الكمال الذي يسعى إليه الإنسان لا يتحقق من خلال الطرق التي لا تلتقي مع الثوابت العملية قياساً إلى المحيط المادي الذي يركن إليه وهذا ما يسبب التباعد بينه وبين قدسيته التي ينبغي أن يكون عليها، أما في حالة التقارب النسبي فقد يتمكن من الحصول على المعارف الأولية التي يتبين له من خلالها فهم أحد أجزاء الحقائق المجردة التي لا يستطيع الاحتفاظ بتجلياتها على سبيل الإجمال فضلاً عن التفصيل وذلك نظراً إلى العادة والدأب المادي الذي لا يقدر على الخلاص منه بوجه، وبناءً على هذا فإن الفطرة التي يهتدي بواسطتها إلى بعض الدلائل الروحية بين فترة وأخرى لا تمهد أمامه جميع الوسائل التي تتعلق بالرؤى التي يلازمها الخفاء وبالتالي تتباين لديه مراحل الحصول على التكامل الذي يكون بمنأى عنه ولهذا يصعب عليه إبصار الحقائق بالإدراكات المجردة. ومن هنا فإن القرآن الكريم يذكّر الإنسان صعوداً ونزولاً نحو هذه الحقائق فمن جهة يبين له العهد التكويني المأخوذ عليه سلفاً ومن جهة ثانية يجعله وجهاً لوجه أمام المراحل التي سيصير إليها بعد هذه النشأة.
ويشهد للجهة الأولى قوله تعالى: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين... أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون) الأعراف 172- 173. أما الجهة الثانية فيشهد لها قوله تعالى: (لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد) ق 22. وعند البحث عن المفاهيم التي تبين الجهة الأولى التي تشير إليها آية الذر نصل إلى خلاصة مهمة يتضح على ضوئها أن العهد الذي أخذ على الإنسان لا يبتعد كثيراً عن الأسس التكوينية التي تبنى عليها الضوابط التشريعية لا سيما إذا تم توجيه الإدراكات التي تنشأ مع الإنسان إلى وجهتها الصحيحة والتي يستطيع عند الأخذ بها أن يميز بين الحُسن والقبح على الرغم من تشعب الاتجاهات أو الطرق التي يعتمدها باعتبار أن الأصول الفطرية لا يمكن أن تستحدث وإنما يصدق عليها البعث والإيقاظ، وعلى هذا التقدير لا يحق للإنسان بعد التشريع أن يلجأ إلى الأعذار كما هو الحال في كثير من الناس الذين يزعمون عدم وصول الأنبياء إليهم.
وبناءً على هذا المفهوم نصل إلى النتيجة التي تبين أن العهد الذي أشرنا إليه لا يفترق عن المجموع الكلي للدلائل والبراهين التي جعلها الله تعالى في فطرة الإنسان، ومن هنا تظهر النكتة في قوله تعالى: (قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين) الأنعام 149. أما الجهة الثانية فإن شرائطها تستمد من الجهة الأولى ولكن بطريقة أقرب إلى رؤية الآثار التي تدلل على وجود الصانع والتي يشعر بها الإنسان في كل شيء يحيط به ابتداءً من نفسه، كما في قوله تعالى: (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) الذاريات 21. وقياساً إلى هذا النهج يمكن القول إن جميع الدلائل التي تعترض الإنسان سواءً في السماء أو في الأرض تكون شاهدة على وحدانية الله تعالى من وجه ومتممة الحجة على العقلاء من وجه آخر، ولأجل هذا الغرض فإن القرآن الكريم يذّكّر الإنسان بهذه الحجة في النشأة الأخرى، كما في آية سورة ق آنفة الذكر والتي تبين أن الحجج والبراهين تكون حاضرة أمام الإنسان في النشأة الأولى التي علمها إلا أن هناك غطاءً يسترها جرّاء أفعال الإنسان التي لا تسمو إلى المنزلة التي يجب أن يكون عليها علماً أن الغطاء لا يكشف إلا عن شيء مشهود، وهذا ما يوحي بالارتباط الوثيق بين الدنيا والآخرة وذلك للتشابه الذي تجمعه المفاهيم وتفرقه المصاديق مع الاعتراف بالزيادة التي أعدها الله تعالى لتلك الدار.
وبناءً على ما قدمنا لا يمكن أن نغفل المسميات التي تأخذ نفس الصفات المتقاربة بين النشأتين وإن كانت النشأة الأخرى توحي بالمثالية شريطة أن تتجلى نتيجة الأعمال الخاصة بها حسب المراتب التي حصل عليها الإنسان في النشأة الأولى فتأمل. وعلى هذا التقدير نفهم أن الحق سبحانه عندما يشير إلى الملذات والمتع التي أعدها لتلك النشأة يربط بينها وبين ما هو مألوف في هذه النشأة مع ذكر الزيادة التي بيناها من خلال البحث، كما في قوله تعالى: (مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم كمن هو خالد في النار وسقوا ماءً حميماً فقطع أمعاءهم) القتال 15. وكذا قوله: (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاءً بما كانوا يعملون) السجدة 17. وقوله: (وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم) التوبة 72. وقوله تعالى: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون) يونس 26.
وعند تأمل الآيات آنفة الذكر يمكن التعرف على الزيادة النوعية التي تظهر في كل واحدة منها والتي لا تتصف فيها هذه النشأة إلا بوجه، وهنالك آيات كثيرة تشير إلى المطاعم والمشارب دون أن تختلف في الأسماء عن هذه النشاة ولكن الاختلاف يحصل في المذاق وهذا ما يفهم من الزيادة المقررة كما أسلفنا وأنت خبير من أن لكل الأشياء المعدة للإنسان في تلك النشأة أمثلة نألفها هنا، وبناءً على هذا فإن الحق سبحانه يدعو الإنسان أن يحصل من خلال سلوكه على ما أعد له هناك مع ترتيب الزيادة المعنوية التي تضاف إلى الزيادة المادية التي يندر الوصول إليها هنا إن لم يكن مستحيلاً، كما في قوله تعالى: (ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً على سرر متقابلين) الحجر 47. وقريب منه الأعراف 43. والغل الذي ينزع من الصدور وإن كان يختص بتلك النشأة إلا أن فيه دعوة مبطنة للناس من أن يكونوا على هذه الحالة في هذه النشأة، ولكن هذه الدعوة لا يمكن أن تتحقق في الدنيا بسبب العلائق المادية التي تحول بين الإنسان وبين وصوله إلى تلك المرحلة، ومن هنا نعلم أن تلك الزيادات هي من خصائص الدار الآخرة مع الاحتفاظ بتشابه الأسماء دون الأوصاف فتأمل.
من هنا يظهر أن الثمر الذي يرزق به أهل الجنة يكون متشابهاً مع ثمر الدنيا في الأسماء والألوان دون النوعية والصفات، وهذا ما بينه تعالى بقوله: (وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقاً قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابهاً ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون) البقرة 25. وسياق الآية يوحي أنها معطوفة على ما قبلها من الآيات التي أشارت إلى الوعيد وهذا هو أسلوب المثاني في القرآن الكريم فكلما يتحدث عن الكافرين يقابل ذلك بالحديث عن المؤمنين أو العكس. قوله تعالى: (وبشر) البشارة: هي الخبر المفاجئ الذي يغير بشرة الوجه إما إلى السرور وإما إلى الحزن إلا أن استعماله كثر في المعنى الأول حتى أصبح لا يفهم من البشرى إلا الخبر السار وكأن المقابل قد هُجر دون تبيان الوجه الثاني للمعنى، ولهذا فإن المصطلح لا يقيّد إلا في الحزن، كما في قوله تعالى: (فبشرهم بعذاب أليم) آل عمران 21. قوله تعالى: (الذين آمنوا) بكل مصاديق الإيمان ومن تلك المصاديق الإيمان بالله وملائكته ورسله وكتبه واليوم الآخر وكل ما يترتب على ذلك من آثار.
ثم بين الله تعالى أن الإيمان دون العمل الصالح لا يمكن أن يستقيم، ولهذا قال: (وعملوا الصالحات) قوله تعالى: (أن لهم جنات) جنات: جمع جنة وهي الأشجار الكثيفة التي تغطي الأرض وفي أصل الوضع ما يشير إلى التغطية والستر، كما في مشتقات هذا المصطلح... من جن وجنون وجُنة وجِنة وجنين. قوله تعالى: (تجري من تحتها الأنهار) أي يجري ماء الأنهار من تحت أشجارها لأن الأنهار لا تجري وهذا من باب التوسع. قوله تعالى: (كلما رزقوا منها من ثمرة رزقاً) أي أعطوا من خير الله تعالى. قوله تعالى: (قالوا هذا الذي رزقنا من قبل) أي رزقنا هذا في الدنيا لعدم اختلاف الأسماء والألوان دون المذاق كما قدمنا، ولهذا صدقهم الحق بقوله: (وأتوا به متشابهاً) ثم قال: (ولهم فيها أزواج مطهرة) أي: مطهرات من جميع الصفات المادية والمعنوية، ويشهد للأولى قوله تعالى: (لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان) الرحمن 74. ويشهد للثانية قوله: (حور مقصورات في الخيام) الرحمن 72. وقد جمع تعالى كلا المعنيين في قوله: (فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان) الرحمن 56. قوله تعالى: (وهم فيها خالدون) أي لا يعتريهم الفناء والزوال بعد دخولهم الجنة ومصطلح الخلود يعني البقاء الأبدي الذي يكون مسبوقاً بالعدم، ولهذا فإن الخالد لا يعتبر من أسماء الله تعالى وما تجده هنا أو هناك فهو من الأخطاء الشائعة فتأمل.
من كتابنا: السلطان في تفسير القرآن
0 comments:
إرسال تعليق