في مقالي السابق ، قلتُ إنني طوال الوقت أتخيّلُ نفسى مكان المسيحيين ، فأحزن لأحزانهم ، وأكتب. وهو ما أغضبَ بعضَ القراء مني ، لدرجة أن أحدهم أرسل يقول لي : «توبي إلى الله!» كأنما وظيفة المسلم قهرُ المسيحي!
ورغم كراهتي الكلمات التمييزية : مسيحي ، مسلم ، إلا أنني سأنزل على رغبتهم وأوجّه مقالي هذا للمسلمين فقط . المسيحيون يمتنعون .
وهو على أية حال مقالٌ خياليّ ، طالما الخيالُ لا يُعاقِب عليه القانونُ (حتى الآن).
تخيّلْ معي أن المعلّمَ سأل ابنك المسلم : «رايح فين؟» فأجاب : «حصّة الدين يا أستاذ» ، فيضحك المعلّم ويقول : «هو انتوا عندكو دين!»
تخيّل أن «يَشْرَق» ولدٌ في الفصل ، فيهرع إليه ابنك (الطيبُ) لينجده ، فيصرخ فيه الشرقان : «لأ ، ماما قالت لي مشربش من زمزمية مسلم ، عشان همّا (...) »
تخيّلْ أن تتصفّح منهج ابنك فتجده مشحونًا بآيات من الإنجيل ، ولا وجود لآية قرآنية واحدة. تخيلْ أنك ضللتَ الطريق ، وسألتَ أحدَ السابلة ، فأجابك : «سيادتك ادخل شمال ، حتلاقي «لا مؤاخذة» جامع ، ادخل بعده يمين.
تخيلْ أن تكون نائمًا حاضنًا طفلتك ، وفجأة تنتفض الصغيرةُ في الفجر ، لأن صوتًا خشنًا صرخ في ميكروفون الكنيسة (والكنائس الكثيرة في الحيّ) : «خبزنا كفافَنا أعطنا اليوم. واغفرْ لنا ذنوبنا كما نغفرُ نحن أيضًا للمذنبين إلينا. ولا تُدخلنا في تجربة. لكن نجِّنا من الشرير . لأن لك الملكَ والقوة والمجد إلى الأبد».
فتسألك صغيرتُك ببراءة ، وقد فارقها النوم : «بابا ، ليه مش بيقولوا الكلام الجميل ده بصوت هادى ، ليه بيصرخوا في الميكروفون كده؟!» فتحارُ كيف تردُّ عليها ، وقد علّمتَها (بالأمس) أن مناجاةَ الله لا تكون إلا همسًا ، لأن الله يقرأ قلوبَنا ، وإن صمتتْ ألسنتُنا ، وأن الدعوةَ للصلاة ، التي هي صِلة بالله «عيب» أن تكون بصوت مُنفِّر . لهذا اختار الرسولُ للأذان «بلالَ بن رباح» لصوته العذب.
تخيلْ أن تحضر قدّاسًا في كنيسة مع صديق لك ، فتسمع الكاهنَ يقول : «لا تصافح مسلمًا ، فهو مُشرك ، ولا تأكل عنده طعامًا ، ولا تدع أطفالك يلعبون مع أطفاله». ماذا تفعل لو قُدِّر لك أن تعيش في مجتمع كهذا؟
أعلم أنك تقول الآن : ما هذا التهريج؟ سؤالٌ لا إجابة عليه ، لأنه جنون في جنون. وأتفقُ معك في رأيك ، وأقرُّ بعبثية طرحي. ألم أقل منذ البدء إنه ضربٌ من الخيال؟
المسيحيون لا يفعلون ما سبق.
نحن مَن نقول : مسيحي «بس» طيب ، لا مؤاخذة كنيسة ، عضمة زرقا ، أربعة ريشة ، مشركين ، كفار...! إما مزاحًا ، دون قصد. أو عن قصد ، متكئين على أكثريتنا ، مقابل أقليتهم! مطمئنين إلى مبدأ أساسي في دينهم يقول : «أحبوا أعداءكم. باركوا لاعنيكم. أحسنوا إلى مبغضيكم ، وصلّوا لأجل الذين يسيئون إليكم ،ويطردونكم».
أحببتُ اليومَ أن أضع تلك المواقف الشوهاء أمام عيوننا ، ليختبر كلٌّ منّا وقعها على نفسه لو حدثت معه.
نحن الذين نصرخ في الميكروفون «الله أكبر» ، غير مراعين أن الله نفسَه يحبُّ أن يُنطق اسمه بهدوء لا بصراخ أجشّ. ونحن الذين يقول ، «بعضُ» ، مشايخنا في خطبهم كلامًا مسيئًا لغير المسلمين ، يملأ قلوب ضعاف العقل والإيمان بالحنق عليهم. بينما هم يقولون في قدّاسهم : «نصلّي لإخواننا أبناء مصرَ من غير المسيحيين.»
فهل تسمحون لي بأن أغار منهم؟ لأن كثيرًا منّا أخفق في درس المحبّة التي أتقنها معظمهم؟
لكن مهلاً ، منذ متى بدأنا نفعل هذا؟ منذ عقود قليلة ، وهى في عُرف التاريخ لمحةٌ خاطفة. حتى السبعينيات الماضية ، قبل سموم الصحراء ، كان سكانُ العمارة الواحدة بيوتهم مفتوحةٌ على بيوت بعضهم البعض ، مسيحيين ومسلمين ، فيذوب أطفالُ هؤلاء في أطفالِ أولئك ، وتشعُّ المحبّةُ في أركان الحيّ ، فتبتسم السماءُ قائلة :
«هنا بشرٌ ، تعلّموا كيف يحبّون الله.»
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق