لمناسبة عيد مار مارون تراس راعي ابرشية طرابلس المارونية المطران جورج بو جوده قداسا في كنيسة مار مارون في طرابلس، عاونه فيه، النائب العام على الابرشية الخوراسقف انطوان مخائيل، خادم الرعية المونسنيور نبيه معوض، والكهنة جوزاف فرح، سيمون ديب، وراشد شويري، ومشاركة لفيف من الكهنة والرهبان.
حضر القداس الدكتور كمال زيادة ممثلا وزير العدل السابق اللواء اشرف ريفي، وحشد من المؤمنين.
بعد الانجيل المقدس القى المطران بو جوده عظة قال فيها:" إنّ حبة الحنطة، إن لم تقع في الأرض وتمت، تبقى واحدة، وإذا ماتت، أتت بثمر كثير". عندما قدَّم يوسف ومريم يسوع إلى الهيكل، تنفيذاً للشريعة، حمله سمعان الشيخ على ذراعيه ومجّد الله، وقال لمريم: "هذا الطفل سيكون علامة للتناقض والخصام". وفي الواقع فإنّ يسوع عندما بدأ يعظ ويُعلّم إعتمد أسلوب التناقض فإنطلق ممّا يعتبره الناس أمراً طبيعياً وصحيحاً لينقضه ويفنّده ويعطي عنه شرحاً مثيراً للجدل والخصام لأنّه لا يتوافق مع نظرة الإنسان العاديّة للأمور. معظم الاشخاص يعتبرون أنّ السعادة تُبنى على الغنى والمقتنيات، وعلى العزّة والجاه، وعلى السلطة والوصول إلى المراكز المرموقة، وعلى فرض الرأي على الآخرين بالقوّة، إلى درجة إستعمال العنف ضدّهم وإضطهادهم، ولكهنم في الوقت عينه لا يدركون انها امور فانية. فالمسيح في بداية حياته العلنيّة، وفي ما يُعتبر دستوراً لحياة الإنسان المسيحي، نراه يُعلن في الخطبة على الجبل ويقول:" طوبى للمساكين بالروح، فإنّ لهم ملكوت السماوات. طوبى للودعاء، لأنّهم سيرثون الأرض. طوبى لكم إذا عيّروكم وإضطهدوكم وإفتروا عليكم كلّ سوء من أجلي، إفرحوا وإبتهجوا لأن! أجركم عظيم في السماوات".
اضاف بو جوده:" في هذا المقطع من الإنجيل بالذّات، يؤكّد المسيح على هذا الأسلوب في التعليم، فيُعلن أنّ ما نعتبره نحن موتاً هو الحياة وما نعتبره حياة هو الموت الحقيقي. فحبّة الحنطة التي تموت ظاهرياً عندما تُطمَر في التراب سوف تتحوّل إلى حياة لحبّات أخرى كثيرة، أمّا إذا أرادت أن تبقى حيّة فهي في النهاية سوف تفقد كامل وجودها بعد أن تبقى مفردة لفترة من الزمن. وإنّ لنا في تاريخ الكنيسة تطبيقاً واقعياً لهذا التعليم، من خلال حياة الشهداء والنسّاك والقدّيسين. فلقد تعرّضت الكنيسة عبر تاريخها الطويل إلى المعارضة والإضطهاد وما زالت تتعرّض لذلك حتى اليوم. فإستشهد الكثيرون من أبنائها دفاعاً عن إيمانهم، لكنّ دماءهم، على ما قال أحد آباء الكنيسة، كانت زرعاً لمسيحيّين جدد. فالإضطهادات لم تكن على الإطلاق سبباً لضعف الكنيسة وموتها، بل على العكس فإنّها رسّخت أبناءها في إيمانهم، ولذلك، عندما إنتهى عصر الإضطهادات الأوّل في بداية القرن الرابع، إنتشرت بين المسيحيين روح الفتور واللآمبالاة وعدم الإلتزام بمتطلبات إيمانهم، فبرز البعض منهم وإعتمدوا مبدأ وأسلوب إماتة الذّات والتقشّف آخذين بتعليم المسيح عن حبة الحنطة. كان أوّلهم أنطونيوس الكبير في صعيد مصر، ثمّ تلاه الكثيرون في فلسطين وسوريا ولبنان، فأصبحوا يُعتبَرون الشهود البيض لأنّهم أماتوا أنفسهم عن مغريات العالم وملذّاته وإعتمدوا شظف العيش في البراري والعراء، وكان من بينهم مارون الناسك في جبل قورش، الذي تحوّلت حياته إلى مدرسة إقتدى بها الكثيرون".
وتابع:" القديس مارون كان من هؤلاء النسّاك الذين وَسَموا تاريخ الكنيسة بوسمهم الخاص. كان كاهناً تنسّك على قمّة جبل قورش في سوريا الثانية، عاش في العراء وحوّل هيكلاً للأصنام إلى معبد لله. جاهد في الزهد ليل نهار محتملاً حرّ الصيف وبرد الشتاء، فقصده المؤمنون من كل الأصقاع، وتتلمذ على يده الكثيرون وربطته بالقديس يوحنا فم الذهب، البطريرك المنفي علاقة صداقة ومودّة. وقد أرسل إليه هذا الأخير رسالة من منفاه سنة 405 يطلب فيها صلاته ودعاه ويقول له فيها:" إنّ علاقات المودّة والصداقة التي تربطنا بك تُمثّلك نصب عينينا كأـنّك حاضر لدينا لأنّ عيون المحبة تخرق من طبعها الأبعاد. ونحب أن تكون على يقين من أنّنا لا نفتر عن ذكرك أينما كنّا لما لك في ضميرنا من المنزلة الرفيعة، فلا تضن أنت علينا أيضاً بأنباء سلامتك، وجلّ ما نسألك أن تصلّي إلى الله من أجلنا".
وقال:" في القديس مارون يصحّ قول السيّد المسيح عن حبّة الحنطة. فهو، وإن مات عن العالم، لم يبقَ وحيداً بل على العكس، فإنّ موته أعطى الحياة للكثيرين الذين تحوّلوا تدريجياً إلى جماعة بيت مارون، ثم إلى كنيسة قائمة بذاتها، تنتشر اليوم ليس فقط في لبنان والشرق، بل في أنحاء العالم، وهي تسعى للبقاء أمينة لروحانيّة أبيها القديس مارون، بالرغم ممّا يعتريها ويعتري أبناءها من ضعف ووهن في بعض الأحيان، خاصة عندما ينسون أو يتناسون أصولهم الروحية والمحبّة التي يجب أن تجمعهم والتي من المفروض أن تكون ميزتهم الأساسيّة، فيتحوّلون مرات كثيرة إلى مجرّد جماعات بشريّة إجتماعيّة وسياسيّة يكتفون بالإدّعاء بحمل إسم مارون، بينما هم بعيدون كل البعد عن روحانيّته. وهذا ما يتهدّدهم اليوم، وما يتهدّد مصيرهم ومستقبلهم وحتى وجودهم، نظراً لما يتفشّى فيما بينهم من روح حقد وبغضاء، ومن إنقسامات وتشرذم وصراع داخلي، إذ تحوّلت روح المحبة التي يجب أن تكون ميزتهم الأساسيّة إلى روح أنانيّة وحب الذات، وسعي إلى المراكز والسلطة متناسين أنّه بالنسبة لمارون ولتعليم المسيح، السلطة خدمة لا تسلّط والمحبة عطاء وتضحية وليست فرضاً بالقوّة للذّات والآراء".
وختم بو جوجه يقول:" في مناسبة عيد مار مارون، نأمل أن تكون حبّة الحنطة نهجا يتبعه كل شخص منا، في حياته اليومية وفي عمله، افرادا كنا ام مسؤولين، ونهج نتبعه في مؤسساتنا ومؤسسات الدولة واداراتها، لكي ينمو لبنان ويزدهر على كل الاصعدة. فأبناء مارون يعيشون اليوم، وبصورة خاصة في لبنان، حالاً من التقهقر ونكران الهوية. وهم مدعوّون، بإحتفالهم بعيد شفيعهم وأبيهم أن يعملوا بروح الخدمة والتجرّد في سبيل الخير العام، كما عليهم ان يقوموا بفحص ضمير ومراجعة حياة علّهم يعودون إلى أصالتهم وميزتهم الأساسيّة، روح المحبة والشهادة للمسيح. فإلى الله نرفع اليوم الصلوات بشفاعة أبينا مارون كي يعطي أبناءه شيئاً من روحه فيعيشون مع بعضهم البعض بروح أخوية، مترفعين عن الحساسيّات، والخلافات الصغيرة الضيقة، ويبقون، كما كان آباؤهم وأجدادهم منذ القديم، شهوداً للإيمان بحياتهم وأعمالهم وأقوالهم".
بعد القداس تقبل المطران بو جوده تهاني العيد من الحضور في صالون الكنيسة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق