الحج السنوي لابرشية طرابلس المارونية الى حريصا

بو جوده : وجودنا في المنطقة شهادة ورسالة
الغربة ـ فريد بو فرنسيس
كعادتها كل عام، نظمت ابرشية طرابلس المارونية زيارة حج الى مزار سيدة لبنان في حريصا، وهو تقليد سنوي، تقوم به رعايا الابرشية بصحبة راعي الابرشية المطران جورج بو جوده خلال شهر ايار، شهر العذراء مريم. شارك في الحج عدد كبير من رعايا الابرشية المنتشرين في اقضية زغرتا، الكورة، عكار، الضنية، وطرابلس، وتراس المطران بو جوده قداسا في بازيليك سيدة لبنان، عاونه فيه لفيف من كهنة الابرشية، وشارك فيه حشد من ابناء الابرشية.
بعد الانجيل المقدس القى المطران جورج بو جوده عظة قال فيها:" تتمّ زيارتنا هذه السنة إلى سيّدة لبنان في حريصا والكنيسة الجامعة على عتبة الإحتفال بالمؤتمر القرباني العالمي في إيرلندا في الأسبوع الأوّل من حزيران القادم. وفي هذه السنة التي تحتفل فيها الكنيسة في لبنان بسنة الكتاب المقدّس. كما أنّ موضوع الكرازة الجديدة بالإنجيل هو موضوع تعطيه الكنيسة أهميّة بالغة في زمن سيطرت فيه اللآمبالاة الدينيّة والعلمنة المفرطة وتصرّف الكثيرين من أبناء مجتمعنا المعاصر وكأنّ الله غير موجود، إذ يسمحون لأنفسهم بسنّ القوانين والشرائع المنافية للقيم الأخلاقيّة فيشرّعون قتل الأجنّة في الأحشاء وزواج مثليّي الجنس، والموت أو القتل الرحيم، إلى ما هنالك من تصرفات تجعل الإنسان وكأنّه سلعة للمتاجرة أو مادة للإختبار، نافية عنه كونه مخلوقاً على صورة الله ومثاله وهو يتمتّع بقيمة سامية وكرامة لا حدود لها".
اضاف بو جوده:" أمام كل هذه الوقائع والأحداث نتوقّف نحن، كمؤمنين، عند الدور والرسالة الهامة التي تتمتّع بها العذراء مريم في التدبير الخلاصي، بكونها حواء الثانية التي من خلالها يجدّد الله خلقنا من جديد ويجعلنا، كنسل للمرأة، نسحق رأس الشيطان المجرّب الذي حاول وما زال يحاول إغراءنا برفض الله وجعل أنفسنا آلهة لأنفسنا معتبرين أنّه ليس لله أي دور في حياتنا بعد هذا التقدّم الكبير الذي توصّلنا إليه بفضل تقدّمنا في العلوم وإكتشافاتنا وإختراعاتنا الحديثة. فالعذراء مريم هي المرأة التي تكلّم عنها الرب في سفر التكوين عندما قال للحيّة الشيطان أنّه سيجعل عداوة بين نسلها ونسل المرأة الذي سوف يسحق رأسها بينما لن تستطيع هي أن ترصد عقبها".
وتابع بو جوده :"منذ ذلك الوقت بدأ دور العذراء ورسالتها تتوضّحان لأنّها ستكون حواء الثانية التي بواسطتها سيعود الإنسان ويرمّم صورة الله فيه بعد أن فقدها وشوّهها بالخطيئة، فالعذراء مريم هي المرأة التي إختارها الله لتكون أُماً للمخلّص الموعود، وهي التي، على خلاف حواء الأولى التي نفّذت إرادة الشيطان المجرّب، تجاوبت مع دعوة الرب وإختياره لها، فقالت للملاك جبرائيل:"ها أنذا أمة للرب، فليكن لي بحسب قولك" فبهذه الكلمات بدأ يتحقّق وعد الله. وقد تمّ التمهيد له على لسان الأنبياء وبصورة خاصة على لسان أشعيا الذي قال لآحاز الملك:"سل لنفسك آية من عند الرب إلهك، سلها إمّا في العمق وإمّا في العلاء من فوق. فقال آحاز: لا أسأل ولا أجرّب الرب، فقال أشعيا: إسمعوا يا بيت داود، أقليل عندكم أن تسئموا الناس، حتى تسئموا إلهي أيضاً. فلذلك يؤتيكم السيّد نفسه آية: ها إنّ العذراء الصبية تحمل فتلد إبناً وتدعو إسمه عمّانوئيل، يأكل لبناً حليباً وعسلاً، إلى أن يعرف أن يرذل الشر ويختار الخير(أشعيا6/10-15)".
