سورة البقرة.. الآية 49/ عبدالله بدر اسكندر

 
الدعوات البعيدة عن الواقع العلمي لا تستقر على أصل ثابت وإن كان المؤيدون لها تتوافر لديهم بعضاً من الحجج والدلائل التي يظنون أنها تفي بالغرض المطابق لنهجهم، علماً أن هذه الحجج لا يعتد بها أمام الحقائق المستخلصة من البيان المتكامل الذي ينظر إليه تباعاً في متفرقات القرآن الكريم، ومن الأمثلة على ما نحن بصدده تلك الدعوات المنادية بعدم اعتبار القرآن الكريم كتاباً علمياً أو تأريخياً أو بعبارة أدق يمكن القول إن وصف هؤلاء للقرآن الكريم لا يتعدى إلى أكثر من جعله كتاب عبادة ليس إلا، وعند التحقق من معرفة النتائج التي التزم بها أولئك الناس نجدها عقيمة ولا تعتمد على شيء من الأصول اليقينية للمنهج العلمي الذي تقوم عليه أسس الحياة الدنيا وما يتفرع عليها من اتجاهات فضلاً عن التغطية الكاملة للعالم الآخر الذي سوف ينتقل إليه الإنسان شاء أم أبى.
فإن قيل: ما هي الدلائل البينة التي تساعد على نقض تلك الاتجاهات؟ أقول: تكمن الدلائل البينة لنقض الأفكار القاصرة التي أشرنا إليها في الكم الهائل من الآيات التي تحتوي على مختلف التشعبات العلمية والتأريخية وما إلى ذلك من طرق المعرفة التي يحتاجها الإنسان، وهذا ما يجعل القرآن الكريم كتاباً علمياً وتأريخياً ولا أقول كتاب هداية لأن العلم متضمن لها وإلا كيف للإنسان أن يهتدي وهو بعيد عن العلم أو عن تأريخ أمته أو الأمم الأخرى المحيطة به من كل جانب، والغريب أن ما يسمى بأصحاب الحل والعقد لا يروق لهم الحديث عن هذا الاتجاه، وعند تعرضهم لموقف يحتاج إلى تحليل ظاهرة من الظواهر تراهم يدّعون أن القرآن الكريم هو كتاب هداية ولكن فيه إشارات من العلوم وما يلحق بها على حد زعمهم وهذا من الجهل الذي ليس له مثيل، وإن شئت فقل هو إثبات من حيث النفي المؤدي إلى التناقض في الكلام، أو ربما يكون لهذا المذهب بعض العلل التي يريدون من خلالها نشر الجهل بين أوساط الناس لأجل أن يحافظوا على المكانة المفقودة التي ليس لها أصل إلا في مخيلتهم.
ولا يخفى على ذوي العقول السليمة أن القرآن الكريم يقدم العلم على جميع النواحي الأخرى المتضمنة للأمور العبادية، ومنها الهداية التي يعلمها هؤلاء الناس على طريقتهم الآيلة إلى الزوال. فإن قيل: يقول تعالى: (ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين) النحل 89. وهذا يدل على أن معنى تبياناً لكل شيء لا يعني التفصيل؟ أقول: ليس هناك ما يثبت أن معنى التبيان لا يراد منه التفصيل بل العكس هو الصحيح، ولو سلمنا بأن التبيان لا يعني التفصيل فهذا يقودنا إلى دليل آخر وهو أن التبيان إذا كان من عند الله تعالى يكون المراد منه تفصيل الأشياء على القدر الذي يصل بالإنسان إلى المباحث التي تؤهله إلى معرفة تفاصيل العلوم اليقينية وما يرتبط بها، وهذا هو المطلوب من جهة ومن جهة أخرى نكون قد فهمنا النكتة من قوله تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شيء) الأنعام 38. فإن قيل: ربما يراد من الكتاب اللوح المحفوظ وليس القرآن؟ أقول: إذا ثبت هذا فالقرآن هو جزء من اللوح المحفوظ وبهذا يتم الغرض المراد إثباته باعتبار أن الأجزاء المنزلة من الأصل فيها ما يكفي الإنسان لسد حاجاته الضرورية وذلك لاستحالة جعل اللا متناهي في المتناهي، وبهذا تظهر النكتة في قوله تعالى: (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم) الحجر 21. 
من هنا يظهر أن تبيان الأشياء يعني الدخول إلى معرفة حقائقها ولا يمكن أن يتم هذا الوجه إلا عن طريق القرآن الكريم الذي يرشد الإنسان إلى معرفة كل ما يحيط به، وهذا ما يفهم من قوله تعالى: (ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيراً) الفرقان 33. فإن قيل: كيف يمكن الاعتماد على النهج القرآني إذا اختلف مع الحقائق العلمية؟ أقول: لا يختلف النهج القرآني مع الحقائق العلمية الثابتة، بل يختلف مع النظريات المتغيرة التي لا تستقر على أصل، وهذا ما يجعل الإنسان يبحث عن الحقيقة العلمية التي لا يكتب لها الاستقرار إلا بإيجاد أصولها المبينة في القرآن الكريم سواء تحقق هذا الأمر أو سوف يتحقق في قادم الأيام، كما يشير تعالى إلى هذا المعنى بقوله: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) فصلت 53. فإن قيل: ألا يكون هذا النهج سبيلاً لإبعاد القرآن عن كونه كتاب هداية؟ أقول: متفرقات القرآن الكريم تتضمن الهداية، أو أن الصغرى هي جزء من الموسوعة الشاملة التي يرشد إليها الحق سبحانه، ولا يمكن للإنسان أن يصل إلى مقدمات هذا الطريق ما لم يكن لديه القدرة على التفريق بين المصاديق المتشعبة وبين آثارها المحيطة به، أما إذا أخذته الغفلة عن فهم هذه الأصول فههنا تصبح الحجج والبراهين الظاهرة أمامه أقرب إلى الأشياء التي اعتاد على ممارستها، ولهذا انتشر الإلحاد بين الناس، وكان لأصحاب الحل والعقد الدور الأكبر في ذلك إلا ما رحم. 
وبناءً على ما تقدم يتضح الفرق بين الفقهاء الذين أخرجوا الهداية عن مفهومها العلمي، وبين أصحاب الاتجاه الوسطي الذين لا يرغبون بإخراجها عن ذلك المفهوم، ولهذا ترى أتباع الاتجاه الأول أشد الناس فقراً إلى التجارب الحياتية، ولا يخفى على المتأمل أن هذه التجارب لا يمكن أن يكتب لها النجاح ما لم تمهد للإنسان دوره العلمي، وكذا معرفته بتأريخ أمته ومقارنته بتأريخ الأمم الأخرى، وهذا ما يفهم من الآيات الكثيرة التي ترشد الإنسان إلى التعرف على الأحداث التأريخية وأخذ العبر منها، كما في قوله تعالى: (قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين) الأنعام 11. وقريب منه النمل 69. الروم 42. وكذا قوله: (أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) الروم 9. وقوله: (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثاً يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون) يوسف 111.
 والآيات بهذا الصدد كثيرة جداً، ولهذا امتن الله تعالى على بني إسرائيل الذين كانوا في عهد النبي (ص) بما قدم لآبائهم من نعم لا تعد ولا تحصى باعتبارهم الامتداد التأريخي لأولئك الآباء، فقال جل شانه: (وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم) البقرة 49. فإن قيل: قال تعالى في آية البحث: (يذبحون أبناءكم) البقرة 49. وقال: (يقتلون أبناءكم) الأعراف 141. فما وجه الجمع؟ أقول: في هذا دليل على أن القتل تم بمختلف الطرق، وكان الذبح من بينها بل هو أشد الطرق لذا ذكر على نحو الاختصاص. فإن قيل: هل القتل وقع قبل رسالة موسى أم بعدها؟ أقول: وقع القتل بعد الرسالة، بدليل قوله تعالى: (فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم وما كيد الكافرين إلا في ضلال) غافر 25. وكذا قوله: (وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك قال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون) الأعراف 127. فإن قيل: وماذا عن قوله تعالى: (وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين) القصص 7. ألا يدل على أن القتل كان قبل الرسالة؟ أقول: خوفها عليه كان بسبب الإيذاء وليس القتل، وهذا ما يثبت عدم صحة الرواية التي يتناقلها الناس عن رؤيا فرعون، باعتبار أن الإيذاء كان سابقاً للرسالة دون القتل، كما في صريح قوله تعالى: (قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون) الأعراف 129.
فإن قيل: لمَ قال تعالى: (وإذ نجيناكم من آل فرعون) البقرة 49. ولم يقل من فرعون؟ أقول: إذا قال من فرعون لم يدخل آله في الآية أما في حال ذكر آله يكون هو قد دخل في الآية من باب أولى، وبهذا يكون الجميع قد اشترك في جريمة القتل إلا ما أخرج بسياق منفصل كمؤمن آل فرعون الذي أشار إليه تعالى في قوله: (وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه) غافر 28. فإن قيل: لمَ عبر تعالى عن البنات بالنساء ولم يعبر عن الأبناء بالرجال في آية البحث؟ أقول: لأن القتل حال بين الأبناء وبين انتقالهم إلى مرحلة الرجولة، أما استبقاء البنات على قيد الحياة فلا يحتاج إلى بيان نظراً إلى ما يلحق ذلك من المراحل التي ينتقلن من خلالها من الطفولة إلى الأنوثة حتى يصبحن نساء. فإن قيل: لمَ قال تعالى في آية البحث: (سوء العذاب) البقرة 49. والعذاب يتضمن معنى السوء؟ أقول: في الوصف المضاف دلالة على وصول الأمر إلى أبعد حالاته في القتل والتنكيل، وهذا ما يجعل العذاب من نوع آخر فتأمل.
من كتابنا: السلطان في تفسير القرآن  

سورة البقرة.. الآية 48/ عبدالله بدر اسكندر

ترتبط القوانين الوضعية الناشئة عن الأفكار السليمة ارتباطاً وثيقاً بالأسس المنهجية التي تقوم على بناء المجتمعات التي وضعت لأجلها، وإذا ما أراد الإنسان الوصول إلى معرفة هذا الارتباط فمن الضروري أن يتحقق لديه وضوح الأمر الجامع بين السنن التشريعية وبين تفاعل المجتمع مع الفقرات الصادرة عنها، علماً أن هذا الأمر لا يتم إلا إذا حصل هناك اتفاق يجيز العمل المشترك بين الحاكم والمحكوم لدى المجتمعات التي أشرنا إليها، وأنت خبير بأن إثبات هذا العمل بين الطرفين يقضي بتفرع القوانين وما تتضمنه من فقرات على جلب المنافع ودفع المضار دون الابتعاد عن ملازمة الصفات الحسنة أو ما تشتمل عليه الكبرى بجميع مصاديقها وإن كان بعضها لا يتناسب ورغبات الناس وذلك نظراً للاعتبارات البشرية التي يتصف بها مشرع القوانين، هذا من ناحية ومن ناحية ثانية إذا وضعت تلك القوانين بناءً على أسس مجانبة للصواب فمن الطبيعي أن تكون حجة من شرعها باطلة ومدخولة ولا ترتقي إلى تكامل الحياة الكريمة فضلاً عن الوصول بها إلى القيم الإنسانية، واعتماداً على هذا التشريع تكون جميع المواد القانونية غير منصفة لعامة الناس باستثناء الحاكم المستبد الذي وضع القانون لأجله، وإن شئت فقل ما عدا الحاكم الذي وضع القانون بأمر منه. 
وبناءً على ما تقدم يمكن معرفة مدى انتشار الظلم بين الناس على اختلاف اتجاهاتهم ومشاربهم، وهذا ما يجعل المتسلط على رقاب الناس ينظر إلى المنافع وكأنها من المسلمات التي يجب أن تقتصر على فئة خاصة لا ينالها التأثير السلبي الذي وضع في فقرات القانون، ولهذه الأسباب حدث التفريق بين قانون العقاب وما يحتويه من مواد، وبين الانحرافات ومن يقوم بفعلها، ولذلك ابتعدت السنن والنظم عن الطرق المثلى وأبدلت بالوسائط الباطلة التي اتخذت دور الشفيع في تغيير رأي الحكام أو من ينوب عنهم في تسيير القضاء الذي تصدر عنه الأحكام الظالمة، ومن هنا ترى أن كثيراً من الناس الذين وقع عليهم العقاب القاضي والموافق لنوع الجرم الثابت عليهم قد انتقل بهم الأمر إلى ما يخالف المواد القانونية المعدة سلفاً وذلك بسبب شفاعة أصحاب الشأن أو إعطاء الفدية غير المشروعة، أو الانتصار للظالم من غير وجه حق وما إلى ذلك من العلل التي جعلت العقاب يصبح برداً وسلاماً على أصحاب الجرائم الكبرى، وهذا العمل بحد ذاته يأخذ الطابع الملازم للشفاعة المبنية على الباطل.
 من هنا نعلم أن هذا القانون الوضعي ما هو إلا مثالاً مصغراً للإرث الديني الناتج عن أخطاء المجتمعات ومن يقوم بإرشادها إلى الطرق الجائرة مع ملاحظة اختلاف المسميات، ولهذا نرى أن الوثنيين كانوا يعتبرون التقرب إلى الله تعالى لا يكتب له الثبات إلا إذا كان مرتبطاً مع الأصنام التي تأخذ دور الشفيع بينهم وبين الحق سبحانه، ويمكن التعرف أكثر على هذا النهج عند الرجوع إلى متفرقات القرآن الكريم، كقوله تعالى: (ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار) الزمر 3. وكذا قوله: (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون) يونس 18. من هنا يظهر أن في الأمر نوع من الغرابة في فكرة الإله الواحد إذا ما عرضت على الوثنيين، وهذا ما يفهم من قوله تعالى: (وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب... أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب) ص 4- 5. فإن قيل: إلامَ يرجع سبب هذا الاعتقاد؟ أقول: يرجع سبب هذا الاعتقاد إلى الأفكار الهدامة والمضللة التي يغرسها الأسياد في عقول أتباعهم مما يجعلهم يظنون أن للوثن منزلة الشفيع المباشر الذي يتوسط بينهم وبين الله تعالى، ولمّا طغى هذا الأمر على اتجاهاتهم جعلوا لذلك الوثن منزلة تقتضي المساواة برب العالمين، كما يشير سبحانه إلى هذا المعنى بقوله: (تالله إن كنا لفي ضلال مبين... إذ نسويكم برب العالمين) الشعراء 97- 98. وهذا الاتجاه غير الصحيح لا يختلف كثيراً عن النهج المتبع لدى اليهود والنصارى على حد سواء.
 وقد بين الله تعالى هذا المعنى بقوله: (وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير) المائدة 18. وهذا يدل على تقارب المعتقد بين الفريقين، مما يجعل كل فريق منهما يذهب إلى أن اتخاذ الشريك المماثل لله في العبادة سيكون هو الشفيع المخلّص من النار، فالنصارى أمرهم لا يخفى على من له أدنى علم وذلك لاعتقادهم بأن عيسى هو المنقذ الذي يكون خلاصهم على يده هذا من جهة، ومن جهة ثانية نرى أن لهم اعتقاد آخر يقضي بشراكة مريم في العبادة مع الله، ولذلك جعلوها بمنزلة الأصنام التي يعتقد الوثنيون أن شفاعتها ترتجى عند الله تعالى، ومن هنا كانت تقدم لها الطقوس في دور العبادة الخاصة بهم، وهذا ما يفهم من الاستنكار الظاهر الموجه لعيسى في قول الحق سبحانه: (وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب) المائدة 116.
أمّا البنوة التي يعتقد بها اليهود فقد جعلتهم بمنزلة الأبناء من الأب، وهذا يدل على تمييز أنفسهم عن عامة الناس زوراً وبهتاناً، ومن هنا كان اعتقادهم أن النار لا تمسهم إلا أياماً معدودة، كما يتضح ذلك من قوله تعالى: (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة قل أتخذتم عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون) البقرة 80. وكذا قوله: (ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون) آل عمران 24. وكما ترى فإن هذا الاعتقاد الباطل قد وضعهم في المرتبة التي لا يعلى عليها، ولذلك كانوا يظنون أنهم أفضل من جميع الأجناس البشرية الأخرى، وقد تجد هذا الأمر أكثر تجلياً  في آية البحث التي يشير فيها تعالى إلى تحذيرهم بقوله: (واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون) البقرة 48.
فإن قيل: لمَ قال تعالى: (واتقوا يوماً) البقرة 48. علماً أن يوم القيامة لا يمكن أن يتقى لأنه سيكون مشهوداً من قبل الجميع؟ أقول: في السياق حذف أي اتقوا أهوال وشدائد ذلك اليوم، وهذا نظير قوله: (يا أيها الناس اتقوا ربكم) النساء 1. الحج 1. أمّا قوله تعالى: (فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة) البقرة 24. فهذا على بابه.
فإن قيل: لمَ قدم تعالى قبول الشفاعة في آية البحث وأخر نفعها في قوله تعالى: (واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون) البقرة 123. أقول: يرجع الفرق إلى أن آية البحث تختص باليهود الذين يميلون إلى حب المال، دون النظر إلى كرامتهم، أما الآية الأخرى فتشير إلى الذين يقدمون كرامتهم على حب المال، ومن دأب القرآن المجيء بكلا الصنفين عند الحديث عن أمر يحتاج إلى تفريق، وقد مر عليك في البحث قوله تعالى: (أياماً معدودة) البقرة 80. وقوله: (أياماً معدودات) آل عمران 24. وهذا المعنى نظير قوله: (فألقي السحرة ساجدين... قالوا آمنا برب العالمين... رب موسى وهارون) الشعراء 46- 48. وكما هو ظاهر فإن آيات سورة الشعراء تشير إلى أهمية موسى لدى مجموعة من السحرة، أما تقديم هارون على موسى في قوله: (فألقي السحرة سجداً قالوا آمنا برب هارون وموسى) طه 70. فهذا يرجع إلى اعتقاد القسم الآخر منهم، وليس في السياق ما يدل على مراعاة الفاصلة فتأمل. 
من كتابنا: السلطان في تفسير القرآن 

سورة البقرة من الآية 50 إلى الآية 52/ عبدالله بدر اسكندر

   
الحقيقة الثابتة لتوسع الكون لا تخرج عن النظام المشاهد والملموس الذي يسيّر الكائنات ويمدها بالكمال المتفرع على بقائها، وهذا ما يجعل جميع الأشياء التي ندركها أو تلك الغائبة عن حواسنا لا تختلف أو تتخلف عن قانون العلة والمعلول، وهذا القانون هو الآخر لا يستقيم ما لم يكن متدرجاً ومتحداً ضمن الأطر المترتبة على بعدي الزمان والمكان. فإن قيل: ما سبب هذا التدرج إذا علمنا أن الله تعالى قادر على كل شيء؟ أقول: قانون التدرج في الخلق هو قانون كوني يحيط بكل شيء، ولكن تفصيل خلق السماوات والأرض بصورتهما المعهودة يدلل على مدى ارتباط الإنسان بهما، وهذا ما نلاحظه من الاهتمام بأمرهما كما في متفرقات القرآن الكريم التي تظهر هذا المعنى على أتم بيان، ومنها قوله تعالى: (إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام) الأعراف 54. يونس 3. وقريب من ذلك... هود 7. الفرقان 59. السجدة 4. ق 38. الحديد 4. إضافة إلى تفصيل هذه الأيام كما في سورة فصلت، وأنت خبير بأن الله تعالى خلق جميع الكائنات قياساً إلى هذا النظام، كما يظهر ذلك من تفصيل خلق الإنسان والمراحل التي مر بها والمكونة من التراب وانتقاله إلى الطين ثم إلى الطين اللازب مروراً بالصلصال والحمأ المسنون وما يتفرع على ذلك من السلالة الطينية التي تنتهي في مرحلة الصلصال الذي يشبه الفخار.

من هنا نعلم أن هذه المراحل ترجع جميعها إلى مادة واحدة وهي مادة الطين التي كونت صورة الإنسان ثم انتقلت هذه الصورة إلى مرحلة أخرى بعد نفخ الروح الخارج عن التدرج، كما يتضح ذلك من قوله تعالى: (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) الحجر 29. ص 72. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى إذا أردنا أن نطابق هذه العملية مع التدرج الحاصل في الخلق الطبيعي للإنسان دون آدم، نجد أن هناك أطواراً أخرى يمر بها الجنين، وهذه الأطوار تنتهي بدخول الروح المجرد عن التدرج، كما في المرحلة النهائية التي دخل فيها آدم إلى الحياة، وهذا ما يفهم من قوله تعالى: (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين... ثم جعلناه نطفة في قرار مكين... ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثم أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين) المؤمنون 12- 14. ولو تأملنا الآيات آنفة الذكر لوجدنا أن المراحل المذكورة وإن اختلفت درجاتها وألوانها فهي تدل على أجزاء ميتة مرت بأطوار مختلفة، إلى أن وصلت إلى مرحلة جديدة وهي المرحلة الأخيرة التي أنشأها الله تعالى خلقاً آخر، وهذا التعبير يدل على إنزال الروح التي بواسطتها دخل الجنين إلى الحياة، ولا يخفى على المتأمل أن حياة الجنين في هذه المراحل جميعها تكاد أن تتقارب مع الحياة النباتية من حيث قيامه بالأفعال اللا إرادية.
وعند الدخول أكثر إلى متفرقات القرآن الكريم نجد أن الإشارة لهذه الأطوار تأتي على طرق مختلفة ولكنها تجتمع في غاية واحدة وهي إظهار قانون العلة والمعلول في هذا الكائن، وقد نلاحظ ذلك في قوله تعالى: (وقد خلقكم أطواراً) نوح 14. وكذا قوله: (لتركبن طبقاً عن طبق) الانشقاق 19. ولو عدنا إلى الطبيعة البشرية التي خلق فيها آدم لعلمنا أن المراحل التي تم فيها خلقه لا تختلف عن مراحل الجنين في بطن أمه وإن اختلفت المسميات والأشكال الخارجية وذلك نسبة إلى المادة التي خلق منها الإنسان، ومن هنا يمكن معرفة مدى التطابق بين خلق آدم وخلق عيسى، وعلى الرغم من أن الثاني خلق من أم دون أب إلا أن نسبة الخلق بينهما تبقى على حالها من غير تفاوت في أبعاض كل منهما، وبهذا تظهر النكتة في قوله تعالى: (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون) آل عمران 59. وهذا التدرج في الخلق يجري في جميع الكائنات التي نشاهدها على أقل تقدير. فإن قيل: إلامَ يرجع سبب التدرج في الخلق؟ أقول: يرجع السبب إلى ضعف القابل، ولهذا أسند الله تعالى أفعال الموجودات إلى التقدير المباشر، علماً أنه قادر على إيجاد جميع الكائنات بالسرعة التي لا يمكن تصورها كما بينا ذلك في معرض حديثنا إلا أن الإرادة الإلهية لا تجانب المنهج الذي تتوقف عليه المصالح والارتباطات العامة للخلق، مع بيان أنه سبحانه قد أظهر بعضاً من الحالات التي خلق فيها خلقاً آخر عن طريق الدفعة دون التدرج، ولهذا جمع كلا الصنفين في قوله: (ألا له الخلق والأمر) الأعراف 54. أي إنه جل شأنه خالق جميع الأشياء سواء كانت خاضعة لقانون السببية أو لم تكن وهذا ما يظهر من عطف الأمر على الخلق، وذلك لأجل التفريق بين الخلق الذي تتوسط به الأسباب الطبيعية وبين الأمر الذي هو خلق أيضاً لكن دون توسط الأسباب فتأمل.
وبناءً على ما تقدم يظهر أن المراد من عدم التدرج هو الفعل الإلهي المعبر عنه بلفظ (كن فيكون) كما في قوله سبحانه: (إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) النحل 40. والقول في هذا الموضع للتقريب، لأن الإنسان لا يملك الوصول إلى كنه الطبيعة التي يترتب عليها دخول الأمر إلى حيّز التنفيذ ولذلك ورد التعبير بهذا المعنى، وهناك تعبير آخر ورد في قوله تعالى: (وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر) القمر 50. وكذا قوله: (وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب) النحل 77. وكما ترى فإن المراد من هذا التعبير هو تقريب المعنى لا غير، وبهذا نصل إلى أن القاعدة التي بني عليها الخلق ترجع إلى السنن الكونية التي أوجدها الحق سبحانه، أما ما يتخلل تلك السنن من الأمور الخارقة فهذا يعد استثناءً تقتضيه حكمته تعالى لغرض معين دون أن يكون ذلك هو الأصل، وهذا هو النهج السليم الذي يجب أن يأخذ به الإنسان، لأجل أن لا يبني أفكاره على الغوامض الوهمية التي تجعله معتمداً على خرق الحوادث وتبديل السنن الكونية واللجوء إلى المهمات البعيدة عن الواقع المعاش.
فإن قيل: كيف يمكن الجمع بين الغرض المستثنى من الأصل وبين السنن الكونية التي هي الأصل، إذا ما علمنا أن الله تعالى يجعل الأمور الخارقة للعادات من الآيات التي يحتج بها على خلقه في إثبات الرسالات أو ما يتقارب مع ذلك؟ أقول: الآيات الخارجة عن السنن الكونية لا تحدث إلا في حالات معينة تقع جلها بسبب عدم تصديق المرسل إليهم برسالة النبي، بالإضافة إلى رفد الأنبياء بالنصر الذي لا يتأتى عن طريق الحالات الطبيعية وذلك لعدة اعتبارات أهمها الكثرة العددية للمرسل إليهم، أو القوة التي يملكها الطغاة ومن هنا كان للأمور الخارقة أن تأخذ دورها في إنقاذ الرسل، وقد أشار الله تعالى إلى بعض الخوارق التي نصر بها النبي (ص) في مواضع كثيرة أهمها ما حدث في معركة بدر أو الأحزاب، كما في قوله تعالى: (فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) الأنفال 17. وكذا قوله: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها وكان الله بما تعملون بصيراً) الأحزاب 9. وهذه الأمور الخارقة للعادة تجعلنا نقف أمام تلك المعجزة العظيمة التي من بها الله تعالى على بني إسرائيل إذ أنقذهم من فرعون وآله، وقد بين سبحانه هذا الأمر الخارق للقوانين الطبيعية لمن كان منهم في عهد النبي (ص) مظهراً ما جرى لأسلافهم، وذلك في قوله: (وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون) البقرة 50. فإن قيل: هل كان إخراجهم بوحي من الله تعالى أم بسبب قهر فرعون وبطشه بهم؟ أقول: على الرغم من ظلم فرعون لهم إلا أن خروجهم كان بوحي من الله تعالى، وهذا ما أشار إليه سبحانه بقوله: (ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقاً في البحر يبساً لا تخاف دركاً ولا تخشى) طه 77. وكذا قوله تعالى: (فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون... فأسر بعبادي ليلاً إنكم متبعون) الدخان 22- 23. وقوله: (وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون) الشعراء 52. ومما تقدم يظهر أن انفلاق البحر لم يكن تابعاً لقانون السببية بل كان خارج النواميس الطبيعية. 
قوله تعالى: (وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون) البقرة 51. الأربعون ليلة هي الليالي التي واعد الله تعالى فيها موسى لأجل إنزال التوراة، وفي هذه الفترة عبد بنو إسرائيل العجل بتعليم من السامري، والقصة ذكرت في أكثر من موضع وذلك ليبين الله تعالى مدى عنادهم وخروجهم عن الصراط المستقيم، والرجوع إلى تأريخهم المليء بالانحرافات، ومع كل ما ظهر منهم إلا أن الله سبحانه قد عفا عنهم، كما يتضح ذلك من قوله: (ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون) البقرة 52. والخطاب في آيات البحث موجه لليهود الذين كانوا في عهد النبي (ص) كما قدمنا، وفيها ترغيب لهم باتباع نهج القرآن الكريم، ودعوة إلى الاستقامة والابتعاد عن الطرق التي سار عليها أسلافهم فتأمل. 
 من كتابنا: السلطان في تفسير القرآن    

سورة البقرة من الآية 35 إلى الآية 39/ عبدالله بدر اسكندر

  
الفرق بين معصية آدم ومعصية إبليس لا يمكن أن يقدّر بأدلة قياسية تجعل الفارق خاضعاً للنسب القانونية بين الطرفين باعتبار أن إبليس كان عصيانه فيه نوع من التمرد على أمر الله تعالى، إضافة إلى ذلك فهو كان على علم من أن ما قام به من فعل يُعد من الأمور التي لا تليق بالمنزلة التي كان فيها، ثم إنه أثبت الكبرياء لنفسه قبال كبرياء الحق سبحانه من جهة ومن جهة أخرى جعل لنفسه الاستقلال مرجحاً المعصية على الطاعة، دون الرجوع إلى الله تعالى والتحقق من السبب الذي أدّى إلى دعوته والملائكة إلى السجود، ومن هنا أوجد لنفسه العذر الذي لا يتناسب مع ما صدر  إليه من أمر، ولذلك ترى في قوله ما يُظهر التعنت والكبر وعدم الامتثال وهذا ما يُفهم من قوله تعالى حكاية عنه: (قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين) الأعراف 12. ص 76. أما عصيان آدم فلا يعتبر عصياناً لأمر مولوي وإنما كان مخالفة لنهي إرشادي، دون أن يظهر من فعله ما يبيّن التكبر على أمر الله تعالى سواء منه أو من زوجه. فإن قيل: إذا كان الأمر كما ذكرت فلمَ خاطبهما الله تعالى واصفاً إياهما بالظلم إن اقتربا من الشجرة كما ورد ذلك في قوله: (ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين) البقرة 35. الأعراف 19. أقول: هذا نوع من ظلم النفس ولذا كان الندم الذي أبدياه مترتباً على هذا المعنى، كما هو مبيّن في قوله تعالى على لسانهما: (قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) الأعراف 23. ولذلك ترى أن هناك فرقاً شاسعاً بين المعصيتين أو هو قياس مع الفارق.


ومن خلال مجموع الآيات المتفرقة في شأن هذه الواقعة يتضح أن الجنة التي نزلا فيها لم تكن داراً للبقاء لأن الإنسان خلق لمهمة أخرى وهي النزول إلى الأرض، وهذا ما يظهر من قوله تعالى: (إني جاعل في الأرض خليفة) البقرة 30. أما دخول الجنة وما لحق به من إصدار التعاليم المتضمنة للأمر والنهي، فهذه كانت بمنزلة التدريب المعد سلفاً لأجل أن يكون الإنسان قد مارس الأفعال الموكلة إليه بطريقة عملية باعتبار أن القضايا النظرية لا تمهّد له القيام بأعباء الحياة، وما سوف يواجهه من نزغات الشيطان، وكذا ما عليه النفس الأمّارة بالسوء، فهذه الممارسات الفعلية جميعها لا يُراد منها إلا التعرف على مبادئ العيش في هذه الأرض دون الإقامة في الجنة كما في صريح الآيات التي تتحدث عن هذه الواقعة.

من هنا نعلم أن مدة المكث التي قضاها آدم في الجنة ما هي إلا مرحلة تحضيرية لأجل إعداده لمباشرة دوره في الحياة الأرضية، وما تحمله من أعباء ومشقات لأجل أن يكون مؤهلاً لتحمل المسؤوليات الملقاة على عاتقه وما تتضمنه من تكاليف تحقق له الطريقة المثلى في العيش، فهذه الأمور التي حصلت له في الجنة لا تُعد إلا نوعاً من الإنذار والتحذير من عداوة الشيطان، وفيها درس آخر بخصوص الندم والتوبة والرجوع إلى الله تعالى، وبناءً على هذا نعلم أن باب التوبة لا يسد بوجه الإنسان العاصي بل بإمكانه الرجوع إلى الله والإقلاع عن الذنب، وهذا الدرس الذي تلقاه آدم يتفرع على جميع المتناقضات التي سوف يمارسها الإنسان في هذه الأرض.

وقفة مع آيات البحث:

قوله تعالى: (وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغداً حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين) البقرة 35. كما بينا أن آدم خلق ليحيا في الأرض ويموت فيها، وإنما أسكنه الله تعالى في الجنة لأجل الاختبار والتدريب ولهذا كان النهي الموجه إليه من عدم الاقتراب من الشجرة فيه نوع من الكشف عن ضعف الإنسان أمام الأشياء التي يجهل أسرارها لا سيما إذا كان هناك عاملاً مساعداً يدعوه إلى حل الرموز التي تخفى عليه والتي يظن أن كماله يتجسد في الوصول إليها والتعرف على ما فيها من لذات ومتع تضاف إلى النعيم الذي هو فيه، ولهذا وقع آدم وزوجه في هذه المعصية. فإن قيل: النهي الموجه لآدم وزوجه كان يتمثل في عدم الاقتراب من الشجرة دون الأكل؟ أقول: إن النهي عن الاقتراب فيه مبالغة أشد من النهي عن الأكل نفسه، لأن النهي عن مقدمات الأشياء المحرمة تجعل الإنسان لا يقع فيها وذلك بسبب امتناعه عن الوصول إلى القرب منها فضلاً عن الدخول فيها، وهناك أمثلة كثيرة لهذا المعنى كما في قوله تعالى: (ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً) الإسراء 32. وأنت خبير من أن النهي عن القرب من الزنا فيه مبالغة أكثر من القول بالنهي عن الزنا وذلك لأجل قطع الوسيلة التي تؤدّي إلى ارتكابه، باعتبار أن المقدمات هي التي توقع الإنسان في هذه الفاحشة، فإذا تجنب الأسباب التي تقرب بينه وبين الفعل فههنا يكون قد عصم نفسه من الوقوع فيه.

وهذا المعنى يتقارب مع النهي المذكور في اجتناب الخمر المشار إليه في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون) المائدة 90. ولا يخفى على من له أدنى بصيرة من أن القرب من مقدمات الخمر له الدور الأكبر في ارتكاب هذه الفاحشة، ومن تلك المقدمات الجلوس مع من يتعاطى الخمر أو العمل في هذا المجال وما يلحق بذلك من نقله أو المساعدة على تهيئة الأجواء التي يمارس فيها هذا الفعل. ومنه أيضاً قوله تعالى: (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن) الأنعام 152. الإسراء 34. وكذا قوله: (ولا تقربوهن حتى يطهرن) البقرة 222. وقد جمعت هذه النواهي في الكبرى التي أشار إليها تعالى بقوله: (ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن) الأنعام 151. وبهذا يظهر أن النهي الموجه لآدم وزوجه عن القرب من الشجرة فيه تحذير أكثر من النهي عن الأكل منها.

قوله تعالى: (فأزلهما الشيطان عنها) البقرة 36. بمعنى أن الشيطان استطاع التغلب عليهما بواسطة تزيين الأمر لهما بأشكال مختلفة، كما في قوله تعالى: (فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين) الأعراف 20. وكذا قوله: (فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى) طه 120. ثم قال تعالى: (فأخرجهما مما كانا فيه) البقرة 36. وفي هذا السياق مبالغة في الوصف تناسب المقام الذي أخرجا منه وأنزلا إلى الأرض، ولو قال أخرجهما من الجنة في هذا المقام لفقد الوصف فائدته، كما في قوله: (فغشيهم من اليم ما غشيهم) طه 78. بعد ذلك عقب تعالى بقوله: (وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين) البقرة 36. ويتضح من الآية أن أمر الهبوط موجه لجميع الناس وما يقابلهم من إبليس وذريته، فيكون هبوط آدم وزوجه وإبليس هبوطاً بالفعل أما هبوط ذريتهما فهو هبوط بالقوة، وتبيان أمر العداوة يشمل الجميع سواء آدم وذريته أو إبليس وذريته، وهذا ما نشاهده في كل زمان ومكان من الحروب والقتال بين الناس.

 فإن قيل: كيف يوجّه الأمر للناس بالهبوط وهم لم يولدوا بالجنة؟ أقول: كما أشرنا فالهبوط يكون بالقوة دون الفعل باعتبار أن الجميع هم ذرية آدم، أضف إلى ذلك أن الهبوط لا يراد منه المعنى العرفي أي من الأعلى إلى الأسفل، وإنما يراد منه الانتقال من حالة إلى أخرى، كما في قوله تعالى: (قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك) هود 48. وكذا قوله: (اهبطوا مصراً فإن لكم ما سألتم) البقرة 61.

قوله تعالى: (فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم) البقرة 37. في هذه المرحلة يعترف آدم بالذنب ويتوسل إلى الله تعالى تائباً عن المعصية التي ارتكبها هو وزوجه، ولذا قابله الحق سبحانه بقبول توبتهما ملقناً إياهما بعض الكلمات التي أشار إليها في قوله: (قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) الأعراف 23. وعلى الرغم من أن آية سورة الأعراف تبيّن أن التوبة كانت قبل هبوطهما إلى الأرض إلا أن سياق القصة لا يراعى فيه التقديم والتأخير في سرد الآيات.

قوله تعالى: (قلنا اهبطوا منها جميعاً فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) البقرة 38. هنا كرر سبحانه فعل اهبطوا ليبيّن لهم أن الهبوط من الجنة أمر ثابت في علم الله تعالى بغض النظر عن ارتكاب المعصية، ولهذا شفعه بقوله: (فإما يأتينكم مني هدى... إلخ) ثم ختم تعالى القصة بقوله: (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) البقرة 39. وذلك لأجل أن يقابل الذين اتبعوا الهدى بالذين كفروا وكذبوا بآيات الله، وبهذا يسدل الستار على أول قصة في القرآن الكريم من حيث الجمع الذي بين أيدينا. 

من كتابنا: السلطان في تفسير القرآن 

سورة البقرة.. الآية 54/ عبدالله بدر اسكندر

 
الإنابة الاختيارية التي يلجأ الإنسان من خلالها إلى اتخاذ سبيل الرشاد والابتعاد عن السبل الأخرى والإصرار على عدم الرجوع إلى ما كان عليه كل هذا يدخل تحت عنوان التوبة، فإذا حصل الإنسان على نتائج هذا الأمر وتمكن من الحفاظ عليها فمما لا شك فيه سوف يكون من السعداء الذين يبدل الله سيئاتهم حسنات، وقبل الشروع في تفصيل هذه المقدمة نود الإشارة إلى أن هناك بعض الأخطاء الشائعة التي يتناقلها الناس من عدم قبول توبة المشرك وأنت خبير بأن هذا الباب لا يمكن أن يصنف إلا ضمن أبواب الباطل التي تقضي بترجيح قول على قول من غير دليل، والذي يدعو هؤلاء الناس إلى هذا الظن لا يخرج عن فهمهم القاصر لقوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالاً بعيداً) النساء 116. وقريب منه الآية 48. من نفس السورة، والحقيقة أن الآية ناظرة إلى موت الإنسان على الشرك من قبل أن يتمكن من الرجوع إلى طريق الحق، أما حكم قبول توبة المشرك فهذا لا يختلف فيه أهل العلم شريطة أن ينتقل الإنسان إلى جهة أخرى تباعد بينه وبين الخطايا التي أحاطت به في حياته الدنيا، وبهذا يكون مفهوم الآية وكذا منطوقها لا يراد منه إلا الموت على الشرك كما قدمنا، ومن هنا نعلم أن قبول التوبة يصدق على جميع الناس مهما كان نوع الذنوب التي اقترفوها فتأمل ذلك بلطف.
فإن قيل: ما هو الباعث الذي يجعل الأبواب مفتحة لأصحاب الكبائر عند الإقلاع عن المعاصي التي ارتكبوها؟ أقول: الأفعال الكبيرة التي يقترفها الإنسان قد تجرفه إلى ما هو أكبر منها وذلك بحكم الغريزة الفطرية التي تدفعه إلى جعل تلك الأفعال من المكتسبات التي لا يقوى على الابتعاد عنها أو التخلص منها، وإذا ما وصل به الأمر إلى هذه الدركات السفلى فمن الطبيعي أن يصبح لديه كسب السيئات أقرب إلى اكتسابها، مع ملاحظة بيان الفرق بين الكسب والاكتساب، وقد أشار سبحانه إلى هذا المعنى بقوله: (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) البقرة 286. ثم انتقل المعنى إلى جعل الكسب كالاكتساب، وذلك في قوله تعالى: (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس) الروم 41. وكذا قوله: (بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) البقرة 81. وهذا يدل على أن الاكتساب الذي يحتاج إلى كلفة وجهد سوف يكون كسباً وذلك بسبب تكرار الفعل، ولذا أنزل هذه المنزلة فتأمل.
وبناءً على ما تقدم يمكن القول إن التوبة شرعت من أجل الحفاظ على النظام العام وما يتفرع عليه من وحدة الأمة وأمنها، ولا يمكن أن يستقيم هذا الأمر إلا بالابتعاد عن المحرمات التي اعتاد الإنسان فعلها والتي يظن أن الخلاص منها أصبح أبعد من أن ينال، ومن هنا نرى مدى اختلاف المراحل التي يمر بها الإنسان وما يتفرع عليها من طغيانه وتجبره وصولاً إلى حاجته وفقره إلى واجب الوجود، وهذا الأمر لا يمكن أن يغيب عن أصحاب العقول الراشدة الذين يقدرون هذه الحقيقة ويجعلونها لا تخرج عن الفاقة الملازمة للمسيرة الإنسانية دون أن تفترق عنها بحال من الأحوال، ولهذا وصف الحق سبحانه حالة الإنسان قياساً إلى هذه الجهة بقوله: (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد) فاطر 15. وقد وجه النبي موسى (عليه السلام) هذا المعنى بألطف بيان كما في قوله تعالى حكاية عنه: (فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير) القصص 24. وهذه هي طبيعة النفس البشرية، وهذا هو ملاك الإنسان المتأرجح بين اليأس والرجاء، أي اليأس بسبب الحالات التي تقوده إلى الدركات السفلى، والرجاء الذي يرفعه إلى الدرجات العليا.
من هنا نعلم أن الرجوع إلى الله تعالى قد شرع بناءً على الضعف الذي يمتاز به الإنسان، ولهذا كانت توبته سبحانه متقدمة على ما يقابلها من توبة الإنسان، كما في قوله جل شأنه: (ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم) التوبة 118. وعند تأمل الآيات التي تتحدث عن التوبة يظهر أن في منطوقها أبواباً واسعة تدلل على قبولها، ولا توصد تلك الأبواب إلا بملازمة الكفر الذي يلاحق الإنسان إلى آخر مراحل حياته، ومن هذه الآيات قوله تعالى: (إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليماً حكيماً) النساء 17. وشتان بين هذا المعنى وبين اللجوء إلى التوبة عند مقاربة الموت، كما في قوله تعالى حكاية عن فرعون: (وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغياً وعدواً حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين... آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين) يونس 90- 91. وقد يُرد هذا المعنى إلى الكبرى التي بينها تعالى في قوله: (وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذاباً أليماً) النساء 18.
فإن قيل: كيف يطمع الكافر بالتوبة إذا وقع عليه الموت؟ أقول: أراد سبحانه المقاربة دون الوقوع، ولهذا جعل أعمال العباد مصحوبة بتكرار التوبة نسبة إلى مقام القرب منه جل شأنه، وقد يتضح هذا المعنى جلياً من المقام الرفيع لإبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) وكيف أبديا رغبتهما في الرجوع إليه سبحانه في جميع توجهاتهما وإن لم يصدر منهما ما يدعو إلى الندم على فعل بعينه، ولكن هذا الرجوع يبيّن حقيقة الإنسان وفقره وحاجته إلى الله تعالى، ويمكن أن يستشف ذلك من قوله: (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم... ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم) البقرة 127- 128. وكذلك ينطبق هذا الأمر على موسى، كما في قوله تعالى حكاية عنه: (فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين) الأعراف 143. وهذا يبيّن أن توبة الأنبياء لا يترتب عليها ذنب معيّن وإنما هي حالة من التسليم إليه سبحانه في جميع تحركاتهم وأفعالهم، وذلك لأجل إظهار مدى فقرهم إليه جل شأنه على الرغم من أن ليس هناك ما يدعو إلى هذا الفعل على حد تعبيرنا.
من هنا تظهر النكتة في قوله تعالى: (لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم) التوبة 117. فإن قيل: هل أن قبول التوبة يعتبر واجباً على الله تعالى؟ أقول: قبول التوبة من الحالات الاستثنائية التي يمن بها تعالى على عباده دون أن تدخل ضمن الأفعال الاضطرارية، وهذا ما يفهم من قوله تعالى: (إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفراً لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون) آل عمران 90. ولذلك فقد من الله تعالى على بني إسرائيل بأن شرع لهم التوبة علماً أن أعمالهم لا ترقى إلى هذا التشريع، وقد يُفهم هذا المعنى من التشديد المصاحب لنوع التوبة التي بينها لهم، كما في قوله تعالى: (وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم) البقرة 54.
فإن قيل: ما المقصود بقتل أنفسهم؟ أقول: القصد من ذلك قتل بعضهم بعضاً لأن النفس الواحدة تطلق على الناس الذين تجمعهم روابط مشتركة، وقد بين الله تعالى هذا المعنى في كثير من المواضع، كقوله: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم) التوبة 128. وكذا قوله: (فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم) آل عمران 61. وقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً) النساء 29. وقوله: (فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون) النور 61. وقريب منه الآية 12. من نفس السورة. وكذلك قوله: (يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون) الحجرات 11. لأن من لمز أخاه كمن لمز نفسه... وهذا الباب يحتاج إلى تأمل.
 فإن قيل: ورد في آية البحث قوله تعالى: (ذلكم خير لكم) خير لهم من أي شيء؟ أقول: خير لهم من عدم قتل أنفسهم الذي فسرناه بقتل بعضهم بعضاً، لأن توبتهم لا تقبل إلا عن هذا الطريق، ولذلك عقب تعالى بقوله: (عند بارئكم) لأجل أن يتم المعنى المقرر للفعل. فإن قيل: ما معنى الباء في قوله: (باتخاذكم العجل) أقول: الباء سببية أي بسبب اتخاذهم العجل معبوداً من دون الله، وحذف المفعول الثاني لدلالة الكلام عليه. 
من كتابنا: السلطان في تفسير القرآن  

مؤسسة المطران ميخائيل الجَميل للحوار والثقافة: لتذكر جهود العلاّمة ميخائيل الجميل في تفعيل ملف تطويب المطران الشهيد ملكي

في مناسبة تطويب المطران الشهيد ميخائيل ملكي، تدعو مؤسسة المطران ميخائيل الجميل للحوار والثقافة إلى ضرورة ابراز جهود العلاّمة المثلث الرحمات المطران الجميل في تطوير وتفعيل ملف التطويب لدى دوائر الفاتيكان نتيجة لمكانته وعمله الدؤوب كعضو فاعل في مجمع القديسين الذي تسلمه في عهد الحبر الأعظم البابا بندكتس، وهو منصب متميز تسلمه المطران الجميل بكل كفاءة وأيضاً هو أمر استثنائي في تاريخ مجمع القديسين.
واعتبرت المؤسسة أنه صار من الضروري اعتماد ما كتبه ونشره وقاله المطران العلاّمة الراحل - بالجسد - لما فيه من إثراء للوطن المشرقي والحضارة الفكرية الفلسفية اللاهوتية التاريخية.

المطران جورج بو جوده تراس قداسا لمناسبة وصول ذخائر القديسة رفقا الى ايطو



زغرتا ـ الغربة
تراس رئيس اساقفة ابرشية طرابلس المارونية المطران جورج بو جوده، قداسا احتفاليا، لمناسبة وصول ذخائر القديسة رفقا الى دير مار سمعان ايطو، من دير مار يوسف جربتا، ضريح القديسة رفقا في البترون، عاونه فيه الكهنة، طوني بو نعمه، راشد شويري، يوسف جنيد، وجوزيف ايوب، بحضور رئيسة الدير الاخت هيغات مخائيل، وجمهور وراهبات الدير وحشد من المؤمنين. 
بعد الانجيل المقدس القى المطران بو جوده عظة قال فيها:" بهذه الكلمات يُعبِّر بولس الرسول عن القيمة الخلاصيّة للألم، الذي تحوّل، مع آلام المسيح وموته من سبب لليأس إلى وسيلة للخلاص. فالكثيرون كانوا يعتقدون ويؤكّدون أنّ الألم والعذاب هو عقاب من الله يفرضه على الذي يخالف إرادته، بينما نرى على العكس ونسمع المسيح يقول لنا أنّ الله لا يريد موت الخاطئ بل توبته وعودته إليه ليحيا. إذ ليس الله من يفرض العذاب والألم على الإنسان، بل هو الإنسان من يفرض ذلك على نفسه، عندما يعتقد أنّ بإمكانه تحقيق ذاته ومبتغاه بالإبتعاد عن الله ورفضه، لكنّه لا يلبث أن يكتشف عريه ومحدوديّته، ويبتعد عن الله ويختبئ من وجهه خوفاً منه، على ما يقول سفر التكوين، بعد خطيئة أبوينا الأولين".
اضاف بو جوده:" العذاب والألم هما نتيجة موقف الإنسان الرافض لله، الذي هو بنفسه يحكم على نفسه لكنّ الله الذي بفعل محبّة خلقه، بفعل محبّة كذلك يريد أن يخلِّصه، وهذا ما يقوله يسوع بذاته لنيقوديموس في حواره معه: هكذا أحبّ الله العالم حتى أنّه بذل إبنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبديّة، ثم يعود فيؤكّد على ذلك فيما بعد عندما يقول بأنّ الحب الحقيقي يُبنى على التضحية حتى بالذات، إذ ليس من حب أعظم من حب من يبذل نفسه في سبيل من يحب".
وتابع بو جوده يقول:" القديسة رفقا التي نحتفل اليوم بذكراها، قبلت الألم والعذاب بهذا المعنى إذ كانت آلامها آلاماً خلاصيّة، لم تسعَ إليها حباً بها، بل مشاركةً منها في آلام المسيح. والآلام التي عانت منها رفقا لم تكن فقط آلاماً جسديّة، بل كانت قبل ذلك أيضاً آلاماً نفسيّة وعائليّة وإجتماعيّة، ولربما تكون هذه الآلام مرّات كثيرة أشدّ إيلاماً من الآلام الجسديّة. ومن أهمّها موت والدتها وهي في السابعة من عمرها، وإضطرارها للعمل كخادمة في إحدى العائلات في دمشق مدّة أربع سنوات، ثمّ زواج والدها من إمرأة ثانية والخلاف بين خالتها، أُخت أُمها، التي كانت تريد تزويجها بإبنها، وزوجة والدها التي كانت تريد تزويجها بأخيها، وسماعها للمشادة التي حصلت بين الإثنتين وهي عائدة من العين إلى البيت، حاملة جرّة الماء، وإستياءها من ذلك وحزنها".
وختم بو جوده عظته:" إنّ الآلام التي عانتها رفقا في حياتها الشخصيّة شبيهة بالآلام التي نعاني منها جميعاً في هذه البلاد منذ سنوات طويلة. لقد أُصبنا بالعمى الإجتماعي والأخلاقي في لبنان فأصبحنا وأصبح المسؤولون عنّا لا يرون إلاّ مصالحهم الشخصيّة. كما تفكّكت روابط الوطن الذي أصبح المسؤولون فيه يتناتشونه كلّ من مصلحته، ففكّكوه وفكّكوا أوصاله وما زالوا على موقفهم ثابتون لا يعرفون أن يتنازلوا ولو قليلاً عن أنانيّتهم كي يصحّحوا أوضاع البلاد. فلنطلب من الرب اليوم نعمة الثبات في الإيمان والقبول بما يرسله لنا من صعوبات في حياتنا قد تُسبّب لنا الإزعاج مرّات كثيرة، ولكنّها بالتأكيد توصلنا إلى الخلاص إذا ما قبلنا بها وقلنا مع أيوب البار الرب هو الذي يعطي وهو الذي يأخذ، فليكن إسمه مباركاً... وإنّنا كما نقبل منه الخير نقبل منه كذلك الألم والعذاب، كي نستحقّ الخلاص والعيش معه في السماء". 

سورة البقرة من الآية 30 إلى الآية 33/ عبدالله بدر اسكندر

 
قوله تعالى: وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين... قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم... قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون.

الآيات آنفة الذكر تبين المرحلة البدائية لخلق الإنسان وتهيئته لعمارة الأرض إضافة إلى تعليم الله تعالى إياه الأسماء وما ظهر من عجز الملائكة عن الوصول إلى معرفتها وهذه المرحلة تُعد من المراحل العظيمة التي تحتاج إلى تفهم أوسع لتفاصيلها دون المرور العابر على مجريات أحداثها، وذلك لأنها تمثل المفهوم العام للدور الكبير الملقى على عاتق الإنسان والذي أطلق عليه القرآن الكريم مصطلح الخلافة، ولهذا فقد أخرج الحق سبحانه هذه الفكرة المتضمنة للحوار الدائر بينه وبين الملائكة وما فيه من الأسرار من القوة إلى الفعل، باعتبار أن خلافة الأرض وتعميرها قد يعطي الأولوية لهذا الكائن الذي فضله الحق سبحانه وجعله على رأس المخلوقات الأخرى شريطة الإيفاء بالعهد المتفرع على مجموعة من المصاديق أهمها الإقرار بوحدانية الله تعالى، وعند تحليل هذه الظاهرة نصل إلى نتيجة مهمة يتضح على ضوئها أن ما حدث في الملإ الأعلى لا يقتصر على شخص آدم وإن كان هو الرمز المقدم في بناء الفكرة المتضمنة للحوار وإنما يمتد ليشمل النوع الإنساني، وهذا الحوار يمكن أن يؤخذ على حقيقته المشار إليها في سياق الآيات، أو أن نستنبط حقيقة أخرى يتضح على أثرها أن الله تعالى قد جعل من ذلك الموقف أمراً يتقارب مع إعمال الجهد الفكري، لكي يصل الإنسان إلى أسرار بعيدة عن التفاصيل المبينة في الآيات التي تتحدث عن الواقعة، وبطبيعة الحال إذا سلمنا بصحة الوجه الثاني لا يمكن أن نصل إلى البيان كما هو مفصل في الوجه الأول، وبهذه الحالة نحتاج إلى فهم الصورة من جانب آخر.

فإن قيل: إذا اعتمدنا الوجه الثاني نكون قد خرجنا عن منطوق الآيات وكذا مفهومها فكيف الجمع؟ أقول: متابعة القواعد القرآنية في التأويل لا تخرج عن المفهوم العام للقرآن الكريم وذلك لوجود التماثل الذي لا يقبل اللبس في جميع مواضعه، وعند دراسة التطابق الذي يربط بين تلك المواضع سيكون الوجه الثاني أظهر بياناً وأكثر تقبلاً لدى المتلقي، دون نسبة ذلك التأويل إلى باطن القرآن أو إلى التفسير الإشاري أو أي وجه  لا يتقارب مع القواعد القرآنية، وعند الأخذ بهذه الطريقة سوف نصل إلى تحليل يمهد لنا فهم الآيات المرتبطة في خلق السماوات والأرض، ثم بعد ذلك نقوم بعرضها على موضوع الخلافة، وبعد هذه المرحلة نحصل على المطابقات الضرورية التي تبين حقيقة الخلق وتسرد تفاصيلها على أتم وجه، ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى: (قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداداً ذلك رب العالمين... وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين... ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين) فصلت 9- 11. وكذا قوله: (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً) الأحزاب 72.

وبالإضافة إلى ما قدمنا فهناك الكثير من الصور التقريبية التي يريد القرآن الكريم أن يضع الإنسان أمامها من أجل الإلمام بالفكرة التي ترشده إلى مسؤولياته وتبين له المهمة الملقاة على عاتقه، وبطبيعة الحال فإن الإنسان لا يمكن أن يحيط بهذه الأفكار لو لا أن الله تعالى قد أطلعه عليها دون الأجزاء الخافية التي لا شأن له فيها باعتبارها خارجة عن أسباب خلقه وعن المؤهلات التي تربطه بدوره في هذه الأرض، وهذا ما أشار إليه سبحانه بقوله: (ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضداً) الكهف 51. وكذا قوله: (ما كان لي من علم بالملإ الأعلى إذ يختصمون) ص 69. 

وبناءً على اعتمادنا لهذا الوجه يظهر أن الحوار الذي دار بين الحق سبحانه وبين الملائكة ما هو إلا مثالاً يقرر الطبيعة الأولية لفهم المراد من البيانات القرآنية التي تحتاج إلى ما يقربها إلى الأذهان، ولهذا أنزلها الله تعالى منزلة المثال الحسي دون الإشارة إلى التفاصيل الأخرى التي جرى على أثرها الحوار المشار إليه، وفي كلتا الحالتين تكون المفاهيم الغامضة قد وصلت إلى المتلقي وجعلته على يقين من فهم الحكمة من خلافة الإنسان في الأرض من جهة، ومن جهة ثانية بينت له أن هذه الظاهرة على الرغم من تفريقها بين أبعاد القضية الخافية إلا أنها تثير مسألة غاية في الدقة وهي أن نظرة  الملائكة كانت مقتصرة على توجه الإنسان إما إلى الطاعة وإما إلى العصيان، وهذا ما جعلهم يبدون موقفهم من التسبيح والتقديس الذي أشار إليهما القرآن الكريم باعتبارهما مانعاً يحول بين تقبلهم للأمر وبين خلافة الإنسان في الأرض، ولذلك جاء الرد مناسباً إلى اعتقادهم الذي وقفوا عنده، كما في قوله تعالى: (إني أعلم ما لا تعلمون) البقرة 30. 

من هنا يظهر أن الله تعالى قد بيّن لهم الفرق بين نظرتهم البعيدة عن فهم مجريات الأحداث وما يتصل بها من تفاصيل خلق الإنسان الأول، وبين الكيفية التي تُبيّن التزامهم بظاهر الأمور دون الدخول إلى باطنها، باعتبار أن النظام الكوني الذي جعل الله تعالى له مجموعة من القوانين لا يمكن أن يستقيم فيه الاختبار وما يتفرع عليه من استحقاق إلا بوجود الحق والباطل جنباً إلى جنب، مما يفضي إلى ظهور الخير والشر وكذا الطاعة والعصيان وما إلى ذلك، وهذه الاختلافات قد يتعيّن على أثرها الدور الكبير في التمحيص، وإظهار ما ينشأ منها على الوجه الذي أراده الحق سبحانه، وهذا ما يُستشف من قوله تعالى: (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين... إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين) هود 118- 119. وبناءً على ما تقدم تتضح الصورة التي تقارن بين خلق الإنسان وبين الاعتراض وإن شئت فقل الاستفسار الصادر من الملائكة، وعند الجمع بين الحالتين تظهر الخلاصة التي ينتج منها مدى التلازم بين إقرار الملائكة واعترافهم وذلك بعد عجزهم عن معرفة الأسماء، وبين إعطاء الدور الريادي للأنسان بعد مرحلة اجتياز الاختبار.

 فإن قيل: ما هي الأسماء التي علمها الله تعالى لآدم والتي لم يصل الملائكة إلى التعرف عليها؟ أقول: الأسماء التي علمها الله تعالى للإنسان متمثلاً بآدم هي أوليات العلوم التي ألهمها إياه وجعلها في فطرته بطريقة تكوينية، ولهذا جعل النتائج مترتبة عليها باعتبار أن أي نوع من العلوم لا يمكن الإحاطة به ما لم تكن له أوليات ترشد أصحاب الاختصاص للوصول إلى نتائجه، وبالتالي ترتبط تلك النتائج بالمقدمات مما يجعل للتشعبات أثراً في إرجاعها إلى أصلها عند التحليل المتفرع على الأسماء، وفي هذا دليل على أن ما عرض على آدم لا يخرج عن نتائج العلوم دون أولياتها التي عرضت كذلك على الملائكة، وإلا لم يكن هناك تفاضلاً للإنسان في حال تعليمه الأسماء دون الملائكة، ومن هنا حصل على التفاضل بعد أن عجز الملائكة عن معرفة النتائج، وأما تعليم الأسماء فقد كان مفهوماً بالضرورة لكلا الطرفين فتأمل.

فإن قيل: إذا كان التعليم يختص بأوليات العلوم ألا يتعارض هذا المعنى مع الآية التي تنسب الكلية للأسماء؟ أقول: تطلق الكلية ويراد منها الجزئية في كثير من الآيات، إضافة إلى أن تقييد الكليات يرتبط بالقرائن التي يشير إليها السياق، بدليل قوله تعالى: (ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون) الأعراف 156. وهذا يدل على أن رحمته تعالى قد وسعت كل شيء إلا أنها سوف تقتصر على الذين يتقون والذين صرح بصفاتهم بعد الإبهام، وعند وصول جميع الناس لتلك الصفات فالكلام يؤخذ على بابه، أما في حال عجز القسم الأكبر منهم عن شروط التقوى فإن الكلية يجب أن لا تفهم على إطلاقها.

من كتابنا: السلطان في تفسير القرآن   

سورة البقرة.. الآية 25/ عبدالله بدر اسكندر


 الكمال الذي يسعى إليه الإنسان لا يتحقق من خلال الطرق التي لا تلتقي مع الثوابت العملية قياساً إلى المحيط المادي الذي يركن إليه وهذا ما يسبب التباعد بينه وبين قدسيته التي ينبغي أن يكون عليها، أما في حالة التقارب النسبي فقد يتمكن من الحصول على المعارف الأولية التي يتبين له من خلالها فهم أحد أجزاء الحقائق المجردة التي لا يستطيع الاحتفاظ بتجلياتها على سبيل الإجمال فضلاً عن التفصيل وذلك نظراً إلى العادة والدأب المادي الذي لا يقدر على الخلاص منه بوجه، وبناءً على هذا فإن الفطرة التي يهتدي بواسطتها إلى بعض الدلائل الروحية بين فترة وأخرى لا تمهد أمامه جميع الوسائل التي تتعلق بالرؤى التي يلازمها الخفاء وبالتالي تتباين لديه مراحل الحصول على التكامل الذي يكون بمنأى عنه ولهذا يصعب عليه إبصار الحقائق بالإدراكات المجردة. ومن هنا فإن القرآن الكريم يذكّر الإنسان صعوداً ونزولاً نحو هذه الحقائق فمن جهة يبين له العهد التكويني المأخوذ عليه سلفاً ومن جهة ثانية يجعله وجهاً لوجه أمام المراحل التي سيصير إليها بعد هذه النشأة. 
 ويشهد للجهة الأولى قوله تعالى: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين... أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون) الأعراف 172- 173. أما الجهة الثانية فيشهد لها قوله تعالى: (لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد) ق 22. وعند البحث عن المفاهيم التي تبين الجهة الأولى التي تشير إليها آية الذر نصل إلى خلاصة مهمة يتضح على ضوئها أن العهد الذي أخذ على الإنسان لا يبتعد كثيراً عن الأسس التكوينية التي تبنى عليها الضوابط التشريعية لا سيما إذا تم توجيه الإدراكات التي تنشأ مع الإنسان إلى وجهتها الصحيحة والتي يستطيع عند الأخذ بها أن يميز بين الحُسن والقبح على الرغم من تشعب الاتجاهات أو الطرق التي يعتمدها باعتبار أن الأصول الفطرية لا يمكن أن تستحدث وإنما يصدق عليها البعث والإيقاظ، وعلى هذا التقدير لا يحق للإنسان بعد التشريع أن يلجأ إلى الأعذار كما هو الحال في كثير من الناس الذين يزعمون عدم وصول الأنبياء إليهم.
 وبناءً على هذا المفهوم نصل إلى النتيجة التي تبين أن العهد الذي أشرنا إليه لا يفترق عن المجموع الكلي للدلائل والبراهين التي جعلها الله تعالى في فطرة الإنسان، ومن هنا تظهر النكتة في قوله تعالى: (قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين) الأنعام 149. أما الجهة الثانية فإن شرائطها تستمد من الجهة الأولى ولكن بطريقة أقرب إلى رؤية الآثار التي تدلل على وجود الصانع والتي يشعر بها الإنسان في كل شيء يحيط به ابتداءً من نفسه، كما في قوله تعالى: (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) الذاريات 21. وقياساً إلى هذا النهج يمكن القول إن جميع الدلائل التي تعترض الإنسان سواءً في السماء أو في الأرض تكون شاهدة على وحدانية الله تعالى من وجه ومتممة الحجة على العقلاء من وجه آخر، ولأجل هذا الغرض فإن القرآن الكريم يذّكّر الإنسان بهذه الحجة في النشأة الأخرى، كما في آية سورة ق آنفة الذكر والتي تبين أن الحجج والبراهين تكون حاضرة أمام الإنسان في النشأة الأولى التي علمها إلا أن هناك غطاءً يسترها جرّاء أفعال الإنسان التي لا تسمو إلى المنزلة التي يجب أن يكون عليها علماً أن الغطاء لا يكشف إلا عن شيء مشهود، وهذا ما يوحي بالارتباط الوثيق بين الدنيا والآخرة وذلك للتشابه الذي تجمعه المفاهيم وتفرقه المصاديق مع الاعتراف بالزيادة التي أعدها الله تعالى لتلك الدار.
وبناءً على ما قدمنا لا يمكن أن نغفل المسميات التي تأخذ نفس الصفات المتقاربة بين النشأتين وإن كانت النشأة الأخرى توحي بالمثالية شريطة أن تتجلى نتيجة الأعمال الخاصة بها حسب المراتب التي حصل عليها الإنسان في النشأة الأولى فتأمل. وعلى هذا التقدير نفهم أن الحق سبحانه عندما يشير إلى الملذات والمتع التي أعدها لتلك النشأة يربط بينها وبين ما هو مألوف في هذه النشأة مع ذكر الزيادة التي بيناها من خلال البحث، كما في قوله تعالى: (مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم كمن هو خالد في النار وسقوا ماءً حميماً فقطع أمعاءهم) القتال 15. وكذا قوله: (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاءً بما كانوا يعملون) السجدة 17. وقوله: (وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم) التوبة 72. وقوله تعالى: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون) يونس 26. 
وعند تأمل الآيات آنفة الذكر يمكن التعرف على الزيادة النوعية التي تظهر في كل واحدة منها والتي لا تتصف فيها هذه النشأة إلا بوجه، وهنالك آيات كثيرة تشير إلى المطاعم والمشارب دون أن تختلف في الأسماء عن هذه النشاة ولكن الاختلاف يحصل في المذاق وهذا ما يفهم من الزيادة المقررة كما أسلفنا وأنت خبير من أن لكل الأشياء المعدة للإنسان في تلك النشأة أمثلة نألفها هنا، وبناءً على هذا فإن الحق سبحانه يدعو الإنسان أن يحصل من خلال سلوكه على ما أعد له هناك مع ترتيب الزيادة المعنوية التي تضاف إلى الزيادة المادية التي يندر الوصول إليها هنا إن لم يكن مستحيلاً، كما في قوله تعالى: (ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً على سرر متقابلين) الحجر 47. وقريب منه الأعراف 43. والغل الذي ينزع من الصدور وإن كان يختص بتلك النشأة إلا أن فيه دعوة مبطنة للناس من أن يكونوا على هذه الحالة في هذه النشأة، ولكن هذه الدعوة لا يمكن أن تتحقق في الدنيا بسبب العلائق المادية التي تحول بين الإنسان وبين وصوله إلى تلك المرحلة، ومن هنا نعلم أن تلك الزيادات هي من خصائص الدار الآخرة مع الاحتفاظ بتشابه الأسماء دون الأوصاف فتأمل.
من هنا يظهر أن الثمر الذي يرزق به أهل الجنة يكون متشابهاً مع ثمر الدنيا في الأسماء والألوان دون النوعية والصفات، وهذا ما بينه تعالى بقوله: (وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقاً قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابهاً ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون) البقرة 25. وسياق الآية يوحي أنها معطوفة على ما قبلها من الآيات التي أشارت إلى الوعيد وهذا هو أسلوب المثاني في القرآن الكريم فكلما يتحدث عن الكافرين يقابل ذلك بالحديث عن المؤمنين أو العكس. قوله تعالى: (وبشر) البشارة: هي الخبر المفاجئ الذي يغير بشرة الوجه إما إلى السرور وإما إلى الحزن إلا أن استعماله كثر في المعنى الأول حتى أصبح لا يفهم من البشرى إلا الخبر السار وكأن المقابل قد هُجر دون تبيان الوجه الثاني للمعنى، ولهذا فإن المصطلح لا يقيّد إلا في الحزن، كما في قوله تعالى: (فبشرهم بعذاب أليم) آل عمران 21. قوله تعالى: (الذين آمنوا) بكل مصاديق الإيمان ومن تلك المصاديق الإيمان بالله وملائكته ورسله وكتبه واليوم الآخر وكل ما يترتب على ذلك من آثار.
 ثم بين الله تعالى أن الإيمان دون العمل الصالح لا يمكن أن يستقيم، ولهذا قال: (وعملوا الصالحات) قوله تعالى: (أن لهم جنات) جنات: جمع جنة وهي الأشجار الكثيفة التي تغطي الأرض وفي أصل الوضع ما يشير إلى التغطية والستر، كما في مشتقات هذا المصطلح... من جن وجنون وجُنة وجِنة وجنين. قوله تعالى: (تجري من تحتها الأنهار) أي يجري ماء الأنهار من تحت أشجارها لأن الأنهار لا تجري وهذا من باب التوسع. قوله تعالى: (كلما رزقوا منها من ثمرة رزقاً) أي أعطوا من خير الله تعالى. قوله تعالى: (قالوا هذا الذي رزقنا من قبل) أي رزقنا هذا في الدنيا لعدم اختلاف الأسماء والألوان دون المذاق كما قدمنا، ولهذا صدقهم الحق بقوله: (وأتوا به متشابهاً) ثم قال: (ولهم فيها أزواج مطهرة) أي: مطهرات من جميع الصفات المادية والمعنوية، ويشهد للأولى قوله تعالى: (لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان) الرحمن 74. ويشهد للثانية قوله: (حور مقصورات في الخيام) الرحمن 72. وقد جمع تعالى كلا المعنيين في قوله: (فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان) الرحمن 56. قوله تعالى: (وهم فيها خالدون) أي لا يعتريهم الفناء والزوال بعد دخولهم الجنة ومصطلح الخلود يعني البقاء الأبدي الذي يكون مسبوقاً بالعدم، ولهذا فإن الخالد لا يعتبر من أسماء الله تعالى وما تجده هنا أو هناك فهو من الأخطاء الشائعة فتأمل. 

من كتابنا: السلطان في تفسير القرآن    

سورة البقرة من الآية 45 إلى الآية 46/ عبدالله بدر اسكندر


ربما يجد الإنسان بعض المصاعب في تفسير ظاهرة العبادة المادية التي تتفرع على الأصنام وما يلحق بها، ولكن هذه المصاعب سرعان ما تتلاشى إذا علم أن السبب المباشر لتلك العبادة يرجع إلى تقديس أولئك الناس لأشخاص يحسبون في نظرهم من الأتقياء، ولهذا جعلوا الصور أو المنحوتات التي يعبدونها قائمة مقامهم، ومن هنا كان ترجيحهم لا يخرج عن هذا الاتجاه، ثم بعد ذلك ابتعدت هذه العبادة عن حقيقتها حتى كاد أن يوجّه النظر إلى الأصنام وليس إلى الأشخاص الذين أصبحت قدسيتهم شيئاً من الماضي، ولا يخفى على ذوي البصائر من أن هذا السلوك لم يأت من فراغ وإنما كان مخطط له من قبل الأسياد الذين لا يستقيم لهم البقاء إلا بهذا العمل الذي استند على دراسة موثقة حتى أصبح هناك فارقاً كبيراً بين العبادة التي تأصلت لدى الأتباع وبين الأسياد أنفسهم، وعند المرور بآثار الطغاة في القرآن الكريم نلاحظ أن  فرعون الذي قال أنا ربكم الأعلى من جهة، قد اتخذ لنفسه آلهة من جهة أخرى، ولهذا ترى أن الملأ من قومه قد أشاروا إلى هذة الحقيقة، كما نقل تعالى ذلك حكاية عنهم في قوله: (وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك) الأعراف 127. وفي هذا دليل على أن لفرعون آلهة، واعلم أن هذا التوجه يجري في كثير من الأقوياء الذين يستضعفون بعض الناس ويجعلونهم عبيداً لهم، وفي نفس الوقت تجدهم يعبدون أصناماً يصنعونها بأيديهم.
فإن قيل: من الملاحظ أن هذه العبادة لم تقتصر على الهالكين في المرحلة التي سبقت الفترة وإنما امتدت عبر مساحات زمنية أخرى فكيف الجمع؟ أقول: السبب الذي يجهله كثير من الناس في اتخاذ هذا النهج يُرد إلى عدم تمكن الإنسان من الحصول على التجرد التام من الماديات، ولهذا أصبح هناك مانعاً يحول بينه وبين الشروط التي فرضها الحق سبحانه، وأنت خبير من أن هذا الأمر يتطلب الابتعاد عن العناوين العريضة التي يخفيها المترفون من أجل إضلال أتباعهم، ولو حدث العكس لذهب عن المترفين سلطانهم، وبالتالي لم يجدوا ما يقوّم اتجاهاتهم الباطلة، ولهذه الأسباب أخذ طابع تأليه البشر يمتد عبر الزمن دون أن يتوقف، ولذلك انتقل اليهود من مرحلة إلى أخرى حتى نسبوا بنوة عزير لله تعالى، ثم لحق بهم النصارى في نفس الاتجاه، ولا يخفى على أصحاب العقول الرشيدة من أن البنوة تقتضي المماثلة، ولهذا وبخهم الحق سبحانه بقوله: (وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون) التوبة 30.
فإن قيل: هل يشمل هذا الاعتقاد جميع اليهود أو النصارى؟ أقول: هذا الاعتقاد لا ينطبق على جميع اليهود أو النصارى، وإنما هو من باب إطلاق الكل وإرادة الجزء، كما في قوله تعالى: (وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكاً) المائدة 20. والتأريخ يثبت أن الملك لم يتحقق إلا لبعض منهم، وكما هو ظاهر فإن هذا النوع من الاعتقاد يلازم الماديات في جميع حالاتها، وما عبادة العجل إلا واحدة من تلك العبادات، إضافة إلى توسلهم بموسى من أن يجعل لهم إلهاً، وذلك بعد أن أتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم، وقد نقل القرآن الكريم هذه الواقعة حكاية عنهم، في قوله تعالى: (وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون) الأعراف 138. وهذا يدل على أن أولئك الناس ليس لديهم القدرة على بذل الجهد الفكري من أجل الوصول إلى عبادة الحق سبحانه. فإن قيل: ما الفرق بين هذا الاتجاه وبين العبادة الحقيقية المتمثلة بالصلاة، علماً أن الثانية لا تؤدّى إلا إذا كانت علائقها لا تنفك عن الماديات المشاهدة؟ أقول: اعتماد دين الله تعالى على هذا الأمر يتفرع إلى عدة أسباب لا يمكن حصرها في هذا البحث ولكن يمكننا الإشارة إلى جزء منها، وهذا الجزء لا ينفك عن الالتزام المباشر في العبادات المشاهدة لدى مجموعة كبيرة من الناس، ولذلك ترى أن المصاديق الفرعية لا تخرج عن المفهوم العام المرتبط في بيت الله تعالى، وإن لم يكن هو المقصود في أداء الشعائر على جوهرها الروحي، مع ملاحظة أن الله تعالى قد وصفه بأبهى بيان وذلك في قوله: (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين) آل عمران 96. 
وبناءً على هذا التمهيد يظهر أن تشريع الصلاة اتخذ الجانب المشترك بين الماديات والمعنويات، لأن الخشوع إذا اختص به القلب دون الجوارح فقد يصبح الخالق كالمخلوق، بناءً على تصنيفه ضمن الأمور الدنيوية التي يطمع الإنسان أن يجعلها خاضعة لتفكيره وبالتالي تكون الصلاة التي هي عمود الدين أمراً معنوياً ليس إلا، وفي هذه الحالة قد يفقد الدين أهم مقوماته، ولذلك جعل الله تعالى للصلاة أوقاتاً مفروضة لا يمكن للإنسان أن يتخلف عنها، ومن هنا فقد أمره بأدائها لأجل الإشارة إلى هذا الركن المهم، وكما هو ظاهر فإن هذا العمل لا يدخل في العبثية التي يميل إليها أهل الكتاب الذين يتخذون من الصلاة فرصة للقاء الخالق متى ما رغبوا في ذلك، حتى أخذ هذا اللقاء طابعاً آخر لا يتعدى إلى أكثر من مرة في كل سبعة أيام، إضافة إلى خلو تلك العبادات عن الروح المثالية التي يجب أن يرتبط بها الإنسان مع الخالق جل شأنه، لأن أصل الصلاة مأخوذ من الدعاء عند الوضع، وهذا ما جعل منها علماً على هذه الحركات المتعارف عليها دون الرجوع إلى أصل التسمية.
وعند تأمل متفرقات القرآن الكريم نجد أن لهذا المصطلح مجموعة من المصاديق تتفرع على الأصل الذي لا يخرج عن معنى الدعاء، كما في قوله تعالى: (هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيماً) الأحزاب 43. وكذا قوله: (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً) الأحزاب 56. وقوله: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم) التوبة 103. وهنا أتى بالصلاة على بابها، علماً أن هناك موضعاً قد أنزلها تعالى فيه منزلة المكاء والتصدية تهكماً، وذلك في قوله: (وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون) الأنفال 35. وقد أشار تعالى إلى الصلاة عند تفريقها عن المشتركات العرضية بالمعنى المراد منها دون اللفظ، وذلك في قوله: (قل ما يعبأ بكم ربي لو لا دعاؤكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاماً) الفرقان 77. بمعنى أنكم لا تستأهلون شيئاً من العبء بكم لو لا صلاتكم التي تدخلون بواسطتها إلى الجمع المشار إليه في كثير من المواضع، لأن طبيعة الكائن الحي تكمن في تلاحمه مع أقرانه.
 من هنا نجد أن الأوامر العبادية تسير بهذا الاتجاه، كما في قوله تعالى: (اهدنا الصراط المستقيم... صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين) فاتحة الكتاب 6- 7. وكذا قوله: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) المائدة 55. وقوله تعالى: (قد أفلح المؤمنون... الذين هم في صلاتهم خاشعون) المؤمنون 1- 2. وبهذا تظهر النكتة في الخطاب الموجه لبني إسرائيل والذي يأمرهم الله تعالى من خلاله بالاستعانة بالصبر والصلاة، وذلك في قوله: (واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين... الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون) البقرة 45- 46.
فإن قيل: إلامَ يعود الضمير في قوله: (وإنها لكبيرة) البقرة 45. إلى الصبر أم إلى الصلاة؟ أقول: يحتمل أن يعود الضمير إليهما معاً، وبهذا يكون السياق نظير قوله تعالى: (وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها) الجمعة 11. ولم يقل إليهما، وذلك لاشتراك اللهو والتجارة في نفس الغرض المؤدّي إلى إبعاد المؤمنين عن الصلاة، ومنه قوله تعالى: (يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين) التوبة 62. لأن النتيجة الفعلية لإرضاء الله تعالى والرسول (ص) لها نفس المشتركات. فإن قيل: لمَ لا تثقل الصلاة على الخاشعين؟ أقول: لا تثقل عليهم لأنهم يعلمون علم اليقين أن هذا العمل سيقربهم إلى الله تعالى فضلاً عن ملاقاته والرجوع إليه، ولهذا علل تعالى هذا الأمر بقوله: (الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون) البقرة 46. أي الذين يوقنون أنهم ملاقوا ربهم، وكما ترى فقد أطلق تعالى الظن وأراد منه اليقين، وهذا نظير قوله: (قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة) البقرة 249. وكذا قوله: (وظن أنه الفراق) القيامة 28. وقوله: (إني ظننت أني ملاق حسابيه) الحاقة 20. فإن قيل: كيف السبيل إلى معرفة المراد من الظن في متفرقات القرآن الكريم؟ أقول: يُفهم هذا المعنى من خلال السياق أو بواسطة القرائن العقلية فتأمل. 
من كتابنا: السلطان في تفسير القرآن
    

تذكية إبراهيم الخليل/ نسيم عبيد عوض

آمن إبراهيم بوعود الرب المستقبلية له وكقول الكتاب " فآمن بالرب فحسبه له برا"تك15: 6‘ وقطع الرب ميثاقا مع إبراهيم ووعده بابن الموعد اسحق الذى من نسله تتبارك جميع قبائل الأمم( المسيح)‘ وأصبحت مكانة ابراهيم عند الرب عظيمة  جدا حتى انه يقول عنه " هل أخفى عن ابراهيم ما انا فاعله" ؟(تك18: 17و18‘ وابراهيم يكون أمة كبيرة وقوية ويتبارك به جميع قبائل الارض‘ وسمح الرب لإبراهيم ان يتشفع عنده عن أهل سدوم وعمورة من أجل لوط ابن أخيه ‘ وسمح له يدالته عنده ان يقول للرب" أفتهلك  المكان ولا تصفع عنه ...‘ حاشا لك ان تفعل مثل هذا الامر ان تميت البار مع الاثيم ‘ أديان كل الارض لا يصنع عدلا"تك18: 33-35‘ وقد عاد ابراهيم وقال " انى شرعت أكلم المولى وانا تراب ورماد ‘ وظل ابراهيم قائما امام الرب يتشفع والرب يسمع له ويجاوبه ‘ هكذا كانت لإبراهيم دالة عند المولى فاستحق ان يسمى خليل الله.

الإمتحان القاسى

ولكى يتذكى ابراهيم امام الله ويثبت فى الإيمان بقوة نهائية ‘ حدث ان الله امتحن ابراهيم امتحانا صعبا لا يستطيع بشر اجتيازه ‘ قال له الرب " خذ ابنك وحيدك الذى تحبه اسحق واذهب الى ارض المريا واصعده هناك محرقة على احد الجبال الذى أقول لك."تك22: 1 ‘ ولا يستطيع بشر وصف مشاعر ورد فعل واحاسيس ابراهيم فى تلك اللحظة ‘ ولكن الوحى الإلهى يقول لنا" فبكر ابراهيم صباحا وشد على حماره واخذ اثنين من غلمانه معه واسحق ابنه وشقق حطبا لمحرقة وقام وذهب الى الموضع الذى قال له الله."تك22: 2 ‘ ولذلك يقسم الله بذاته لإبراهيم ويجدد العهد معه بكل قوة " بذاتى أقسمت يقول الرب . انى من اجل انك فعلت هذا الامر ولم تمسك ابنك وحيدك . اباركك مباركة واكثر نسلك تكثيرا كنجوم السماء وكالرمل الذى على شاطئ البحر.ويرث نسلك باب اعدائه .ويتبارك فى نسلك جميع أمم الارض من أجل انك سمعت قولى." تك22: 15-18.

بدأ تكوين شعب بني اسرائيل

وشاخ ابراهيم وتقدم فى الايام كقول الكتاب (تك24: 1)‘ وارسل وأخذ رفقة بنت بتوئيل الارامى ابن ناحور أخ ابراهيم زوجة لإبن الموعد اسحق وهو فى الاربعين من عمره   ‘ وقد تزوج ابراهيم قطورة فولدت له زمران ويقشان ومدان ويشباق وشوحا ‘ وهؤلاء الخمسة هم آباء جميع القبائل الموجودة فى شرق الاردن وشمال الجزيرة العربية وسيناء ‘ وعاش ابراهيم 175سنة ‘ وقد اهتم الوحي الإلهى ان يقول عن ابراهيم "واسلم الروح ومات بشيبة صالحة شيخا وشبعان أياما وانضم الى قوله."تك 25: 8 وولد لإسحق عيسو ويعقوب ‘ ومن يعقوب جاء شعب بنى إسرائيل.

ظهور الرب ليعقوب

بارك اسحق ابنه يعقوب قبل ان يرسله الى فدان ارام عند بتوئيل ابى أمه ‘ وباركه مباركة خاصة ‘ " والله القدير يباركك ويجعلك مثمرا ويكثرك فتكون جمهورا من الشعوب. ويعطيك بركة ابراهيم لك ولنسلك معك . لترث الارض ارض غربتك التى اعطاها الله لإبراهيم.تك28: 3و4. فخرج يعقوب من بئر سبع وذهب نحو حاران ‘ وصادف مكانا وبات هناك‘ واخذ حجرا ووضعه تحت رأسه ونام‘ "ورأى حلما  وإذا سلم منصوبة على الارض وراسها يمس السماء.وهوذا ملائكة الله ضاعده ونازله عليه. وهوذا الرب واقف عليها فقال انا الرب اله ابراهيم ابيك واله اسحق . الارض التى انت مضطجع عليها اعطيها لك ولنسلك."وها انا معك واحفظك حيثما تذهب واردك الى هذه الارض . لانى لا اتركك حتى أفعل ما كلمتك به.تك28: 10-15. ودعا يعقوب اسم المكان بيت إيل أى بيت الله.

أسباط بنى اسرائل الأثنى عشر

تزوج يعقوب من بنات لابان خاله فأخذ "ليئة" وانجب منها رأوبين وشمعون ولاوى ويهوذا ويساكر وزبولون ‘ ومن جاريتها زلفة انجب جاد واشير‘ ومن جارية راحيل أنجب دان ونفتالى ‘ ومن راحيل أنجب يوسف وبنيامين ‘هؤلاء هم الأسباط الأثنى عشر الذى من نسلهم تكون شعب بنى إسرائيل ‘ وكقول الكتاب دخل يعقوب مصر ومعه 75 فردا وخرج منها بعد 430 سنة وعددهم يفوق  ال 600 ألف ماشيا فقط ‘ وقال عنهم الله يكونون لى شعبا وأكون لهم إلها. وهكذا كانت هذه بداية رحلة الله مع شعبة ليقيم تدبيراته الإلهية لخلاص البشرية ‘ وهذا أخذ طريقا طويلا ‘ فأظهر الرب الرموز لإبراهيم وليعقوب حفيدة‘ فظهر السيد المسيح جليا فى حياة القطبين الكبيرين.

الرمز والمرموز له

1- فى حلم يعقوب رأى سلما منصوبة على الارض وراسها يمس السماء .وهوذا ملائكة الله صاعدة ونازلة عليها وهوذا الرب واقف عليها..ويجيئ الرب يسوع المسيح ويقول لنثنائيل " هل آمنت لانى قلت لك انى رأيتك تحت التينة . سوف ترى اعظم من هذا . وقال له الحق الحق اقول لكم من الآن ترون السماء مفتوحة وملائكة الله يصعدون وينزلون على ابن الإنسان ."يو1: 50و 51. فكان هو الرب الواقف على رأس السلم وهو السلم ذاته بإعتباره ابن البشر الذى تصعد وتنزل عليه ملائكة السماء‘ والتى رآها يعقوب ليعلن له ان السماء ستتصالح مع الارض ويتحقق الفداء والخلاص للبشر.وكقوله لنيقيديموس" ليس أحد صعد الى السماء إلا الذى نزل من السماء ابن الانسان الذى هو فى السماء."يو3: 13.

2- فى ظهور الله لإبراهيم ضمن ثلاثة ملائكة وقبوله استضافة إبراهيم وأكله وشربه ‘ كان رمزا لتجسده الإلهى ‘ ففى ملء الزمان يرسل الله ابنه مولودا من امرأه ليفدى الخليقة ويعتقها من عبودية إبليس. أيضا يقول الرب يسوع المسيح لليهود " "ابوكم ابراهيم تهلل ان يرى يومى فرأى وفرح" يو8: 56 ‘ لأنه كان المرموز له باسحق وبالكبش الذى قدمة الله محرقة ليخلص العالم من خطاياهم ويعيد لهم صورة الله ومثاله ويجدد الخليقة. ثم يعلن الرب بكل دقة  " قبل ان يكون ابراهيم انا كائن."يو8: 58.