فولدر خيرت النائب الهولندي المثير للجدل أشعل نار فتنة كبيرة عندما أنتج فلم "فتنة" وقامت ضده قائمة بعض المسلمين ولم تقعد إلى الآن، ومن حقهم أن يثوروا وأن يغضبوا ما دام الفلم ينتهك حرمة الرمز الإسلامي الأعظم محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بل إننا نرى أن ثورة المسلمين ورد فعلهم على الإساءة لم يرق إلى درجة التعاكس المساوي لقوة الفعل تبعا لقاعدة (لكل فعل رد فعل مساو له بالمقدار ومعاكس له بالاتجاه) المعروفة حيث كانت ملامح ردهم باهتة ودوافعها غالبا كانت سياسية أكثر منها دينية تتحكم فيها المصالح الشخصية والفئوية والعلاقات البينية والتأثيرات الخارجية ومصالح القوى العظمى ومسائل اجتهادية وتبعيات الحاكميات العربية والإسلامية للنظم الغربية أو إكراما لعيون آل صهيون الذين رفعوا علمهم في سماوات الكثير من البلدان العربية والإسلامية ولا فخر.
وكان الحراك الذي أثاره الفلم مؤشرا على أن للتماسات والمماحكات الدينية وهجا لا زال محرقا ومؤثرا ولا زال قادرا على تأجيج نار الحقد التي تقود عادة إلى العنف المفضي إلى الموت والخراب والدمار. وقد شعر بهذه الحقيقة وأدرك بعدها بعض المسلمين وكثيرا من الآخرين، وبدأوا يتحسسون منها ويأملون في تجنبها ويعملون على اجتنابها.
ولكن الظاهر أن بعض المسلمين النمطيين التقليدين، والمسلمين الحداثويين، والعلمانيين، والطائفيين الموتورين لم ينتفعوا بهذه المعرفة ولم يدركوا أهميتها في تجنب إحداث خروقات في الجسد الإسلامي من الممكن أن تتحول إلى نزاع يطال الأخضر واليابس ويحرق كل ما يقف في طريقه سواء كان مجرما أم بريئا، فجاءوا في هذا الوقت الحرج ليعلنوا عن إنتاج مسلسل ديني يحكي تاريخ أحرج مرحلة من مراحل عمر الإسلام، المرحلة التي أسست لكل أنواع الفتن التي أصابت وستصيب المسلمين، وفتحت بابها بل حطمته كليا ليستحيل غلقه من جديد، واقصد بها مرحلة ما بعد عصر البعثة، حيث نشب الخلاف بينهم ورسول الله صلى الله عليه وآله لا زال جسدا مسجى في بيته ينتظر من يساعد علي بن أبي طالب ليغسله ويكفنه ويدفنه، بسبب الاختلاف في فهم الاستخلاف والوصاية، وهي الفتنة التي قادت المسلمين ليقتلوا الخليفة الثالث بعد أن أسهموا بشكل أو بآخر في قتل الخليفتين الأول والثاني غيلة وغدرا (1) وبعدها دفعوا أشقاها ليقتل الخليفة الرابع، ثم إلى قتل الإمام الحسن وذبح الإمام الحسين وجميع العلويين الشرفاء في كربلاء، وأحدثت مسلسل ذبح الطالبيين عبر التاريخ (2)
ولقد تفننت كتب التاريخ في رواية أحداث هذه الوقائع المريرة فأنصف الحقيقة بعضها وشذ عنها بعضها الآخر تساوقا مع أعطيات الحكام أو تعنصرا لهم أو نصرة لمعتقد ارتضوه لأنفسهم أو تخريبا للدين أو تشويها للحقائق، حتى بات معرفة صدق الخبر من كذبه من أصعب ما يواجه الباحث المنصف والمدقق الشريف والعالم المحقق.
لكن مع كل هذه المعرقلات نجحت بعض الحقائق الدامغة في اختراق الحصار المفروض، ووصلتنا ناصعة واضحة لا تقبل التأويل أو التعليل ولاسيما وأن الأطراف الإسلامية مجتمعة اشتركت في روايتها وإيراد أخبارها في الكتب المعتبرة مثل حقيقة دس معاوية السم بواسطة "جعدة بنت الأشعث بن قيس" للإمام الحسن بن علي، وحقيقة قتل الجيوش الأموية المؤتمرة بأمرة يزيد بن معاوية للإمام الحسين بن علي في كربلاء، وحقيقة قتل معاوية للصحابي الجليل حجر بن عدي، وحقيقة إباحة يزيد بن معاوية للمدينة المنورة في واقعة الحرة التي اغتصبت فيها نساء وبنات صحابة رسول الله الأكرمين، وحقيقة حرق جيش يزيد للكعبة المشرفة بنيران المنجنيقات، ومئات الحقائق الدامغة الأخرى التي لا يمكن تحريفها أو تكذبيها إلا وفق طريقة ابن العربي الخرقاء (3)
ومع تصاعد الدعوات التي تطالب المسلمين بعدم التركيز على وقائع التاريخ الدامية والاستعاضة عن ذلك ببث ثقافة التسامح والقبول بالآخر والتعايش على أساس المشتركات والهوية الإسلامية الجمعية والمصلحة والمصالحة الوطنية، تصاعدت أيضا وتيرة الدعوة إلى التقاطع وإثارة النعرات الطائفية باختيار وجهة نظر طرف واحد من الأطراف كلها وهو طرف مشكوك في صدقه لأن تاريخه كتبه الحكام أنفسهم، ومشكوك بأطروحته التي تتهازل وتخور أمام ما يقف قبالتها من روايات صادقة، ليبنى عليها مسلسلا دينيا تاريخيا بكلفة سبعة ملايين دولار أمريكي بعنوان "معاوية والحسن والحسين" أو "الأسباط" في إشارة إلى سبطي رسول الله الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، من إنتاج شركة المها للإنتاج الفني وهي شركة كويتية يرأسها محمد الحسيان ويدرها محمد العنزي، والمسلسل من إنتاج عبد الباري أبو الخير، وقد اختير شهر رمضان المبارك لبثه عبر القنوات الفضائية
يؤكد المسلسل على أضحوكة ابن العربي في عواصمه عن قصة (سيدنا معوية رضي الله عنه الذي قتل سيدنا علي رضي الله عنه وقتل سيدنا الحسن رضي الله عنه وقصة سيدنا يزيد بن سيدنا معاوية رضي الله عنهما الذي قتل سيدنا الحسين بن علي رضي الله عنهما) بغية إحداث (التوافق) بين الشيعة والسنة كما يقولون وإظهار دور المؤامرة اليهودية في تخريب العلاقة بين المسلمين الأوائل!
ويدعي المنتجون أن المسلسل يتحدث عن بدايات الفتنة التي أثارها مقتل الخليفة الثالث فصاعدا وصولا إلى مقتل الإمام الحسين بإظهار القصة (الحقيقية) المذكورة في التاريخ عن العلاقة (الحميمة جدا) بين الصحابة وأهل البيت لتبيان (أن الصحابة كانوا عظماء حتى في خلافهم) الذي أفضى إلى مقتل الخليفتين عثمان وعلي والسبطين الحسن والحسين فضلا عن مئات ألألوف من الصحابة والتابعين وأحدث شرخا في الإسلام لما يزل داميا نازفا تتهاوى الرؤوس أمام شدة عصفه وتتناثر الأشلاء أمام كبر حقده! كما يدعي "محمد الحسيان" رئيس شركة المها للإنتاج الفني. ويريدون بهذا المسلسل تبرئة ساحة بعض المسلمين المجرمين من دم الخلفاء والصحابة والتابعين وعصب الأمر برأس نكرة مجهولة أختلقها العقل الساذج، فيدعون بأن الذي أثار الفتنة والخلاف بين المسلمين بقضهم وقضيضهم وصغيرهم وكبيرهم ومبشرهم وموعودهم بالجنة هو ابن اليهودية السبأية السوداء "عبدالله بن سبأ" هذا الأسطورة الكاذبة الذي يظهره الحقد واللؤم العربي وكأنه أهان وأستخف بالعقل العربي والذكاء الإسلامي وتغلب على كل صحابة النبي بما فيهم عظماء الأمة وسخرهم لمشروعه التخريبي الخبيث، فحرك خليفة المسلمين علي بن أبي طالب وجيش الإمبراطورية الإسلامية كله من جانب، وحرك والي الشام معاوية وجيشه الجرار من جانب مضاد، ثم أمرهم بأن يتحاربوا ويقتل بعضهم بعضا ويبيد بعضهم بعضا لينحروا الإسلام وشريعته التي ما زالت عضة طرية في حرب استمرت لمدة عامين قتل خلالها أكثر من مائة ألف موحد مسلم بما فيهم صحابة رسول الله! فأي استغفال للعقل المسلم هذا؟
وأي إهانة لجيل الصحابة الجيل المثالي المؤمن الطيب؟
وأي سخرية بالإسلام المحمدي الذي يظهرونه وكأنه لم يعلم العرب شيئا ولذا رضخوا لابن السوداء بأجمعهم!؟
وهل يعقل أن ينجح يهودي أفاق لا يعرف أصله في إشعال نار أعظم فتنة في التاريخ الإسلامي دون أن يكشفه أحد من الصحابة الكرام؟ (4)
لقد أسهم الإفتائيون الذين كان بعضهم يرافق فريق تصوير المسلسل ويفتيهم أولا بأول وبعضهم الآخر الذي كان يطلع على سيناروهات القصة في مكتبه كما يقول محمد الحسيان، والذين قال "محمد العنزي" مدير شركة المها بشأنهم: إن لدينا أكثر من ثلاثين فتوى من علماء مسلمين ومن كبار العلماء في الوطن العربي والعالم الإسلامي.
أسهم هذا الإفتاء الممنهج والمغرض في تأجيج نار هذه الفتنة الطائفية عن طريق الفتاوى التي أصدروها للقائمين على أنتاج المسلسل، ومنها فضلا عن التحريف والدس والتلاعب بالروايات التاريخية واعتماد الروايات المغرضة والكاذبة، السماح لهم بتجسيد شخصيات الإمامين الحسن والحسين من قبل أشخاص يعملون في مجال الفن السينمائي المعروف بواقعه الأخلاقي المتردي، وهم ممثلون لا يعرف عنهم أي التزام أخلاقي كما يتبين من مسلسلاتهم التي عرضتها الفضائيات من قبل، ومنهم الفنان الأردني "محمد المجالي" الذي سيلعب دور الإمام الصحابي الحسين والفنان الأردني "قادر" الذي سيلعب دور الإمام الصحابي الحسن وهذا يسيء للشخصيات المقدسة التي تجلها شريحة لا يستهان بها من المسلمين، ويتعارض مع فتاوى سابقة تمنع تجسيد شخصيات الصحابة في الأفلام والمسلسلات، حيث سبق وأن أفتى الأزهر الشريف بحرمة تصوير أو تجسيد شخصيات الرسل والأنبياء والصحابة والعشرة المبشرة بالجنة.
إن قيام نقابة الفنانين الأردنيين بمنح التصريح للجهة المنتجة للبدء بالتصوير، وتعاقد الفضائيات العربية الخليعة الماجنة مع الشركة المنتجة لشراء المسلسل يعني أن هناك أكثر من طرف قد أسهم في عملية التخريب المقصود هذه، وهم جميعا يتحملون وزر عملهم ويضعون أنفسهم تحت طائلة العقاب وسلطة القانون، لذا نأمل بهذه الأطراف أن ترعوي وتفيق من غفلتها ـ هذا إذا ما كانت غافلة ـ وترجع عن قرارها الخبيث بعرض مسلسل الفتنة الخبيثة في شهر رمضان القادم.
ومن حق الأطراف المتضررة ولاسيما الطرف الشيعي والأطراف الإسلامية الملتزمة بروح الإسلام اتخاذ كافة الإجراءات التي تضمن لهم حقوقهم، وتمنع عرض المسلسل والإساءة إلى الرموز الدينية المقدسة.
أنتهز هذه الفرصة لأطلب من المثقفين والمبدعين الحريصين الغيورين كافة إدانة هذا العمل التخريبي، ورفع أصواتهم المعترضة عالية للمطالبة بمنع عرض المسلسل وإدانة القائمين عليه. أما من يسكت منهم أو يتقاعس تحت ضغط أي عذر فإنه سيضع نفسه موضع الشك لأنه لا خيار بالحياد فيما يخص أمر الإسلام.
الهوامش
(1) ثبت بالدليل القطعي أن الذي قتل الخليفة الثاني غدرا ثم قتل الخليفة الثالث صبرا وبعدها قتل الخليفة الرابع غيلة هم العرب المسلمون أنفسهم، وحتى من كان قاتله من الأعاجم إنما كان بحث ودفع من العرب المسلمين أنفسهم، ولمعرفة هذه الحقيقة يراجع كتابنا (نظرية فارسية التشيع) فصل جريمة مقتل خليفة المسلمين عمر بن الخطاب.
(2) للاستزادة يراجع كتاب مقاتل الطالبيين للأصفهاني
(3) يراجع كتاب العواصم من القواصم لابن العربي
(4) يراجع كتاب أسطورة عبد الله بن سبأ للسيد مرتضى العسكري بجزئيه حيث فند هذه الخرافة المضحكة التي أريد منها استغفال العقل العربي الإسلامي، وتراجع كذلك أقوال السيد محمد المهري مفتي الطائفة الشيعية في الكويت الذي قال: إن أسطورة ابن سبأ جيء بها في هذا المسلسل لتبرير الظلم الذي وقع على أهل البيت.
0 comments:
إرسال تعليق