سورة البقرة: الآية 110/ عبدالله بدر اسكندر

التعريف الأمثل لتكريم الإنسان لا يتفق مع الصفات الأولية المترتبة على خلقه من حيث الطبيعة البدائية ولهذا ناسب أن يكون تكريمه مرادفاً للتقوى المشار إليها في قوله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير) الحجرات 13. واستناداً إلى منطوق الآية نفهم أن التقوى هي الملاك في التكريم، أما من يذهب إلى أن التكريم من الصفات المرافقة للإنسان بما هو إنسان فهذا وإن كان رأيه ناظراً إلى بعض القرائن العقلية إلا أنه لا يتلائم مع الطبيعة المادية للخلق الأول. فإن قيل: ألا يتعارض هذا الطرح مع قوله تعالى: (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً) الإسراء 70. فكيف الجمع؟ أقول: الجهة في هذه الآية منفكة عن الصفات الخلقية التي نتحدث عنها، وترد جهة الانفكاك إلى المقومات البشرية المصاحبة للقابل الراسخ في طبيعة الإنسان، وأنت خبير بأن الكائنات الأخرى ليس لديها القدرة على إيجاد هذا القابل على الرغم من التكاليف المبينة نتائجها على لسان حالها طوعاً أو كرهاً.
من هنا نعلم أن الإنسان قد جبل على الأفعال غير الحميدة خلافاً للملائكة إذا ما استثنينا بعض الأفعال المجانبة لقياس الصغرى نظراً لما ينتج عن التكلف الذي لا ينسجم مع الطبيعة البشرية، وبهذا يظهر أن أفعال الخير الصادرة من الإنسان تحتاج إلى جهد وتكلف، أما الأفعال التي تأخذ الجانب الآخر لدى الملائكة هي التي تحتاج إلى تكلف وليس فعل الخير فتأمل. فإن قيل: بناءً على ما قدمت يظهر أن المعصية جائزة على الملائكة؟ أقول: الملائكة لديهم القدرة على المعصية إلا أن المعاصي الناجمة عن طبيعتهم قد تأخذ جانب التكلف إذا ما نظرنا إلى قياس النوعية المثالية المحيطة في المهمات التي كلفوا بها، وهذا ما يفهم من قوله تعالى: (يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون) النحل 50. والخوف المشار إليه في الآية يدل على أن المعصية ملازمة لاختيارهم، إلا أن الإتيان بها يحتاج إلى تكلف خلافاً لما يقوم به الإنسان من فعل الخير كما ذكرنا، وقد بينا هذا المعنى في تفسير الآية 30. من سورة البقرة ومن أراد المزيد فليراجع.
وخلاصة لما قدمنا تظهر النكتة في قوله تعالى: (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) التحريم 6. ولو كان العصيان لا يتناسب مع اختيارهم لما أثنى الله تعالى عليهم، ومن هنا نعلم أن الإنسان قد اتخذ الطبيعة المغايرة للملائكة من حيث تكوينه المجانب للتشريع مما يدل على عدم استقامته، وهذا ما أشار إليه تعالى في مجموعة من الآيات كقوله: (قتل الإنسان ما أكفره) عبس 17. وكذا قوله: (ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولاً) الإسراء 11. وقوله تعالى: (وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً) الكهف 54. وقوله: (خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين) النحل 4. وكذلك قوله تعالى: (خلق الإنسان من عجل سأريكم آياتي فلا تستعجلون) الأنبياء 37. فإن قيل: كيف يمكن أن يتخلص الإنسان من هذه الصفات إذا كانت راسخة في طبيعته؟ أقول: الإجابة في مقدمة البحث، أي أن التقوى هي الملاذ الآمن الذي يلجأ إليه الإنسان الذي يتعرض لهذه الموبقات، ولا يخفى على ذوي البصيرة أن ملاك التقوى يكمن في الصلاة إذا كانت عنواناً للخير المقدم للنفس، وبهذا تظهر النكتة في قوله تعالى: (إن الإنسان خلق هلوعاً... إذا مسه الشر جزوعاً... وإذا مسه الخير منوعاً... إلا المصلين) المعارج 19- 22.
 وبعد أن ذكر تعالى هذه المقدمة انتقل إلى بيان مجموعة من الصفات التي تليق بهم كما في قوله: (الذين هم على صلاتهم دائمون... والذين في أموالهم حق معلوم... للسائل والمحروم... إلى قوله... والذين هم على صلاتهم يحافظون) المعارج 23- 34. ثم بعد ذلك بين سبحانه نوع العطاء المترتب على هذه الصفات الحميدة في قوله: (أولئك في جنات مكرمون) المعارج 35.  وبهذا تختلف نتائج ما يقدم للنفس من خير باختلاف الأعمال التي يقوم بها الإنسان، فإذا كانت الأعمال خالصة لله تعالى دون غيره فإن الدرجات ستكون أكثر بلا أدنى ريب، ومن هنا نلاحظ أن ما يهبه الله تعالى للإنسان بناءً على ما يقدمه لنفسه يأخذ الطابع المثالي، وهذا ما أشار إليه سبحانه بقوله: (ولسوف يعطيك ربك فترضى) الضحى 5. ولو رجعنا إلى موارد العطاء سنجد أنها تتفاوت في المقدار إلا أن أصلها لا يخرج عن العطاء الكامل الذي يحصل عليه الإنسان ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى: (قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة وأرض الله واسعة إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) الزمر 10. وقد تتفرع على الكبرى أمثلة أخرى تحمل في مفهومها مقدار الأجر المقدم للإنسان سواء أكان محصوراً بالعدد أو آخذاً بالزيادة الخارجة عن الحد المبين في المنطوق.
ولا يخفى على المتأمل أن المجموع الكلي لهذه الحسابات لا يبتعد كثيراً عن الواقع المشار إليه في الكبرى كما بينا، ولذلك نجد أن الفروقات الظاهرة قد بينها القرآن الكريم على أتم وجه كما في قوله تعالى: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون) الأنعام 160. وكما ترى فإن العدد المذكور في الآية لا يدل على الحصر بقدر ما يدل على التمثيل للمفهوم المشار إليه، ويمكن الوصول إلى هذا المعنى من خلال قوله تعالى: (من جاء بالحسنة فله خير منها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون) القصص 84. وبهذا نعلم أن البيان الوارد في السياق فيه دلالة لا تقبل اللبس على كمال العدل في أصحاب السيئات، وما يقابل ذلك من كمال الفضل المقدم لأصحاب الحسنات وبهذا تظهر النكتة في قوله تعالى: (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم) البقرة 261.
تفسير آية البحث:
قوله تعالى: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله إن الله بما تعملون بصير) البقرة 110. الأمر الموجه للمؤمنين في الآية يربط بين الصلاة والزكاة، وهذا التلازم يعد من الضروريات إذا ما نظرنا إلى تكراره في مواضع أخرى من القرآن الكريم، علماً أن المنطوق الظاهر في الأولى قد يجعل الإنسان ملازماً للطاعة شريطة أن يأتي بمقومات التقوى على أتم وجه، أما الزكاة فهي من الشعائر الكبيرة التي تحقق التضامن والتكافل بين الناس، ثم انتقلت الآية إلى تبيان نتائج الخير المدخر عند الله تعالى استناداً إلى العندية الإلهية التي لا يعتريها الفناء، وقد بين سبحانه مفهوم ذلك في قوله: (ما عندكم ينفد وما عند الله باق) النحل 96.
فإن قيل: لماذا وضع الله تعالى الظاهر موضع المضمر في قوله: (إن الله بما تعملون بصير) من آية البحث؟ أقول: السبب في وضع الظاهر موضع المضمر يرجع إلى عدم اقتصار علمه سبحانه على ما ذكر في الآية من الأعمال المعهودة كالصلاة والزكاة.. فتأمل ذلك بلطف.

من كتابنا: السلطان في تفسير القرآن 
   

CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق