طرابلس ـ
منح رئيس الجمهورية اللبنانية العماد ميشال عون، ممثلا بوزير الدولة لشؤون رئاسة الجمهورية الدكتور بيار رفول، وسام "الأرز الوطني من رتبة كومندور"، الى رئيس أساقفة ابرشية طرابلس المارونية المطران جورج بو جوده، لمناسبة يوبيله الكهنوتي الذهبي، خلال احتفال اعدته ابرشية طرابلس المارونية في كنيسة مار مارون في طرابلس، برعاية البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي ممثلا بالنائب البطريركي المطران حنا علوان، وبحضور عدد من المطارنة، ولفيف من كهنة الابرشية، اضافة الى حشد واسع من السياسيين، وممثلي رؤساء الاحزاب السياسية، وفعاليات دينية، اجتماعية، اقتصادية، نقباء المهن الحرة، محافظون، وقائمقامون، رؤساء اتحادات البلديات ورؤساء بلديات ومختارين، وجمع غفير من ابناء ابرشية طرابلس المارونية.
تراس القداس المحتفى به المطران جورج بو جوده، الذي القى عظة بعد الانجيل المقدس قال فيها:" إنّ حبّة الحنطة التي تقع في الأرض، إن لم تمت، تبقى وحدها". لقد جاء المسيح ليُخلّص الإنسان من قوّة الشرير ويعيد إليه صورة الله التي شوّهها بالخطيئة. جاء ليعيده إلى الفردوس، وهو حالة السعادة التي فقدها بإبتعاده عن الله ورفضه وبإرادته أن يبني ذاته بدون الله وضدّه. وهو بالتالي يريدنا، من خلال تعليمه الذي يتناقض مع منطقنا البشري، أن نعرف كيف نحافظ على سلّم الأولويّات، فلا نكتفي بالتوقّف عند القشور والسطحيّات ونسعى إليها، وننسى أو نتناسى الجوهريّات والأمور الأساسيّة.
اضاف:" انتميت الى جمعية مار منصور منذ طفولتي وفيها تنشّأتُ وتابعت دروسي الفلسفية واللآهوتية، فإطّلعتُ على الأوضاع والظروف التي عاشها القديس منصور، ورأيت أنّها تجسّد الواقع الذي تعيشه الكنيسة في الشرق الاوسط عامة وفي لبنان خاصة وسمعت الرب يقول لي: لستَ أنتَ من إخترتني، بل أنا إخترتك للعمل على تبشير المساكين والفقراء ولتكريس حياتك لخدمتهم مادياً وروحياً، فاتّخذت شعاراً لكهنوتي قول النبي آشعيا الذي سمع الرب يقول: من أُرسِل، فأجابه ها أنذا فأرسلني، وأضفتُ الى هذا الشعار كلاماً من بولس الرسول الى أهل قورنثية يقول: أمّا أنا اذا بشّرتُ، فليس لي في ذلك مفخرة لان ذلك واجب ملقى عليّ والويل لي إن لم أبشّر.
وقال:" أمّا إختياري ليوم عيد القديس مارون لسيامتي الكهنوتية، وأنا عضو في جمعية رهبانية لآتينية، فذلك تأكيد مني لتعليم القديس منصور الذي كان يقول إنّنا نحن اللعازريين من جمعية القديس بطرس، أي من جمعية الكنيسة الجامعة، لا نمّيز بين كنيسة شرقية وكنيسة غربية، فإنّ الكنيسة هي كنيسة المسيح، ومن أجل ذلك أرسل منصور إخوته الكهنة الى مختلف البلدان، وصولاً الى مدغشقر وافريقيا الشمالية وحتى الى الهند، وفكّر بإرسالهم الى لبنان، لكن ذلك لم يتم على أيامه، بل بعد ذلك بفترة من الزمن. وختم:" إنّني اليوم، ونحن نحتفل بعيد أبينا مارون، وبمناسبة إحتفالي بالذكرى السنويّة الخمسين لسيامتي الكهنوتيّة، أطلب من الرب أن يعطيني شيئاً من روحانيّة مار مارون ومن روحانيّة القديس منصور واطلب منهما ان يتشفعا بنا كي نعيش التزامنا الايماني والوطني والرسولي بصورة صحيحة وعلى مثالهما، كي نعمل قدر المستطاع في خدمة القفراء وفي حمل كلمة الله للاخرين، في زمن هو بامس الحاجة الى المسيح والى محبته للجنس البشري. واطلب منكم بصورة خاصة الصلاة من اجلي كي ابقى امينا للرسالة التي اختارني لها الرب.
في ختام القداس تلا القائم باعمال السفارة الباباوية المونسنيور ايفان سانتوس رسالة الحبر الاعظم البابا فرنسيس باللغة اللاتينية جاء فيها:" "بصفتنا القائمين في المرتبة الرسولية العليا، رأينا من واجبنا، وبغيرة، اكرام الرعاة لغيرتهم وعملهم المثمر، والذي نحاول ان نتبعها نحن ايضا. ايها الاخ الوقور، ولمناسبة الاحتفال باليوبيل الذهبي لسيامتكم الكهنوتية في التاسع من شباط عام 2018 نرسل اليكم هذه الرسالة، نهنئكم فيها على عملكم وجهدكم الرسولي وغيرتكم كي نظهر لكم ولذوييكم تقديرنا". وتابع:" بعد ابرازكم النذور النهائية في جمعية الرسالة سنة 1968 اضيف اليها الكهنوت مع غيرة وجهد كبيرين من اجل خير النفوس، خاصة بتقديم العزاء الروحي كمدير للمدرسة في جمعيتكم في بيروت، وانتخابكم رئيسا اقليميا عليها، وممارسة العمل في الاكليريكية الكبرى في طرابلس لبنان، بهمة ونشاط وكمدرس للناريخ وتعليم الكنيسة الاجتماعي".
وقال :" نظرا لهذه الخبرة والنشاط، رفعكم سلفنا بنديكتوس السادس عشر الى رتبة اسقف على ابرشية طرابلس المارونية، التي من خلالها عرف فيكم الشعب المؤمن الفطنة، وكلفكم سينودوس البطاركة والاساقفة الكاثوليك في لبنان الاهتمام بالمهجرين والمشردين وحاجاتهم". وختم:" يهمنا في هذه المناسبة، التذكير بغيرتكم التي ميزت على مر السنين خدمتكم الاسقفية، كعلامة لوداعة الرب خاصة في اسلوب الاحتفال بالذبيحة الافخاريستية وتاثيرها من اجل خلاص الشعب. لك اذا، ايها الاخ الوقور نقدم تهانينا على نشاطك الذي قمت به في كرم الرب، ونتوسل الى الله ان يضاعف فيكم عطاياه ويجعل يوم احتفالكم بهيا مثمرا، ويمنحكم بعملكم وما بزرتم في ارض الانجيل ثمارا على الدوام. لذلك نرغب ان ترافقكم بركتنا الرسولية التي نوسعها على الحاضرين ابنائنا الموارنة الاعزاء في طرابلس، وعليكم ان تشركوا فيها جميع الحاضرين الذين نطلب صلواتهم لكي نتمم بهمة وحكمة مهمة بطرس الرسولية".
بعد القداس اقيم في قاعة كنيسة مار مارون حفل خطابي تكريما للمطران بو جوده، بمشاركة حشد واسع ضاقت بهم قاعة الرعية، استهل بالنشيد الوطني اللبناني، من ثم عرف بالاحتفال الاعلامي الزميل جو لحود، بعده تلا المطران علوان ممثلا البطريرك الراعي البركة الرسولية البطريركية وجاء فيها:" البركة الرسوليّة تشمل سيادة أخينا المطران جورج بو جوده، رئيس أساقفة طرابلس وكهنتها ورهبانها وراهباتها وسائر أبنائها وبناتها المؤمنين الأحباء. عيدُ أبينا القديس مارون يحمل معه في هذه السّنةرونقًا جميلًا، لأنّكأيّها الأخ الجليل المطران جورج، تحتفل بيوبيلك الكهنوتي الذّهبي، ومن حولك أبناء الأبرشيّة وبناتها. ففي مثل هذا اليوم من سنة 1968 رُفعتَ إلى درجة الكهنوت المقدّس، وفي قلبك شعلة متّقدة.
فإنّا ننضمّ إليكم في بهجة العيدَين، عيد القديس مارون وعيد يوبيلك الكهنوتي، ومعكم نرفع ذبيحة الشّكر لله على الخمسين سنة من حياة كهنوتيّة غنيّة بفضائلها وعطاءاتها المتنوّعة في مختلف محطّاتها ولاسيّما في جمعيّة الآباء اللّعازريّين مكرّس وكاهن، وفي سنوات خدمتك الأسقفيّةالتي بدأت منذ اثنتَي عشرة سنة.
ولا بدّ من أن نتذكّر معك، أيّها الأخ الحبيب، الأساس المزدوج الذي بُنِيَ عليه كهنوتك. الأوّل في تربيتك المسيحيّة والأخلاقيّة في البيت الوالدي، في جورة البلّوط العزيزة، وقد عرفت شخصيًّا بيتكم وعائلتكم، عندما كنت أتردّد إلى الرعيّة ككاهن راهب لإحياء رياضات الصوم، أثناء خدمة المرحوم الخوري فيليب العلم. والثاني، حياتك المكرّسة في الجمعيّة العزيزة التي زرعتْ في قلبكم محبّة الفقراء ومحبّة الإنجيل والرسالة.
وإذ ننظر معك إلى الخمسين سنة التي خلت من حياتك الكهنوتيّة في الجمعيّة وفي الخدمة الأسقفيّة، نرفع نشيد المزمور: "لا لنا يا ربّ، لا لنا، لكن لاسمك أُعطِي المجد" (مزمور 115: 1).
إنّ جمعيّة الآباء اللّعازريّين تُفاخر بانّها أعدّتك للدعوة الأسقفيّة والرسالة، من خلال ما أمّنت لك من دروس فلسفية ولاهوتية وعلوم إجتماعية في جامعات بيروت وباريس، وما أَسنَدَت إليك من مهام ومسؤوليّات إداريّة ورهبانيّة وكنسيّة ورسوليّة. هذا ما جعلك تجوب برسالة الإنجيل في مختلف المناطق اللبنانيّة، وبخاصّة في أبرشية طرابلس، التي كانت تعدّك العناية الإلهيّة لتكون لها أسقفًا، رأسًا وأبًا وراعيًا. فدخلتَها من بابها الواسع، معروفًا من الجميع ومحبوبًا.
وهكذا وصلت خدمتك الكهنوتيّة إلى ملئها كأسقف في شباط 2016. فرحت باندفاع جديد تواصل خدمتك للأبرشيّة العزيزة، كبنّاء حكيم، وراعٍ حليم، ورسول غيور. فوجدت المؤازرة المُحبّة من الكهنة والرّهبان والرّاهبات والمؤمنين والمؤسّسات.
وها نحن اليوم، في عيد أبينا القدّيس مارون، بعد خمسين سنة من حياة كهنوتيّة رسوليّة، نرفع معك ذبيحة الشّكر للآب الّذي ظلّلك بمحبّته، وللابن الّذي قدّسك بنعمته، وللروح القدس الّذي أذكى في قلبك شعلة المحبّة للمسيح والكنيسة والنّفوس.
ثم القى مطران نانسي بابان كلمة باللغة الفرنسية جاء فيها:" انها لفرحة لي ولوفد ابرشية نانسي ان نكون هنا في طرابلس للاحتفال معكم بيوبيلكم الكهنوتي الذهبي، وبالذكرى الثانية عشر لسيامتكم الاسقفية وتنصيبكم على كرسي ابرشية طرابلس المارونية. نحن تعرف مدى تعلقكم بفرنسا حيث امضيتم سنوات عديدة اثناء تنشئتكم ككاهن عازاري، وقد دفعكم حبكم لفرنسا الى طلب الجنسية الفرنسية التي تحملونها اضافة الى جنسيتكم اللبنانية. ان ارسالكم كهنة وطلابا اكليريكيين الى فرنسا يعبر اولا عن تعلقكم ببلدنا وثانيا عن التزامكم بتفعيل العلاقة مع ابرشية نانسي وتول".
اضاف:" انتم تنتمون الى جمعية الرسالة التي اسسها منذ حوالى الاربعمئة سنة القديس منصور الذي كان يجمع بين الرسالة والالتزام تجاه الاشد فقرا كما يدعونا وبالحاح البابا فرنسيس. لقد اثر جدا انتماؤكم الى جمعية الرسالة على خدمتكم الاسقفية وعلى خدمتكم الكهنوتية طيلة خمسين سنة. وكنتم وما تزالون ذلك المرسل الذي يسعى لايقاظ التقوى لدى المسيحيين وخاصة تجاه الشبية كي يكونوا قدوة ومرسلين بحسب تعبير البابا فرنسيس، وقد اوليتم انتباها كبيرا لجميع ابناء هذه المنطقة من دون تمييز ديني او طائفي وشجعتم على الحوار بين الاديان".
وتابع:" حضورنا اليوم بينكم هو تعبير عن عشرين سنة من العلاقة بين ابرشيتنا حيث بدأ التواصل بيننا منذ الايام العالمية للشبيبة في باريس، وقد اختيرت ابرشية نانسي لاستقبال خمسين شابا وشابة لبنانية من ابرشية طرابلس المارونية، ولاحقا استقبلتم في ابرشيتكم في لبنان وفدا كبيرا من نانسي وعشنا اسبوعا بينكم غنيا بالخبرات بفضل الزيارات التي قمنا بها".
وختم مهنئا المطران بو جوده ومتمنيا له مزيدا من الصحة والنشاط لاكمال رسالته الرعوية.
من ثم تحدث الزائر الاقليمي للاباء اللعازاريين في الشرق الاب زياد حداد فقال:" أبصر النور في 27 كانون الأوّل 1943 في جورة البلوط بالقرب من برمانا، في المتن (لبنان). اختار جورج بو جودة، وبسنّ مبكرة، أن يكرّس نفسه لخدمة الربّ. فقُبل في الاكليريكية الصغرى التابعة لجمعية الرسالة المعروفة بجمعية الآباء اللعازريين في فرن الشباك – بيروت. بعد بضع سنوات سافر الى داكس في فرنسا لمتابعة تنشئته في الجمعية التي اسّسها القديس منصور دي بول سنة 1625، ليعود بعد ذلك ويتابع دروسه الفلسفية واللاهوتية في جامعة القديس يوسف للآباء اليسوعيين في بيروت.
سيم كاهناً في 9 شباط سنة 1968، يوم عيد القديس مارون. رافق الاكليريكيين اللعازريين في تنشئتهم وذلك تحت اشراف الأب فريد جبر اللعازري. وككاهن استطاع أن يستسلم لشغفه: التبشير بكلمة الله في القرى المسيحية النائية، في لبنان وفي سوريا. ومنذ ذلك الحين، راح يتنقّل، على مثال المرسلين اللعازريين الذين رافقهم فترة شبابه، بين القرى مدرّباً الاكليريكيين على هذه الرسالة. وفي قلب جماعته، تعهّد مرافقة حركات شبابية. وحين انتسب الى الجامعة اللبنانية، لمتابعة دراسة العلوم الاجتماعيّة، بدأ يهتمّ بالعمل الرعوي الجامعي، حيث بذل جهدأ ليحمل كلمة الانجيل في وسط يسيطر عليه، وبقوة، الفكر الماركسي. تعرّض للمحاربة من قبل الكثيرين، وحاولت عدة مجموعات هزمه، خاصة بعد أن اجتمع حوله عدد من الطلاب الذين ساعدهم على اكتشاف طريق يسوع المسيح. شكّل هؤلاء الطلاب معه، نواة ما عرف فيما بعد، بحركة المرسلين العلمانيين المنصوريين، التي تهدف الى تأمين خدمة رعوية ورسولية في القرى، وإلى مساندة كهنة الرعايا في خدمتهم الرعوية خلال بعض الفترات من السنة، وإلى تأمين التعليم المسيحي للمؤمنين والعمل على تعزيز دور المرأة.
بعد تعيينه رئيساً لرسالة الآباء اللعازريين في مجدليا- لبنان الشمالي، رافق طلاب الاكليريكية الصغرى، ووضع كلّ الامكانات المتوفّرة لتقوية الفريق الرسولي العلماني، مضاعفاً امكانية التجوّل بين القرى بهدف تنشيط الرسالة الرعوية. مؤخّراً، انتشر هذا المبدأ الرسولي لحركة المرسلين العلمانيين في أقاليم كثيرة تابعة للآباء اللعازريين في العالم. إلى أن أصبح الأب جورج بو جودة أحد الملهمين لتأسيس MISEVI (حركة المرسلين العلمانيين في عائلة مار منصور العالمية).
بعدما عُيّن زائراً اقليمياً للآباء اللعازريين في الشرق سنة 1995، كان من أولى اهتماماته أن يقوّي في قلب جماعته، العمل الرسولي في كنف الكنيسة الكاثوليكية في لبنان. وانطلاقاً من معرفته واقع الأرض، خصوصاً في لبنان الشماليّ، ولبعده الرسولي في العمل الرعوي، قامت الكنيسة المارونية، بتعيينه رئيس أساقفة أبرشية طرابلس، وهي إحدى أكبر الأبرشيات المارونية.
قبل أن أنهي كلمتي المقتضبة، اسمحوا لي أن أضيف شهادتي الشخصية؛ فمن خلال الأب جورج بو جودة، الذي كان مرشداً وطنياً لحركة الشبيبة المريمية في لبنان، تعرّفت إلى جمعية الرسالة. فهو، وانطلاقاً من علاقته الشخصية بعائلتي، دعاني لأادخل "المدرسة الاكليريكية"، أي الاكليريكية الصغرى للآباء اللعازريين. هناك درّبني على حبّ الرسالة من خلال اصطحابي معه إلى قرى لبنان الشمالي لأبدأ بهذه "الخدمة" العزيزة على قلب مؤسّسنا القديس منصور دي بول. في النهاية، إنّ الأب جورج بو جودة، الزائر الاقليمي للآباء اللعازريين في الشرق، هو الذي رافق، بارشاداته واهتمامه، أولى خطواتي في خدمتي الكهنوتية. وله مني هنا عميق عرفاني بالجميل، وصلواتي الدائمة له. خمسون سنة من الكهنوت، خمسون سنة في خدمة كلمة الله، خمسون سنة في خدمة المسيح في قلب كنيسته، ليست جردة حساب إنّما فعل شكر للربّ.
من ثم كانت كلمة مفتي طرابلس والشمال الشيخ الدكتور مالك الشعار الذي قال فيها:" كثيرة هي الجوانب التي تشدني للحديث عنها في شخصية المكرم وآمل أن أعبر عن ضميركم وضمير المحبين في هذه الكلمة الموجزة وآمل أن لا تكون مخلة. أيها الأعزاء: عهدي وعلاقتي وصداقتي بالمكرم من يوم أن وصل الى طرابلس وصحيح أنها بدأت في إطار الواجبات والرسميات ولكن سرعان ما تنامت وتجاوزت حد الشكل الى منزلة الصداقة والإخاء وليس بيننا حساب في الزيارات وتبادل المعايدات. نشأت ثقة تليق بقيمنا الإنسانية والدينية وسرعان ما ظهر الحرص بيننا على بعضنا وشعرنا بحقيقة حمل المسؤولية الوطنية لجهة تقريب أبناء المجتمع والوطن الى بعضهم وإختصار مسافات البعد والزمن. وهذا الذي أذكره بهذا الإيجاز يحتاج الى جهد ووقت وشجاعة ومبادرة ويحتاج قبل ذلك وبعده الى صدق وثقة متبادلة كما يحتاج الى الإعتراف بالآخر على سبيل التكريم وتقرير الحقوق والواجبات. وكل ذلك حدث تبادلاً بيننا ومستمراً دون توقف أو تخوف لأننا أدركنا أن الدين يأمرنا بذلك وأن قيمنا سماوية متداخلة ومتجانسة وتارةً متطابقة. ولأننا أدركنا ثانيةً أن الوطن بحاجة إلينا وأن الوحدة الوطنية لا تقوم على الدستور بقدر ما تقوم على القيم، ومن أولى من الدين ورجاله أن يبادروا ويسارعوا ويشجعوا الوحدة الوطنية وتناسي الذات والطائفية والمذهبية المعتمة فضلاً عن الحزبية والمناطقية".
اضاف:" إن مهمتنا أيها الأعزاء بناء نواة الوطن وصقلها وإنتزاع السرطان الطائفي من أعماقها، وكل ذلك يتطلب قيادة دينية واعية مستنيرة العقل لينة الجانب بعيدة النظر واسعة الأفق تعرف حقيقة دينها. فالمسيحي إذا عرف مسيحيته وإنجيله وقيمه إطمأن المسلم وإستراح والمسلم إذا فقه دينه وعلم مقاصده وعموم الشريعة وسماحة الإسلام وعفوه وصفحه إطمأن المسيحي وإستراح، بل إطمأن العالم كله لأن الإسلام دين الرحمة والسعة والسماحة.
وتابع: بقي علي أن أقول في المكرم أنه هادئ الطبع رابط الجأش بعيد عن الإنفعال وردات الفعل متماسك محاور لامع لا يتأخ ولا يتخلف عن الواجب والمشاركة مع الآخرين صريح وفصيح وواضح، يستحق التكريم ويستحق أكثر. المطران بو جودة دهب عتيق أصيل سرعان ما إحتل مكانته عند المسلمين كما المسيحيين. تسلم زمام المطرانية والأبرشية بعد مطران إستثنائي هو المرحوم يوحنا فؤاد الحاج، الذي لعب دوراً كبيراً لا زالت طرابلس تتذكره بالخير. فأتم مسيرة السلف وإزداد إنفتاحه على المدينة ورجالاتها ومناسباتها.
المطران جورج بو جودة، يعيش زمانه، ويملأ مكانه، إستثنائي بكل ما تعني هذه الكلمة من معنى ، راجح العقل واسع الرؤيا، يتعالى عن أسباب الإختلاف السياسي والديني والإجتماعي، يتحدث الى من حوله ويتحبب إليهم، ثابت الخطى لا يتسرع ولا يستعجل، يعطيك كل ما عنده لأنه يدرك قيمة الكلمة كما الخبرة والتجربة أنها وسيلة الإقناع والبيان والتأثير الأساسية. المطران بو جودة يفتقد إذا غاب ويشد الناس إليه إذا حضر، ينتظر الناس منه الكلمة والرأي لأنه قريب منهم ربح ثقتهم وأعطاهم أملاً بغدهم ومستقبلهم. المطران جورج بو جودة صديق وفي وخل رضي طيفه لا يمحى وذكره لا ينسى. المطران جورج بو جودة دخل بيوت الناس وعقولهم وبادل أبناء مجتمعه الحب ولا يعدم وسيلةً للتواصل معهم ومنحهم الإطمئنان والأمل. المطران جورج بو جودة لا يسحب يده من أيادي مصافحيه يعبر عن متانة علاقته الإنسانية معهم، بإبتسامة هادئة ونفس رضية ونظرات تعبر تعبر عما يختلج في نفسه وخاطره من معان الحب والخير والوداد. المطران بو جودة مستحق لهذا التكريم وأكثر ومستحق لهذا الحب الذي حضرتم جميعاً للتعبير عنه بالعاطفة الصادقة والأحاسيس المرهفة ونبل المشاعر والهوى. لن أتردد ثانية وثالثة ورابعة في تكريمك وفي التعبير عن ضمير الناس وفي أن أقول كلمة أحييك فيها وأشكرك وأقول لك بإختصار وإيجاز وهدوء إن قيمنا السماوية المشتركة هي صمام أمن المجتمع والناس وبمقدار ما نتمثلها ونترجمها نحقق تقدماً في بناء وحدتنا الطنية وبناء المجتمع والدولة والوطن.
وختم: صاحب السيادة إقبل تحيتي وإحترامي وتهنئتي ودعائي في نهاية المطاف أن يحفظ الله اليلاد والعباد وأن يعود الناس الى رشدهم وصوابهم وأن يعم السلام العالم. عشتم إخواني الأكارم وعاش لبنان.
بعده القى المونسنيور انطوان مخائيل كلمة ابرشية طرابلس المارونية وجاء فيها:" يشرّفني أن أقف أمامكم، في هذا اليوم المبارك، لألقي كلمة الأبرشيّة التي تفتخر بكم، وتصلّي معكم ولأجلكم، ليطيل الله عمركم، ويفيض عليكم وافر بركاته وعطاياه، فتكملوا رسالتكمفي خدمة قطيع المسيح الموكل إليكم. لا أبالغ إن قلت إنّ الله أنعم على أبرشيتنا بأن أرسلك إلينا أبًا وراعيًا ومعلّمًا، إذ قد اختبرنا فيك حنوّ الأب واهتمامه، وسهر الراعي وغيرته، وحكمة المعلّم وعلمه. حنوّ الأب الذي يصغي بانتباه، ويوبّخ بلين، ويوجّه بحزم؛ سهر الراعي الذي يستيقظ باكرًا ليهيّأ نفسه جيّدًا لمتابعة شؤون رعيّته وشجونها؛ وحكمة المعلّم الذي يرشد بسعة نظر، ويصحّح بصواب.
اضاف:" من اليوم الأوّل لكهنوتك، اخترت أن تكون رسولاً ومبشّرًا بكلمة الله. لقد أحببت الرسالة ونذرت لها نفسك، وكرّست لها كامل وقتك، وجهدك، ومقدراتك، وطاقاتك. فكلّ قرى الشمال وسوريا تعرف خطواتك، ولا يزال صدى كلمات وعظك وإرشادك وشرحك للكلمة، يتردّد في جنبات الكنائس، وقاعات الرعايا، وحنايا البيوت. حتّى ليصح فيك قول آشعيا النبيّ، الذي أردناه شعارًا ليوبيلك: "ما أجمل قدمي المبشّر المخبر بالسلام المخبر بالخير". ومن اليوم الأوّل لأسقفيّتك، أردت أن تواصل الرسالة جاعلاً منها الهدف الأوّل والأساس لخدكتك الرسوليّة. فشكّلت اللجان، وشجّعت الحركات والأخويّات، وأطلقت المشاريع الهادفة لتنشيط الرسالة وتعزيزها.
وقال": نشكرك لأنّك أحببت الكهنة، وأهتممت بهم، وسهرت على تأمين أفضل الظروف لخدمتهم، وتوّجت كلّ ذلك بصندوق تقاعد الكهنة وتضامنهم، ومأوى الكهنة العجزة في كرم سدّة (القريب التنفيذ)، ونأمل أن يكتمل ذلك بالبطاقة الصحّية للكاهن. نشكرك لأنّك أحببت العلمانيّين، فأشركتهم في رسالة الكنيسة، عملاً بتوجيهات المجمع الفاتيكاني الثاني، الذي دعا مسؤولي الكنيسة، إلى أن يتعاونوا مع المؤمنين في الشهادة للمسيح، والالتزام بالخدمة والرسالة في عالم اليوم. نشكرك لأنّك حنوت على الأيتام، والمتروكين، والمظلومين، كيف لا وأنت ابن القديس منصور دو بول، فجعلت همّك اليوميّ "مؤسّسة مار أنطون البادواني الاجتماعيّة" (الميتم)، ووضعت في أوّل اهتماماتك تحويلها إلى مكان لائق لكلّ من لا يجد بيتًا دافئًا، يحضنه ويؤمّن له أبسط مقوّمات الحياة الكريمة. نشكرك لأنّك خدمت إيمان المؤمنين من خلال عملك الفكريّ اللاهوتيّ، في التعليم، والتدوين، والترجمة بخاصّة لتعليم الكنيسة الاجتماعيّ، ولأنّك كرّست جزءًا هامًّا من كهنوتك وأسقفيّتك لتنشئة كهنة الغد، وإعدادهم لخدمة أفضل. لأجل كل ذلك، والكثير الكثير من العطايا والمواهب التي أنعم الله بها عليك، نشكر الله معك وعليك، ونسأله أن يبقيكم ذخرًا وعضدًا للأبرشيّة وللوطن ودمتم.
اخيرا كانت كلمة الوزير بيار رفول وجاء فيها:" ما أجمل هذه المناسبة، وكم أنا سعيد أن أكون من بين الذين يشاركونكم الاحتفال في يوبيلكم الذهبي، ممثلاً فخامة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون الذي كلّفني أن أنقل لسيادتكم تهانيه متمنياً لكم التوفيق في كل ما تصبون إليه".
اضاف:" ماذا بوسعي أن أصف خمسين سنة أمضيتها تحمل الشهادة للحق والبشارة بالخلاص؟! كل الكلمات تقف عاجزةً عن تعداد إنجازاتك وتقدير وتقييم ما قمت به. لقد نذرت حياتك لخدمة الكنيسة والإنسان، مشبعاً بإيمان عميق تنشره، تكلّله أعمالاً وتعيشه مثالاً بين الناس، متجوّلاً في المدن والبلدات والقرى، رافعاً شعارك، ما جاء في أعمال الرسل: " السعادة في العطاء أعظم منها في الأخذ" وقد تحوّل العطاء معك نهجاً لازمك استمراراً حيث لا عرفت لا الكلل ولا الملل. كنت الرسول المتبصّر الدائم الحركة منطلقاً من أن التقرّب من الله يقرّبنا من الجميع، ومتأكداً بأن الإيمان ليس انغلاقاً بل بهاء من الله ينير العالم أجمع.
وتابع:" بشّرت بكلمة الله المحيّة، كرّست التآخي والانفتاح والإخلاص سلوكاً مع أبناء الوطن. وكنت الخادم الأمين للمؤمنين والمؤمنات حاملاً لهم المحبة والغفران والتسامح، حاثّاً إياهم على الصلاة لأنها الصلة المباشرة مع الله... حتى أصبح اسم "بونا جورج" على لسان من عرفوه حكاية لا تنتهي، مجبولة بالتقدير والشكر والامتنان. مصداقيتك وطيبتك رأسمالك وهذا ما زاد من محبة الناس لك وتعلّقهم بك، والوزنات التي وهبها إياك الله قد أزهرت وأثمرت مواسم متدفّقة وزّعها من تأثر بك زوادة حياة، على أولادهم وأحفادهم. كم مسحت دموعاً وواسيت متألمين وحضنت معوزين وساعدت محتاجين، كل ذلك بدون أن تسمح ليدك اليسرى أن تعرف ما تقوم به يدك اليمنى عملاً بتعاليم المعلّم.
وقال:" ليس صدفة، أن يحط بك الرحال مطراناً على طرابلس العزيزة وجوارها بل هي عناية وتدبير من الله، وكأنك جئت لتثبت ما قاله قداسة البابا يوحنا بولس الثاني إن "لبنان أكبر من وطن هو رسالة"، رسالة مسيحية إسلامية. والأحداث الأليمة التي عشتها مع أصحاب السماحة والسيادة في طرابلس وسعيتم إلى إطفاء حرائقها ما كانت إلا شواذاً على الفيحاء، لأن القاعدة دائماً وأبداً هي انفتاح وإلفة بين الديانتين السماويتين. لطالما كنت رجل الحوار الإسلامي المسيحي، مرتكزاً على ما جاء في المجمع الفاتيكاني الثاني أن الكنيسة تنظر بتقدير الى المسلمين الذين "يعبدون الله الأوحد الحيّ لقيوم خالق السماء والأرض.." والذين"يجلّون السيد المسيح كنبي ويكرّمون أمّه مريم العذراء".. وساعياً لتطبيق قول المجمع إن "العناصر المشتركة في الإيمان والقيم بين المسيحيين والمسلمين تدعوهم كي ينبذوا جانباً شقاقهم وعداوتهم ويسعوا الى تحقيق تفاهم صادق بينهم، ويعملوا معاً على صيانة ودعم العدل في المجتمع والقيم الأخلاقية، وأيضاً السلام والحرية لجميع البشر".
وختم:" أنت ما سعيت يوماً لرتبة ولكنها أتت إليك، ولم تقبلها إلا لأنك وجدت فيها مجالاً أوسع للخدمة، وأرضاً أكثر خصوبة لتستثمر فيها الوزنات التي أتُمنت عليها.
إن ميزة الترسّل في التضحية والخدمة أصبحت نادرة في هذا الزمن يا أبتي، ولكن المنارات المضاءة على رؤوس الجبال تبقى كافية لتهدي الإنسان الى الطريق المستقيم. فدمت المنارة الزاخرة بالعطاء، ورسول المسيح الحامل رسالته والمبشِّر به، بالقول والفعل، دوماً وأبداً".
من ثم علق الوزير رفول على صدر المطران بو جوده باسم رئيس الجمهورية وسام الارز برتبة كومندور، ناقلا اليه تحيات رئيس الجمهورية ومتمنيا له مزيدا من الصحة والنشاط. من جهته شكر بو جوده للوزير رفول سعيه، محملا اياه تحياته الى فخامة رئيس البلاد لمنحه هذا الوسام الرفيع، كما شكر بو جوده الحضور والمشاركين لاحتفالهم معه بيوبيله الكهنوتي الذهب. ومن ثم كان حفل كوكتيل في المناسبة، ووزع كتيب خاص عن سيرة حياة المطران المكرم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق