"يا أهل شبرا.. يا وحدة"، هكذا استنجد نشطاء كفاية بـ"شبرا مصر" قبل خمسة أعوام ونصف العام. وليلة الاثنين الماضي.. الثالث من يناير 2011، فاجأنا أهل شبرا مصر.. بأن اسمه "مازال" على مسمى: شبرا.. مصر.
(شبرا.. مصر).. هكذا عرفناه تمييزاً عن مئات يماثلونه في الاسم: شبرا.. الذي يعني "العزبة/ القرية" بالقبطية، مع إضافة.. الخيمة أو النملة.. إلخ، لكنه ظل وحده يُلخص الوطن اسما ومعنى: شبرا مصر.
بعد جريمة هتك الأعراض التي ارتكبها اللانظام الحاكم عام 2005، قررت كفاية اللجوء إلى الشارع، فاحتمت بشبرا مصر. بدأت المظاهرة بحوالي 150 ناشطاً، وانتهت بأكثر من 1500 متظاهر، ومعها نقلت الجزيرة لأول مرة للعالم هتاف: "يسقط.. يسقط حسني مبارك".. تردد مراراً هادراً، مع مشهد الحشود تتحرك في الشارع الوسيع. مازال صداه يرن في أذني، فالهاتفون ليسوا مُسيسين.. كانوا "مواطنين" عاديين. ردد الهتاف شباب لا تعرف هويتهم الدينية.. ومعلمة قهوة وبائعة ذرة مشوي، هذا ما نقله المراسلون وقتها.
شبرا، أول إشارة لاسمه كان عام 882م في "تقويم النيل". قبلها كان جزيرة في النيل تسمى (الفيل)، ومع الفيضانات المتكررة وإطماء النيل اتصلت الجزيرة بالأرض لتصبح أرض شبرا وروض الفرج. شهد الحي "نقلة نوعية" مع تأسيس محمد على مصر الحديثة، الذي بدأ بناء قصره فيه قبل مذبحة القلعة. كان يحلم بقصر يشبه القصور العثمانية على البوسفور والدردنيل، ومع اكتمال القصر وبناء قصور للأثرياء بالقرب منه، فكر محمد علي في أُخريات أيامه بتعميم فائدة جمال الحي وإتاحة الفرصة للجميع للتمتع به. أمر بشق شارع يكون "الأوسع والأكثر استقامة في البلد".. فولد شارع شبرا عام 1847م، كمنتزه مفتوح في ضواحي العاصمة.
ورغم تكونه بداية على أيدي الأثرياء، ارتبط في ذاكرتنا الاجتماعية بالطبقة الوسطى. له طبيعته الخاصة، بيئة مُنفتحة، أكثر تقدماً اجتماعياً، قادرة على احتضان نماذج لثقافات مختلفة. والأهم تجلي النسيج الواحد للأمة، فدائماً ما تقفز مع اسمه نماذج تعايش وتداخل العنصرين.. تجاوزت كل ما مر بالوطن من أزمات.
لـ(شبرا مصر) صورة أخرى موازية.. شعبية: "ولد بيكلم بنت على التلتوار".. كما أبدع عبدالرحمن الأبنودي، وشقاوة شبابه.. وجمال ورقة بناته. وفيه تربت.. ومنه خرجت أسماء، ظلت وفية لروح المكان، تتذكرها في أفلامها ومؤلفاتها. (يوم حلو.. ويوم مر) لخيرى بشارة و(أحلى الأوقات) لهالة خليل و(فيلم هندي) لمنير راضي و(هي فوضى) ليوسف شاهين وخالد يوسف، وقبلها (بداية ونهاية) لصلاح أبوسيف. وكتابات.. رواية (شبرا) لنعيم صبري، وإبداعات فتحي غانم، خاصة روايته (بنت من شبرا)، التي تحولت إلى مسلسل/ مشكلة تكشف عن تشوهات ألقت بظلالها على الوطن كله. ومذكرات المؤرخ/ المفكر رءوف عباس.. (مشيناها خطى كُتبت علينا)، ودراسات وأبحاث المؤرخ محمد عفيفي المُنشغلة بـ(شبرا مصر).. كحالة تاريخية اجتماعية ثقافية، وكتلخيص لمصر مأزومة.. ومأمولة.
الآن، بعد خمس سنوات ونصف السنة، ومع تفاقم تأزم مصر وبلوغ الاحتقان الطائفي ذروته، يحتمي عشرات المؤمنين بنسيجها الواحد بالشارع الذي أكمل عامه الـ 164، ليدفئهم بألوف "المواطنين". قيل خمسة.. قيل عشرة، توزعوا بين شارع شبرا نفسه وشارع الترعة البولاقية، ورغم كل مضايقات الأمن استمرت المظاهرات حتى بعد الحادية عشرة ليلاً. وإذا كانت الجزيرة، ووسائل إعلامية أخرى، قد ركزت على مشاهد الاحتكاكات مع الأمن، فإن نشطاء الفيس بوك نقلوا وجهاً آخر للصورة.
كان واضحاً أن الأمن لديه تعليمات صارمة بعدم اعتقال أي مسيحي، لكنه اعتقل ثمانية نشطاء مسلمين، لتتحول المظاهرة من الحادية عشرة ليلاً إلى اعتصام حتى الرابعة فجراً.. له هتاف "مسيحي" وحيد: "مش ماشيين.. مش ماشيين.. سيبوا أخواتنا المسلمين". تعرض المسلمون المتضامنون لاعتداء أمني وحشي.. عقاباً لهم عن دفاعهم عن أخوتهم المسيحيين. في فيديو بموقع (ديلي نيوز) سنرى دماء المتضامنين المسلمين المُسالة.. ونسمع صرخاتهم. أحيل الثمانية محبوسين لمحاكمة عاجلة بعد ثلاثة أيام، وأخلي سبيلهم الخميس الماضي مع تأجيل محاكمتهم بتهم مضحكة.. ضرب كتيبة شرطة وتدمير عربات مدرعة. كانت رسالة اللانظام حاسمة: نريدكم فرقاء، لا مُتعايشين.
رسالة تُعادي ميراث تعايش نفض عن نفسه الغبار بعد جريمة القديسين، نقلت (الشروق) أجمل مشاهده.. كتابة وصورة:
"طاف أكثر من 5000 مواطن شوارع شبرا، في مظاهرة شعبية سلمية هي الأكبر في السنوات الأخيرة، جمعت المسلمين والمسيحيين، وتصدرتها محجبات يحملن الصلبان، بجوارهن مسيحيات يحملن المصاحف، منددين بالتقصير الأمني المتسبب في حادث كنيسة القديسين بالإسكندرية، ومطالبين بإقالة المسئول عنه، ولم تفلح أجهزة الأمن في تطويق المظاهرة التي امتدت إلى الشوارع الرئيسية.
وأغلقت معظم المحال أبوابها في شارعي شبرا والترعة، وانضم أصحابها للمتظاهرين، مرددين هتافات: "تحيا مصر"، و"يحيا الهلال مع الصليب"، رافعين المصاحف جنبًا إلى جنب مع الإنجيل".
مدد يا أهل شبرا مصر.. يا وحدة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق