول هو المؤتمر الدولي بعنوان "الحرية والمواطنة، التنوع والتكامل" والذي عقده الازهر الشريف ومجلس حكماء المسلمين في القاهرة ، من 28 فبراير إلى 1 مارس، بمشاركة أكثر من 50 دولة، وسط اهتمام دولي كبير، برعاية رئيس البلاد وتضمن مداخلات قيمة من محاضرين مسيحيين ومسلمين، أعطت الصورة الحقيقية لوجه مصر الحضاري، مصر الإنفتاح وأرض الحرية والحضارة العريقة التي تسع لجميع الناس إلى أي دين أو ثقافة انتموا. والحدث الثاني هو الزيارة التاريخية لقداسة البابا فرنسيس إلى مصر في 28 أبريل الماضي لمدة يومين شارك في خلالها بالمؤتمر العالمي للسلام الذي نظمه الأزهر الشريف والتقى بفضيلتكم وذلك بعد مرور شهرين من اعلان استئناف الحوار بين الازهر والكرسي الرسولي والذي كان قد توقف لسنوات. والحدث التاريخي الثالث يتمثل بالقرار الذي اتخذتموه فضيلتكم في الثالث عشر من شهر مايو الحالي، كنتيجة عملية للحدثين التاريخيين السابقين، تشكيلَ لجنةٍ لإعداد مشروع قانون لتجريم الحضّ على الكراهية والعنف باسم الدين، وذلك في إطار جهود الأزهر الشريف في مكافحة العنف والتطرف، والعمل على نشر الخطاب المستنير ومواجهة الأفكار الشاذة والخارجة عن سماحة الاديان، ونشر ثقافة التسامح والأخوة بين الناس ومنع كل ما من شأنه إثارة الاحقاد والكراهية بين أبناء الوطن الواحد.

وما زيارتنا إلى أرض مصر اليوم، وإلى هذا المقام الشريف بالتحديد، سوى انضمام وتكملة لتلك الاجواء الخيّرة والإيجابية التي أثارتها الاحداث المذكورة أعلاه، ولنقف إلى جانب شعب مصر بمسيحييه ومسلميه، ولنعلن له بإيمان وثقة بأن الحقيقة ليست في ما يشاع بل في ما يعاش بإيمان وأمانة لإرادة لله. وندعو العائلات المسيحية والمسلمة، إلى أن تعيش معاً قيم العيش المشترك أي الإحترام المتبادل لحرية معتقد كلّ منهما، والتعاون البناء بينهما بثقة وأمانة، والمحبةَ المتسامحة والبعيدة عن تكفير الواحدة للأخرى لا ضمناً ولا جهاراً.

جئنا اليوم لنضع يدنا بيدكم، لنقف معاً في وجه الشيطان الرجيم، أب الكذب والكذابين، مصدر كل شر مبين، الشيطان الذي جرّ على مدى التاريخ مسيحيين ومسلمين ويهود ولا أدريين وملحدين إلى أعمال إرهابية وحروب عالمية راح ضحيتها الملايين. والشرير الكامن دوماً وراء تلك الاعمال، يحاول اليوم مجدداً أن يتخفى ويتهرب من مسؤوليته كمصدر أول عن إشاعة الكذب والترهيب وقتل الناس، من خلال حصر تهمة الإرهاب بالإسلام والمسلمين، وخلق جو من الإسلاموفوبيا العالمية، مع العلم أن الإرهاب هو عمل شرير مورس أيضاً على مدى التاريخ وبأوجه شتّى من قبل المسيحيين واليهود وغيرهم وأوقع الضحايا بالملايين. ويؤسفنا أن نرى العالم في طواطىء مستمر مع الشرير، درى أو لم يدرِ، من خلال الدعوة إلى تهميش الأديان ونعتها بمخدّر والشعوب والتشكيك بمصداقيتها، ومن خلال اللجوء إلى زيادة التسلح وتطوير مصانع الموت، كما تسمونها، بحجة مواجهة الشر والإرهاب، بشر أكبر وأسوأ. وكلما أدرك العالم في العمق فشله في مواجهة الشر عن طريق التسلح، كلما ازداد عناداً في مقرراته الطائشة، كما تصفونها، بحجة صنع السلام.

إذا شاركنا في الحرب على الإرهاب من وجهة النظر التي يفرضها علينا عالم اليوم وحسب، فإننا بذلك سننضم إلى معركة خاسرة. تكون معركتنا ضد العنف والإرهاب رابحة إذا قمنا بما يطلبه الله منا أي محاربة الإرهاب والتطرف وإدانته، والعمل على ارتداد قلب الإنسان وضميره وتنقية الخطاب الديني لدى رجال الدين، إلى إي ديانة انتموا، من مضمون التخوين والتكفير والحض على الكراهية والعنف وحتى هدر الدماء باسم الله. وكلنا ثقة بأن مشروع القانون الذي يعده الأزهر الشريف في مواجة التطرف وتجريم الحضّ على الكراهية والعنف، ليس سوى مسعى لمراقبة ومحاسبة جميع من يفسرون العقيدة ويرشدون الناس في الإتجاه الخطأ. معركتُنا ليست مع لحم ودم، بل هي معركة مع الفكر المُضَلِّـلِ والمُضَلَّـلِ ومع العقيدة المُظَهَرَة باسم الله على حجم غايات الناس، بدل أن تكون شرحاً أميناً صادقاً لإرادة الله في خلقه.

جئنا اليوم أيضاً لنضع يدَنا بيدكم لمواجهة حرب العلمانية الملحدة والداعية إلى موت الله وتفريغ الأديان السماوية التي تؤمن به، من مضمون وعلّة وجودها. نواجه اليوم في استراليا مثلاً، مسيحيون ومسلمون، تحديات كبيرة ومعارك طاحنة لمواجهة قضايا أخلاقية منافية لتعاليمنا السماوية ومنها: زواج المثليين وتغيير مبدأ مفهوم الزواج نفسه في التشريع العام، تسهيل مسببات تشريع الإجهاض في أي وقت تختاره الأم في فترة الحمل، توجيه الأطفال في المدارس على عدم التمييز بين ذكر وانثى وتشجيعهم على عيش الخيار الذي يرتاحون إليه بان يكونوا ذكوراً أو إناثاً، التشجيع على الموت الرحيم والتخفيف من الاسباب التي تمنعه، وغيرها الكثير من القضايا التي اجتمعنا في سبيل مواجهتها منذ فترة مع المراجع الإسلامية في سيدني، وأصدرنا بياناً مشتركاً لرفض هذه التعاليم والتوجهات. ولا يمر اسبوع لا نطلب فيه من مؤمنينا توقيع العرائض على أبواب الكنائس لمنع مرور هذه القوانين أو تلك. العالم الملحد يسعى إلى إضعافنا وتشويه صورتنا ليمنع تعاليمنا من أن تصل إلى الناس في سبيل خيرهم وخلاصهم. ألا يكفينا ما نتعرض له من اضطهاد الفكر الإلحادي لنا، حتى نزيد عليه، ومن دون أي مبرر منطقي أو إلهي، معارك التكفير على بعضنا واضطهاد أبناء أمتنا لمجرد أن الآخر نصراني أو سني أو شيعي أو يهودي؟

أخيراً، يا فضيلة الشيخ الجليل، جئنا نضع يدنا بيدكم اليوم رافعين معكم الصلاة إلى الله من أجل بناء السلام المتزعزع في النفوس والضمائر وبين الشعوب ونحن موقنون بأن الخير سيغلب على الشر وستكون الكلمةُ النهائية له. وكلنا ثقة بمرجعيتكم الحكيمة ومرجعية فخامة رئيس البلاد وكل المرجعيات الحكومية والسياسية والأمنية والعسكرية والأهلية التي لم ولن توفر جهداً لجمع شمل أبناء هذا الوطن الغالي، وتثبيت النموذج المصري المميز لبيت العائلة المصرية الذي يضم في عضويته إلى جانب الازهر الشريف جميع الكنائس المصرية المقدسة. ولم تألوا جهداً، فضيلتكم، بالدعوة إلى حذف مصطلح الاقليات واستبداله بالمواطنة الذي يساوي بين جميع المواطنين المصريين. وهذه كلها خطوات جبارة تقومون بها مع معاونيكم الأفاضل في طريق إرساء قيم السلام في مصر والعالم. ولا يسعنا إلا أن نضم صوتَنا إلى صوت من قال عن فضيلتكم: "إن الإمام الأكبر أصبح أيقونة عالمية للسلام."

عشتم وعاشت الحرية، وعاش الحق والسلام، وعاشت مصر.
وتفضلوا بقبول عواطف المحبة والمودة والسلام.