وقال:" المقارنة بين العذراء مريم، حواء الثانية، وحواء الأولى في الكتاب المقدّس واضحة، وبإمكاننا أن نكتشفها من خلال قراءتنا لسفر التكوين في العهد القديم وإنجيل القديس لوقا في العهد الجديد، في حدثين متشابهين في تسلسلهما ومختلفين في نتيجتهما وهما تجربة الحيّة – الشيطان لحواء في الفصل الثالث من سفر التكوين وبشارة الملاك جبرائيل للعذراء مريم في الفصل الأوّل من الإنجيل بحسب القديس لوقا. في كلا النصّين هنالك مُرسَل وإمرأة وحوار وموقف. المرسل في سفر التكوين هو الحيّة الشيطان والمرأة هي حواء، والحوار بينهما يقوم على دعوة الحيّة لحواء لأكل ثمرة معرفة الخير والشر وعدم الخوف من الله لأنّه لا يستطيع شيئاً ضدّها إذ أنّها مع آدم سيصبحان آلهة لأنفسهما. لكنّ تجاوبها مع آدم لهذه التجربة لم تجعلهما يحقّقان مبتغاهما بل إكتشفا عريهما ومحدوديتهما وسمعا الرب يذكّرهما أنّهما من التراب أُخذا وإلى التراب يعودان. وهكذا فإنّهما حكما على نفسهما بالموت. هنا يأتي تدخّل الرب الذي لا يريد موت الخطأة بل توبتهم، ولذلك يعد بمخلّص يُعيد الوحدة بين الله والإنسان، ويعطي الإنسان نسل المرأة إمكانيّة سحق رأس الشيطان".
واردف يقول:"أمّا في إنجيل لوقا فالمُرسَل هو الملاك جبرائيل والمرأة هي مريم العذراء، والحوار بينهما يركّز على أنّ كل شيء مستطاع عند الله إذ أنّ الملاك يقول لمريم أنّها ستحبل بفعل الروح القدس وتلد إبناً تسمّيه عمّانوئيل أو يسوع وهو الذي سيحقّق وعد الله الخلاصي. إنّه الكلمة الذي صار جسداً وحلّ بيننا فرأينا مجده، مجد وحيدٍ من الآب، ملؤه النعمة والحق(يوحنا1). هذا المخلّص، يسوع المسيح سوف يولد، كما يقول بولس الرسول، في ملء الزمن وهو الذي سيتعرّض للتجربة من قبل الشيطان لكنّه سينتصر عليه بموته على الصليب وبقيامته من بين الأموات. وستكون العذراء مريم مشاركة له في فعل الخلاص لأنّها لم تكتفي بأن تكون أُمّه بالجسد، بل لأنّها كما قال هو بنفسه عنها قد سمعت كلام الله وعملت بمقتضاه وكانت بالقرب منه ليس فقط في طفولته بل أيضاً في حياته العلنيّة وحتى على أقدام الصليب. وهي التي غيّرت ساعته في عرس قانا الجليل ودعت الخدام ودعتنا من خلالهم أن نعمل كل ما يقوله لنا لأنّه هو الطريق والحق والحياة، وهو الذي سيُعيد إلينا الحياة، ولأنّه هو القيامة والحياة، ولأنّ كل من آمن به، وإن مات فسيحيا، كما قال لمرتا أُخت لعازر".
وتابع :" أمّا كيف شاركت مريم في فعل الخلاص فهذا ما تُعلّمنا إياه الكنيسة من خلال دعوتنا لصلاة أسرار الورديّة المقدّسة، وما دعتنا إليه العذراء بنفسها من خلال ظهوراتها المتعدّدة حيث كانت باستمرار تشدّد على أهميّة هذه الأسرار ببساطتها وسهولة تلاوتها وبعمقها اللآهوتي. إذ أنّنا عندما نصلّي هذه الأسرار نصلّيها بكونها تذكير لنا بأهم مراحل حياة المسيح على الأرض، من يوم البشارة به وحتى صعوده إلى السماء وإرساله الروح القدس كي يرشدنا ويهدينا ويبقى معنا إن نحن أحببناه وحفظنا وصاياه. فهو يقول لنا أنّه إذّاك سيسأل الآب كي يهب لنا مؤيداً آخر يكون معنا إلى الأبد، روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يتلقّاه لأنّه لا يراه ولا يعرفه، أمّا نحن فنعلم أنّه يقيم عندنا ويكون فينا (يو14/15-17)".
واضاف :" فصلاة الورديّة المقدّسة ليست مجرّد صلاة عاطفية نكرّر فيها عبارات روتينيّة قد يعتبرها البعض مملّة، بل إنّها إرتباط وثيق بالإيمان بيسوع المسيح الفادي والمخلّص. ولا معنى لها خارجاً عن هذه الحقيقة الأساسيّة ولذلك دعانا البابا الطوباوي يوحنا بولس الثاني عندما أضاف إلى أسرار الفرح والحزن والمجد أسرار النور. كما يدعونا أيضاً قداسة البابا بندكتوس السادس عشر، إلى صلاتها مع التأمّل العميق بالسّر الذي نصليه ومن ثم نكرّر قول السلام عليكِ يا مريم بهدوء متأمّلين بعمق في أهميّة هذا الكلام الذي نقوله والذي هو كلام الله بالذّات على لسان الملاك جبرائيل".
وختم بو جوده :" إنّنا في زيارة الحج هذه إلى سيّدة لبنان كأبناء لأبرشيّة طرابلس المارونيّة مدعوّون لترسيخ علاقتنا بالعذراء مريم أُم الكنيسة وأُمنا لنعبّر لها عن محبّتنا ولنطلب منها أن تتشفّع بنا لدى إبنها في هذه الظروف القاسية والصعبة التي تمرّ بها أبرشيّتنا من خلال هذه الأحداث الأليمة التي مرّت علينا، إن في طرابلس أو في عكار أو في غيرها من المناطق والتي قد تدعو البعض منّا إلى اليأس والإحباط وإلى التفكير في ترك هذه المنطقة للعيش في مناطق أخرى أكثر أماناً. وهذا ما لا يجب أن يحصل إذ أنّ وجودنا في هذه المنطقة من لبنان هو وجود شهادة ورسالة. فلنتأمّل بحياة السيّد المسيح وبحياة العذراء مريم. فهو مع كونه إبن الله تألّم ومات على الصليب لكنّه إنتصر على الموت بالقيامة، ووطئ الموت بالموت ليُعيد لنا الحياة، والعذراء مريم قد حزّ سيف في قلبها كما قال لها سمعان الشيخ وشاركت إبنها في آلامه وبقيت واقفة على أقدام الصليب لكنّها هي أيضاً تمجّدت بانتقالها إلى السماء بالنفس والجسد لتعيش معه فيكلّلها سلطانة على السماء والأرض. ولبنان الذي عُرِفَ منذ القديم بمحبّته للعذراء مريم وبتكريمه لها سوف ينتصر بدون أي شك على هذه الأيام الصعبة التي يمرّ بها منذ زمن طويل كي يبقى كما قال عنه يوحنا بولس الثاني رسالة للشرق والغرب وللعالم أجمع".

CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق