متصرف جبل لبنان رستم باشا ينفي المطران الماروني بطرس البستاني الى القدس/ الدكتور الياس عفيف سليمان

متصرفية جبل لبنان
( باحت ومتخصص في تاريخ الشرق الاوسط)
المصدر جريدة النهار – الاتحاد اللبناني  1975 .

قضية نفي المطران بطرس البستاني الى القدس في عهد ولاية رستم باشا لمتصرفية جبل لبنان وقعت في سنة 1877 وكانت شغل اللبنانيين الشاغل فانقسموا بسببها الى فريقين: فريقا يناصر المطران واخر يؤيد المتصرف.
وروى وحلل الاخباريون وبعض المؤرخين اللبنانيين اسباب الخلاف في صور مختلفة، فبينما ينسب البعض الى محاولة المتصرف ادخال بعض التعديلات الى لبنان خلافا لامتيازات الجبل، لا يتورع البعض الاخر عن رد الخلاف الى مطالب شخصيه مزعومة قدمها المطران ورفضها المتصرف، في حين ان معاصري المطران من ذوي العلم والدراية اجمعوا على القول ان البستاني انما كان مدفوعا بما قام به من معارضة للمتصرف بسبب حرصه وغيرته على امتيازات جبل لبنان التي تم اقرارها نهائيا في العام 1860 .
تشير اوراق سليم المعوشي، وهو احد كبار رجال الشرع والقانون في لبنان القديم، على نبذه خطيه عن خلاف المطران والمتصرف، وسليم المعوشي الذي كانت تربطه بالمطران البستاني اواصر الصداقة المتينة والعلاقات العائلية القديمة يروي اسباب الخلاف الحقيقية التي اطلع عليها من المطران البستاني ومن عمه منصور المعوشي عضو مجلس الادارة الكبير عن قضاء جزين الذي شارك في تنظيم الاحتجاج ضد قرار المتصرف.
استلم رستم باشا متصرفية جبل لبنان من سنة 1873حتى سنة 1883 . في النصف الاول من عهد ولايته ادخل بعض التعديلات التي تخدم المصالح العثمانية وتضر بالامتيازات التي حصل عليها الجبل.
هب اللبنانيون سكان الجبل وخاصة سكان الجهة الجنوبية الذين كانوا شديدي الحرص على امتيازاتهم لمقاومة المتصرف يتراسهم المطران بطرس البستاني رئيس اساقفة صيدا الذي كان يقيم في بيت الدين مركز الحكومة الصيفي ورفعوا عرائض الاحتجاج الى الباب العالي والى سفراء الدول الموقعة على نظام لبنان وظلوا يلاحقون شكواهم حتى اجبروا المتصرف الى التراجع عن ادخال التعديلات على امتيازات الجبل، هذه النتيجة ادت الى استحكام العداوة بين المتصرف والمطران البستاني.   
في هذه الفترة وقع خلاف اخر لا علاقه له بامتيازات الجبل بين المتصرف رستم باشا وبين تريكو وهو قنصل فرنسا العام في بيروت. اوعز القنصل الفرنسي الى المطران بطرس البستاني والى غيره من الرؤساء الروحيين كالمطران اغابيوس الرياشي والمطران يوسف الدبس والمطران جبرائيل جباره والمطران يوسف جعجع ان يرفعوا الشكوى في حق رستم باشا الى الباب العالي ففعلوا وهم يظنون ان القنصل الفرنسي يعمل من منطلق غيرته على لبنان وعلى امتيازاته.
 خاف المتصرف من تلك الخطوة وقام بمصالحة القنصل الفرنسي. وصلت الشكاوى الى الباب العالي وقام بإرسالها الى رستم باشا  ليجيب عليها. علم القنصل الفرنسي بذلك واراد اصلاح ذات البين، فاخبر المطران البستاني بالأمر وطلب منه ومن من وقّع معه على عريضة الاحتجاج زيارة رستم باشا في داره للاعتذار منه فرفض المطران البستاني طلب القنصل وعاد الى مقره في بيت الدين. بعد مدة قليلة عاد رستم باشا الى بيت الدين للاصطياف فيها بحسب العادة، فرأى القنصل ان يزوره واعتقد رستم باشا بان المطران البستاني سيقوم هو الاخر بزيارته وبهذا يكون الحل ولكنه كان على خطأ.
 استغل خصوم المطران البستاني الموقف واقنعوا القنصل الفرنسي كذبا ان المطران البستاني يعمل لإحلال الانتداب الالماني على لبنان بدل الانتداب الفرنسي. غضب القنصل الفرنسي وقبل مغادرته بيت الدين عائدا الى بيروت بعث ببرقية لغبطة البطريرك الماروني بولس مسعد اعلمه فيها ان المطران البستاني لم يعد تحت الحماية الفرنسية بعد تصرفه هذا.
وكان بين البطريرك الماروني مسعد والمطران البستاني خلافات حول بعض الامور منها ان المطران البستاني كان شديد الميل الى يوسف بك كرم الذي انتقد البطريرك على بعض تصريحاته واعماله، كما ان المطران البستاني طلب معاملة الرهبان الذين تمردوا على رؤسائهم معاملة انسانية واقناعهم بالطاعة، اما البطريرك مسعد فقد اتفق مع القاصد الرسولي لوديفوكيوس بياجي الذي اوعز بدوره الى الحكومة فزجتهم في السجون للتخلص منهم.
قام الدردج قنصل انكلترا العام في بيروت بزيارة بيت الدين وحل ضيفا على الامير مصطفى ارسلان قائمقام الشوف، علم المطران البستاني بذلك ولكنه قرر عدم زيارته رغم قرب المكان تحسبا من قنصل فرنسا الامر الذي ادى الى ازدياد عدد خصوم المطران البستاني.
عاد القنصل الفرنسي تريكو الى فرنسا لقضاء اجازته، حل مكانه كيز قنصل فرنسا في دمشق الذي كان يكره المطران البستاني. ازدادت شكاوى اللبنانيين من رستم باشا واراد قناصل الدول الكبرى وضع حد لتلك الاحتجاجات. فصرح قنصل فرنسا وانكلترا ان الشكاوى لا اساس لها من الصحة ويجب معاقبة المشتكين بتهمة التحريض. عارض قنصل المانيا الفكرة، وطلب من رستم باشا ان يتعامل بسياسة حكيمة مع المشتكين. موقف القنصل الالماني هذا زاد الشك عند كيز قنصل فرنسا بان التهمة الموجهة الى المطران البستاني بانه يريد احلال الانتداب الالماني مكان الانتداب الفرنسي صحيحة.
ابرق القنصل البريطاني الدردج الى وزارة الخارجية في باريس، وكانت النتيجة ان سفير فرنسا في الاستانه طلب باسم حكومته من الصدر الاعظم محمد رشدي باشا ابعاد المطران بطرس البستاني الى القدس لتهدئة الوضع. تردد الصدر الاعظم من ابعاد المطران البستاني دون حكم صادر ضده، فقام السفير الفرنسي بالتصريح بان هناك مؤامرة يراد منها نشوب فتنة في لبنان. وافق الصدر الاعظم، وارسل تلغرافا الى رستم باشا يأمره بإبعاد المطران البستاني الى القدس ففعل وكان ذلك في اول حزيران سنة 1878 . 
قام اللبنانيون وقعدوا بسبب الابعاد، وغصت كرسي البطريركية ودور القناصل بالمحتجين، وانزلت الاجراس عن الكنائس، وتدخل البطريرك مسعد شخصيا ورسميا وكتب الى الباب العالي والى سفراء وقناصل الدول. فكان رد فعل رستم باشا، وبالتنسيق مع قنصل فرنسا وانكلترا، إلقاء القبض على الكثيرين من زعماء المحتجين وزجهم في السجون. رغم ذلك ازدادت الشكاوى وخطب الخوري بطرس المعوشي نائب المطران في قضاء جزين على مسمع قائمقام القضاء منتقدا ادارة رستم باشا ومبينا عدم عدالة قرار ابعاد المطران البستاني. 
وصل المطران البستاني الى القدس فاستقبله الكردينال الفرنسي لافيجري رئيس اساقفة الجزائر الذي كان في زيارة هناك. قام المطران البستاني بإخبار الكردينال تفاصيل الامور، ولما عاد الكردينال الى فرنسا اخبر رجال الحكومة بأسباب الابعاد فاقتنعت فرنسا وقامت بإرجاع المطران البستاني على احدى بوارجها الحربية من يافا الى لبنان بعد ان تم ابعاده نحو سبعة اشهر.
بقى رستم باشا في لبنان حتى انتهاء مدة ولايته على جبل لبنان، حاول الباب العالي تمديد مدة ولايته بدعم من السلطان عبد الحميد الا ان فرنسا عارضت بشدة وتم تعيين والى اخر مكانه.  
     drelias10@yahoo.com

CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق