المسلمون طيبون فلا تستفزونهم بالتطاول على المقدس/ صالح الطائي

هذا هو المقال الثالث الذي أكتبه ردا على عرض الفيلم المسيء وردود الفعل الغاضبة عليه؛ وكلي أمل أن تكون هذه المواضيع ذات فائدة للصالح العام، وقد اخترت عنوانه من وحي موضوع نشر في شهر رمضان المنصرم عن (فكتور دومينيللو)  وزير الشؤون الاجتماعية والمواطنة لولاية (ولس) الجنوبية الجديدة في أستراليا أفاد  أن الوزير سوف يصوم في شهر رمضان مثل المسلمين لأن موائد الإفطار تخلق جوًّا من الصداقة والإخاء، وتترك انطباعًا في الأذهان لا يُمحى، وأنه مستعد للصوم هذا العام لأول مرة مشيرا إلى أنه بسبب علاقته الجيدة مع المسلمين، سوف يكون ضيفًا عليهم في بيوتهم ولاسيما وأن دعوات إفطار كثيرة من شخصيات بارزة في المجتمع في ولايته قد وجهت إليه، وأنه يود تلبية جميع هذه الدعوات.
إن المسلم الذي يفتح أبواب بيته لرجل من ديانة أخرى أحب أن يشاركه في أداء طقس ديني لمجرد إعجابه بموائد الإفطار يبدو على قدر كبير من المروءة والشهامة والخلق القويم واحترام الإنسان دون النظر إلى عقيدته الدينية رغم الاختلاف الكبير بين منهجيهما وهو في مثل هذا الحال غير مستعد للتطاول على معتقدات ضيفه لا في حضوره ولا في غيابه. ولكن المسلم الطيب نفسه الذي وجه الدعوة إلى الوزير ممكن في حالة الغضب المتعمد والاستفزاز المقصود أن ينقلب إلى وحش كاسر إذا ما سمع مجرد كلمة تطاول على دينه أو نبيه؛ أما رده على التطاول فيحدده سعة تفكيره ودرجة تحضره وفهمه للقوانين العامة للحياة وما يتطلبه الموقف الشرعي.
هذان الموقفان يبدوان على قدر كبير من التوازن القيمي والأخلاقي وليس فيهما أي غرابة أو مخالفة للطبع السوي للإنسان المتحضر؛ وما بدا عليه المسلمون من انزعاج بسبب عرض الفيلم المسيء يبدو كذلك جد طبيعي ولا شائبة فيه فمن حق الإنسان أي إنسان أن يرد كيد من يريد به كيدا ولكن يحب أن يكون رد المسلم مؤدبا ومتحضرا ونابعا من روح الإسلام لا من روح العصبية الجاهلية والقيم البدوية لأن الرد بشكل سليم يسهم في تعرية الطرف المقابل ويكشف حقيقته ويبين صدقه من كذبه ويوهن تهمته ويرد هجومه، فالرد العدواني يبدو بعيدا جدا عن روح الإسلام وهو يعطي للمعتدي دعما يرى من خلاله أنه على حق وان ما جاء به لا يمكن أن يكون سيئا بالقدر الذي يبدو عليه مادام المسلم بهذا القدر من السوء.
إن المسلمين طيبون ويحتاجون إلى من يفهم طيبتهم ومتنوعون حد الغرابة والدهشة بل والتطرف أيضا ويحتاجون لمن يفهم تنوعهم؛ ولكن التطرف والتعصب الإسلامي يشوه هذه الطيبة وهذا التنوع ويمحو أثرهما من النفوس. ويكفي دليلا على تنوع وجهات نظر الأمة أنها لم تتفق على رأي واحد في كل المواقف الحساسة والمصيرية عبر تاريخها الطويل وأنها اليوم أكثر تنوعا من أي وقت آخر؛ ولذا يكذب من يردد في مظاهراته الصاخبة الفارغة هتاف: (اسمع اسمع يا أوباما.. الأمة كلها أسامة) كما فعل (المجاهدون السلفيون) المتخلفون في الأردن يوم الجمعة 14/9 فالأمة اليوم تلعن أسامة بن لادن ولا يترحم عليه إلا المتطرفون من أمثاله.
والتنوع هو الذي قاد محمد الظواهري الأخ الشقيق للمجرم أيمن الظواهري زعيم تنظيم القاعدة الإرهابي والداعم الأول للعنف الإسلامي ضد عرض الفيلم ليعلن وضع خطة يقترح فيها التوسط للتوصل إلى اتفاق سلام بين الإسلاميين والغرب باعتبار أنه في وضع فريد يمكنه من المساعدة على إنهاء العنف كما ذكرت الـ(سي أن أن)
والتنوع ذاته هو الذي يبين أن قبالة الهتاف الأجوف الفارغ الذي رفعه السلفيون في الأردن هناك المئات من المسلمين لا يعترفون أصلا بأن النبي محمد (ص) مواطن من مواطني بلدانهم الإسلامية ولو بشكل اعتباري فقط لغاية الاحترام والتقديس لا أكثر؛ كما هو الكاتب والصحفي المصري عادل حمودة الذي انتقد قيام السفارة المصرية في أمريكا بإقامة دعوى قضائية ضد صنّاع الفيلم المسيء للرسول (ص) معللاً ذلك بأن النبي "ليس مصريا" كي تدافع عنه السفارة.
العالم نفسه متلون فقد تغيرت موازينه وتشرذمت منظومة أخلاقه فزاد التلون تلونا ولم يعد واضح الملامح؛ وأصبح مفهوم العدل والمساواة فيه نسبيا خاضعا للمزاجية والمصلحة؛ فهناك في الغرب تجدهم بدل أن يدينوا عرض مثل هذه الأفلام المسيئة وغير الهادفة صبوا جام غضبهم على غضب المتظاهرين وتخريبهم مع أن الفيلم لا يقل سوء عن تخريب المتظاهرين بل هو أسوأ، والفيلم وغضب المتظاهرين يوضعان في كفة واحدة من ميزان التحضر الإنساني. ووفقا لهذا التمايز انبرى أعضاء مجلس الأمن الدولي ليدينوا أعمال العنف ضد السفارات دون أن يدينوا الفيلم. وأدانت (كاثرين آشتون) مسؤولة الشؤون الخارجية بالاتحاد الأوربي في بيانها الهجمات على البعثات الدبلوماسية ولكن لا هي ولا الإتحاد أدانوا الفيلم. كما أدانت المستشارة الألمانية (أنجيلا ميركل) الهجمات مع أن ألمانيا امتنعت عن إدانة الفيلم. وهدد مرشح الرئاسة الأميركية عن الحزب الجمهوري (مت رومني) مصر بأنها تخاطر بفقدان المساعدات العسكرية التي تحصل عليها من أمريكا والتي تبلغ 1.3 مليار دولار سنويا بدل أن يعتذر من 1،5 مليار مسلم أساء لهم الفيلم، بما يبدو وكأن جبهات مواجهة ظهرت إلى الوجود بفعل هذا الفيلم التافه لتقف إحداها قبالة الأخرى، فوقفت الأولى قبالة الثانية التي أدانت عرض الفيلم ولكنها لم تتطرق إلى أعمال العنف. والثالثة التي أدانت الفيلم وأدانت العنف. والرابعة التي أدانت الفيلم وحرضت على العنف. فضلا هناك جبهة أحرجها عرض الفيلم وأغضبها التظاهر بنوعيه السلمي والعنفي؛ تضم مجموعة من المسلمين يضعون رجلا في الغرب ورجلا في العالم الإسلامي دون أن يوقفوا ولاءهم على طرف بعينه؛ وهذه الجبهة ممثلة بمصر ومجلس التعاون لدول الخليج والاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ممثلا بالشيخ يوسف القرضاوي.
الذي اعتقده أن هذه الجبهات كلها تعجز أن تعطينا سببا مقنعا للدافع الذي دفع واشنطن دي سي لأن ترسل صاروخا موجها في عام 1993 إلى بيت الفنانة ليلى العطار في بغداد لمجرد أنها رسمت صورة الرئيس الأمريكي بوش الصغير على أرضية مدخل فندق الرشيد فقتلتها وأحرقت بيتها؟ وهل هناك غير تعليل واحد وسبب واحد لهذا العمل الذي جاء انتقاما للإساءة التي وجهتها الفنانة للرئيس؛ والرئيس ليس نبيا مرسلا ولا حامل رسالة سماوية، ولا يحبه مليار ونصف من البشر!
وحتما توجد هناك جبهات أخرى بعضها ظاهر للعلن والآخر متخفي مستتر ولكنها بمجموعها تدلل على أن عالمنا أكثر ألوانا مما نعتقد؛ ولا يمكن أن يطغى لون فيه على لون آخر أو يصادر وجوده لأن نسق الألوان يفقد بريقه.
ونحن المسلمين بصفتنا أحد ألوان هذا العالم الكبير لا نطالب بتقييد حرية الفكر ولا نرغب بالحجر على الحريات الشخصية ولا نحب التدخل في صياغة قوانين الدول الأخرى وعاداتها وتقاليدها ولا توجد لدينا إملاءات نريد أن نمليها على أحد  ولا يوجد بيننا من يملك جرأة التطاول على رمز مقدس لإنسان آخر ولاسيما إذا كانت عقيدته سماوية؛ ولا يعنينا التدخل بشؤون الآخرين. ونحن بالتأكيد نحب أن يعاملنا العالم بالمثل. أما من لا يلتزم بهذه القاعدة من الجانبين فهو  بكل تأكيد صاحب مشروع يبغي من خلاله تخريب العالم أو يسعى من خلاله إلى تشويه نقاء الإنسانية والسلم الدولي؛ ويكفي دليلا على ذلك أن الممثلة (سيندى لي جارثيا) بطلة الفيلم المسيء اعترفت أمام الرأي العام أنها وقعت ضحية لعملية خداع من القائمين على العمل بما فيهم القبطي المصري، بعد أن تمت دعوتها بداية للعمل بفيلم تاريخي عن المدافعين عن الصحراء، يتكلم عن ما قبل ألفى عام، وتدور أحداثه في الصحراء، ثم تبين بعد انجازه انه فيلم عن الكراهية الدينية يسيء للإسلام، مما دفعها إلي تقديم الاعتذار للمسلمين.
وأعتقد أن للحوار الساخن الذي يدور بين المسلمين والأقباط في مصر حتى من قبل التغيير؛ فضلا عن صعود الأخوان إلى الحكم في مصر أثرا في أسباب صنع وعرض الفيلم في هذه المرحلة لأنه ممكن أن يفجر العنف بين الجانبين بسبب هذا الخداع ليتحول إلى حرب أهلية مدمرة بتأثير هذا العمل المسيء مما يعني أن هناك خطة مبيتة سوداء لتفجير الأوضاع في الشرق والعالم الإسلامي لا تحمد عقباها، وهناك من يبغي إثارتها متعمدا جاهلا أن نارها سوف تحرق الجميع ولا يسلم منها أحد لأن العالم بكل ما فيه  سفينة مبحرة في محيط هائج والمسلمون يشكلون خمس عدد ركابها؛ وهم بهذا العدد الكبير ممكن أن ينقبوها ويغرقوها بمن فيها حتى ولو بأظفارهم إذا عز السلاح فلماذا يسمح العقلاء لمجنون أو أكثر أن يستفز هذا العدد الكبير مرة تلو أخرى دون أن يفكروا ـ على المستوى الضيق ـ بمصالحهم الخاصة وعلى المستوى العام بمصلحة العالم؟ إن عالمنا جميل ونحن جميعا مسؤولون عن الحفاظ عليه وعلى كل كائناته وعلى رأسها الإنسان هذا الكائن المبهر الجميل.
ونحن نعلم جميعنا أن أمتنا اليوم وشل سيول يجري في كل الاتجاهات بلا هدف وبلا مثابة يعبره الأغراب سيرا على الأقدام فلا يبلل سوى كعوب أحذيتهم؛ ولكنه يتحول إلى إعصار مدمر إذا ما هددت عقيدته.

CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق