الأحد الثالث بعد العنصرة

(متى 6: 22 – 33 )

" قال الرب سراج الجسد العين. فإن كانت عينك بسيطة فجسدك كله يكون نيراً..." 
إن الفكرة وراء هذا المقطع هي فكرة بسيطة وبدائية. تعتبر العين النافذة التي منها يدخل النور الى الجسد. إن وضع النافذة يحدّد النور الذي سيدخل إلى كل البيت. وحالة النافذة تقرر مقدار النور الذي سيدخل إلى البيت: النظافة، الوضوح، عدم وجود موانع الخ... فإذا تحققت الشروط يدخل النور بقوة إلى البيت ويُنيره كله. أما إذا كان زجاج النافذة ملوناً أو وسخاً أو أسوداً أو ... فإن الموانع ستجعل الضوء قليلاً والبيت يبقى مظلماً. فكما أن كمية الضوء الذي ستدخل البيت تتعلق بحالة النافذة كذلك، يقول السيّد المسيح، فإن النور الذي سيدخل إلى قلب الإنسان وروحه بواسطة عينيه سيتعلق بحالة عينيه الروحيتين، لأن العين هي نافذة كل الجسد.

إن الفكرة التي نأخذها عن الآخرين تتعلق بحالة أعيننا. هناك أمور معينة تعمي أعيننا وتشوّه نظرنا .
1- الحكم المسبق يشوِّه نظرنا:
ليس من شيء آخر يمكن أن يشوّه حكم الإنسان على إنسان آخرأكثر من الحكم المسبق. يمنعه من تكوين حكم واضح ومنطقي. يعمي بصيرته عن الحقيقة وأهميتها.
إن من أهمّ مبادئ الحياة أن يفحص الإنسان نفسه ويرى إذا كان يحكم على الأمور منطقياً وبعدل أم أنه يُسيَّر بالأحكام المسبقة.
2- الحسد:
الحسد يمكن أن يهدم البصيرة. الكثير من العائلات والصداقات قد تكسرّت على صخرة الحسد التي تُحوّل أمور بسيطة وبريئة إلى أعمال إجرامية وتعمي عيني الحقيقة والواقع.
3- الغرور:
الغرور يهدم بصيرة الإنسان كلياً، إذ تجعله غير قادر أن يرى ذاته كما هو، وغير قادر أن يرى الآخرين كما هم حقيقة. فإذا كان الإنسان مقتنعاً بكماله وحكمته، سوف لن يرى جهله؛ وإذا كان قد أعمي عن كل الأمور الأخرى سوف لن يُدرك أخطاءه. عندما يقارن نفسه مع آخرين ينطلق دائماً من تفوقه. لذلك سوف لن يستطيع أبداً أن ينقد ذاته وسوف لن يتمكن من التقدم. النافذة التي منها يرى نفسه والآخرين سوداء لكن المسيح ههنا يتكلم عن فضيلة خاصة يمكنها أن تملأ العينين بالنور وعن حالة يمكن أن تملأهما بالعميان. يقول السيّد:" ليس من شيء يمكنه أن يعطيك نوراً ووضوحا لحياتك أكثر من الكرم؛ وليس من شيء يمكن أن يعطي ظلمة وسوء فهم للآخر أكثر من الغرور.
4- الحكم على الآخر بمحبة:
انه لمن صفات الطبيعة البشرية أن تُفكر بالأسوأ، وأن تجد فرحاً في السيء المعاد. في كل يوم تشوَّه أسماء أشخاص بريئين من قِبَل نمّامين قد تغمّست ألسنتهم بالسمّ.... سوف يتخلص العالم من مشاكل وأحزان كثيرة لووضعنا على ألسنتنا الأفضل وليس الأسوأ.

علينا أن نكون كرماء في أعمالنا:
السؤال الذي يجب أن يلازمنا هو:" ماذا أستطيع أن أفعل؟ متى وأين يمكنني أن أساعد؟
عندما نبدأ بالشعور بحب العطاء للآخرين، عندها سنرى العالم والأشياء بوضوح، وتُصبح أعيننا مليئة بالنور.

هناك ثلاثة شرور تُعشعِش في الروح البخيلة وفي العين الحقودة:
الأولى: تجعل حياة الشخص صعبة. إذا كان إنسان ما يحسد نجاح آخر وفرحه، وإذا أغلق قلبه عن حاجات جاره، يصبح شخصاً يدعو للأسف والشفقة.
الثانية: يصبح من غير الممكن أن يعيش مع الآخرين. الإنسان القاصي مكروه من الجميع. والرجل المكروه من الآخرين، قلبه مليء بالكراهية وحب الذات. المحبة تغطي الكثير من السيئات، بينما الروح الحقودة تحوِّل الفضائل إلى شرور.
الثالثة: الروح البخيلة لا يمكنها أن تعيش مع الله. ليس من إنسان أكرم من الله. ولا يمكن الجمع بين شخصين يعيشان حياتهما بمبادئ متعاكسة. ولا يمكن أن يجتمع الله الذي يشتعل قلبه بالمحبة ورجل قد تجمّد قلبه بالسوء. العين الحسودة تشوّه نظرنا، بينما العين الكريمة ترينا بوضوح، لأنها وحدها ترى الله.
لا يمكن أن تعبدوا ربين:
لكي نفهم المعنى العميق لهذا التعبير علينا أولاً أن نتذكر شيئين من عبيد الماضي:
أولاً: كان العبد في عينيّ القانون " لا شخص" ولكنه شيء. لم يكن له حق خاص به. كان ملك سيده الذي يحق له أن يفعل به كما يشاء حتى قتله.
ثانياً:لم يكن للعبد حق في الوقت. إن كل برهة من حياته هي ملك سيده.
هنا نفهم معنى علاقتنا مع الله. ليس لدينا من حق خاص بنا بعلاقتنا مع الله . يجب أن يكون الله السيّد المطلق لحياتنا. أن نسأل دائما " ماذا يريدني الله أن أعمل؟ الوقت ليس ملكنا. سأعمل ما يريدني الله عمله. ليس هناك من وقت بالنسبة للمسيحي لا يكون فيه مسيحياً. لا يمكنه أن يكون مسيحيا في وقت وفي نسبة وغير مسيحي في وقت آخر وبنسبة أقلّ.
ثم يتحول السيد ليوضح مكان الممتلكات في حياتنا. وبناء لهذا التعليم هناك ثلاثة مبادئ:
1- كل شيء هوملك الله. الكتب المقدسة واضحة في هذا الأمر" الأرض كلها لله و كل ما فيها" (مزمور 24: 1). كل حيوانات الغابات، هم ملكي .... (مزمور 50: 10- 12) .
السيّد، حسب تعليمه، هوالذي يُعطي عبده المكافأة (متى 25: 15) وهوالمالك. يستطيع الإنسان أن يشتري ما يريده، أن يغيّر لدرجة الأمور، لكنه لا يستطيع أن يخلقها. إن المالك الأوحد هوالله.
2- المبدأ الثاني يقول: إن الإنسان دائماً أهمّ من الأشياء. إذا كان تجميع الكنوز يتم على حساب معاملة الإنسان؛ عندها يكون الغنى باطل.
3- الغنى دائماً يخضع لمصلحة الإنسان. لا يقل الكتاب المقدس " بأن المال سبب كل الشرور"، لكنه يقول: حبّ المال هوأساس كل الشرور،(1 تيموتي 6: 10) . يمكن لواحدنا أن يجد في الغنى ما يعرف عادة " بالخلاص المنافس". يُمكن للإنسان الغني أن يظن بأنه يمكنه أن يملك ما يشاء ويشتري ما يشاء... فيصبح عندها الغنى السلاح الذي يواجه به الحياة. وإذا أراده ليكون لمصلحته فقط، يصبح الغنى الشيء الذي يعيش له ويعيش به، عندها يصبح عبداً للغنى، والغنى هوالمالك والسيّد وليس الله. مِن ما قلت يتّضح لنا بأن المال والغنى ليسوا خطيئة بحد ذاتهم، ولكنهم مسؤولية كبيرة. فالمالك الكثير ليس شخص يستحق التهنئة، بل الصلاة ليستعمل أملاكه كما يريده الله أن يستعملها.
الهموم الممنوعة:
" أقول لكن أن لا تهتموا بما تأكلون  بما تشربون..."  يجب أن نعرف قبل الدخول في درس هذا المقطع ما هوممنوع وما هومسموح به. كان الحاخامات الكبار يعلمون بأن على الرجال أن يواجهوا الحياة بخليط من الحكمة وصفاء العقل، وعلى كل والد أن يُعلّم أولاده مهنة، لأن في عدم تعليمهم مهنة يعني بأن يعلمهم السرقة. وبنفس الوقت علموا بأن الذي عنده رغيف واحد من الخبز ويسأل ماذا سآكل غداً؟ إنه رجل ذي إيمان ضعيف. يُعلّم السيد المسيح في هذا المثل درساً يعرفه إنسان يومه جيداً، درس الحكمة والهدوء والثقة مجتمعين.
الإهتمام و الدواء:
في هذا الدرس يضع السيّد أمامنا سبعة براهين ضدّ الإهتمام:
1- يُوضح في البداية بأن الله منحنا حياة، وإذا كان قد أعطانا حياة عليه يجب أن نثق به في الأمور الأخرى الأقل أهمية.
2- يتكلم عن طيور السماء. لا يهتمون ولا يجربون أن يحزنوا للمستقبل، ومع ذلك تسير حياتهم كالمعتاد.
3- يبرهن السيّد بأن الإهتمام لا ينفع. ويُمكن أن نجد معنيين في الجملة: إن بالإهتمام لا يمكننا أن نزيد شيئاً على طول جسدنا، وبالإهتمام سوف لن نستطيع أن نزيد شيئاً لحياتنا.
4- يتكلم عن الزهور. ويظهر من كلامه بأنه يحب الزهور. الليلكي تُزهر يوماً لتعود وتموت.
ولكن في حياتهم القصيرة فإنهم يلبسون حللاً جميلة تفوق جمال حلل الملوك. فإذا كان الله يعطي مثل هذا الجمال للورود، فهل تتصوروا كم سيهتم بخليقته – الإنسان -؟ 
5- يقدم لنا السيّد طريقة لمحاربة الإهتمامات. الإهتمامات هي شيمة من شيَم الوثنية وليست للإنسان الذي يعرف الله. الإهتمامات هي عدم الثقة بالله. على المسيحي أن لا يهتم لأنه يحب الله.

6- ثم يعرض لنا طريقين لدحر الإهتمامات:
(1) التصويب على ملكوت الله. 
(2) يعرف كل منا كيف أن المحبة تقهر الخوف والإهتمام. المحبة تلهم عمل الإنسان، تشجعه على الدرس. تنقّي حياته وتسيطر على كل وجوده. يعرف السيد المسيح بأن الإهتمامات تزول عندما يصبح الله مركز كل حياتنا.
7- أخيراً يقول المسيح بأن الإهتمامات يُمكن أن تُغلَب إذا ما عرفنا أن نعيش كل يوم بيومه. يقول المثل القديم: " لا تهتم بشياطين الغد، لأنك لا تعرف ماذا سيحمل الغد، يمكن أن لا تكون حياً نهار الغد، فتكون قد اهتممت بعالم ليس عالمك". يعلمنا السيّد أن نهتم بكل يوم فقط دون أن نهتم بالمستقبل غير المعروف وبأمور يمكن أن تحدث.

الإهتمامات إذاَ باطلة، عادمة الفائدة وفي الجوهر مضرة. الإهتمامات لا يمكن أن تؤثر على الماضي، لإن الماضي هوالبارحة. الماضي هوماضٍ. أنا لا أقول بأنه ينبغي أن نفصل ذواتنا عنه؛ ولكن أن يُستعمل الماضي كحافز للعمل وكمُوجّه لمستقبل أفضل، وليس شيئاً يسيطر على تفكيرنا فيشلّه ويقتله.

قال النبي ( أشعياء في 26: 3) ما يلي: " إنك ترعاها بالسلام ،السلام لأنها عليك توكلت". توكلوا على الرب إلى الأبد. " تعلموا من طيور السماء" يقول لنا سيّدنا.

المتروبوليت بولس صليبا

CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق