جد بعيدة هي المسافة بين تهكم (جئتكم بالذبح) الذي أصبح شعار الحركات الإسلاموية المتطرفة وثقافة (إنا أرسلناك رحمة للعالمين) التي تمثل روح الإسلام الحقيقي، فهما ضدان لا يمكن أن يجتمعا سوية إلا في طبخة من حبائل الشيطان وجهل الإنسان، والعقيدة أي عقيدة سواء كانت دينية أم مدنية إذا كانت تنضوي على مثل هذه التناقضات الحادة فهي عقيدة ساقطة يستحيل أن تكون من وحي السماء أو حتى من وضع إنسان ينشد الكمال، ولذا لا تجد في الإسلام تعارضا لا في القرآن وبيانه ولا في السنة النبوية وأحكامها وقد وصل الأمر إلى درجة قطعية من خلال ما عرف بقاعدة التسقيط التي تنص على إن : (الحديثان يسقطان بالتعارض) أي إذا تعارض حديثان نبويان في مضمونهما حتى ولو كانا متفقان في الوجوه الأخرى سقطا كلاهما.
والمؤسف أن هناك بيننا اليوم من يريدون ليّ عنق الحقيقة وإفهام العالم أن الإسلام يؤمن بثقافة الذبح أكثر من إيمانه بثقافة القبول والتسامح والمعايشة، وهؤلاء هم الذين يعتقدون أن الجمع بين المنهجين هو الذي سينجز لهم مهامهم التي يدعون من خلالها إلى أسلمة الكون كله وفق رؤاهم الفكرية العقدية الضيقة حتى ولو من خلال ذبح مليارات المخالفين لأنهم لا يؤمنون بالتلون والتنوع ويعتقدون بأنهم الفرقة الناجية. إن مجرد جمعهم بين المتناقضين بهذا الشكل العبثي الفج يسقط كل أطروحاتهم ويفند كل ادعاءاتهم؛ فجمع المتناقضين يعني المستحيل.
لكن كما أن لكل قاعدة استثناء هناك استثناء مجازي أكد عليه مجموعة من الباحثين الذين نحن بصدد التعريف بهم كانوا قد وظفوه كعنوان لكتابهم (الوحدة في الاختلاف) بما يبدو وكأن هناك تداخلا بين الاختلاف الذي هو بنظر البعض من ضيقي الأفق أس من أسس الفراق وبين الوحدة التي تحتاج فيما تحتاجه إلى توافق الرؤى وتقارب الآراء بعيدا عن الاختلافات الجوهرية.
ولأننا في عالم شائك معقد متطلب لم يعد للنظام القبلي أو العرفي الموروث تأثيرا على نوع النزاعات التي تنشب بين المجاميع في البلد الواحد، وأصبح من الضروري اعتماد أساليب علمية متطورة تتداخل علومها مع العلوم الأخرى مثل علم النفس والتحليل النفسي والسلوك والاجتماع وغيرها، عسى أن يتم التوصل إلى نوع من أنواع التعايش والقبول بالآخر حتى ولو على مضض، فقد أنشئت في العالم المتطور مجموعة منظمات علمية تعنى بجانب توظيف الاختلاف لخلق نوع من الوحدة بين الناس، وتهتم بالنزاعات بين البشر حفاظا على الإنسان هذا الكائن الفريد الغريب من الانقراض. ومن هذه المنظمات العالمية معهد السلام الأمريكي وهو منظمة غير ربحية تعتمد التبرعات والهبات مصدرا أساسيا للتمويل وتقوم بنشاطات في أغلب المناطق الساخنة ومنها العراق، يعتمد المعهد أسلوب المحاضرات وورش العمل والمؤتمرات والمشاريع العلمية. ومن أحد المشاريع العلمية العملية ولد كتاب (الوحدة في الاختلاف) الذي أسهم بوضعه ثلاثة باحثين ليمثل دراسة ميدانية لمشروع امتد العمل به على مدى أكثر من سنتين في عدة دول شرق أوسطية وشمال أفريقية من خلال التعاون بين الباحثين ومنظمات المجتمع المدني وأشخاصا مهتمين بحل النزاعات في تلك البلدان ليبحث في ظروف وتحديات طريق الحوار في الشرق الأوسط، والوحدة الوطنية والتسامح، والعلاقات الدولية، وطبيعة وأنماط جهود السلام، والحوار بين الأديان في الشرق الأوسط، وحوار الأديان بين الراعي الأجنبي والمنسق المحلي وحساسية التداخل الثقافي.
كانت الغاية من وضع مثل هذا المشروع المهم تقديمه كدليل أساس داعم لمحترفي حوار الأديان المحليين عسى أن يسهم في تنامي الحقل البحثي المتعلق بحوار الأديان كمصدر لبناء السلام في المنطقة والعالم، وقد أسهم في وضع هذا الكتاب القيم ثلاثة باحثين هم كل من الدكتور محمد أبو نمر، الأستاذة أمل خوري، وإيملي ويلتي، وهم من المتخصصين العالميين في مجال الحوار وتحليل وحل النزاعات وصناعة السلام وقضايا حقوق الإنسان، ولكي نفهم جهدهم يجب أن نعرف نبذة مختصرة عن كل منهم:
الدكتور محمد أبو نمر باحث علمي على قدر كبير من المعرفة بتخصصه الذي نذر له نفسه وهو بناء السلام العالمي في عالم تتقاذفه الخلافات والفتن وتتحكم فيه المصالح والأفضليات، أبو نمر دكتور أمريكي من أصل فلسطيني وهو أستاذ ببرنامج السلام الدولي وحل النزاعات بكلية العلاقات الدولية بالجامعة الأمريكية (IPCR) وهو خبير في حوار الأديان من أجل السلام كان وما يزال يدير العديد من الورش التدريبية في مجال حل النزاعات الداخلية والعالمية منذ عام 1982 في العديد من البلدان في أمريكا وآسيا وأفريقيا.
فضلا عن البحوث التخصصية القيمة أصدر الدكتور أبو نمر مجموعة من الكتب القيمة، منها:
اللاعنف وبناء السلام في الإسلام بين النظرية والتطبيق
الحوار وحل النزاعات والتغيير
طرائق إيجابية لصناعة السلام
المصالحة والعدالة والتعايش بين النظرية والتطبيق
الوحدة في الاختلاف حوار الأديان في الشرق الأوسط، كتاب مشترك
الباحث الثاني هي أمل خوري الأستاذة المساعدة في كلية (مكدانيال) يتركز عملها على العلاقات الدولية وحل النزاع والعلاقة بين صناعة السلام والتنمية والتهجير الداخلي.
وأما المشاركة الثالثة فهي إيملي ويلتي الحاصلة على درجة الماجستير في السلام العالمي وحل النزاع من الجامعة الأمريكية، وتعمل في جمعية حل النزاع، كما عملت في مجال حل النزاع وقضايا حقوق الإنسان في فلسطين وجنوب أفريقيا وايرلندا الشمالية
صدر الكتاب الأصلي بطبعته الأولى باللغة الانكليزية تحت عنوان (UNITY IN DIVERSITY) وبطلب من المؤلفين قام المترجم العراقي عبد علي السعيدي بترجمته إلى العربية، وقام بمراجعته فكريا ولغويا صالح الطائي وبمراجعته وتدقيقه محمود الزواوي، طبع الكتاب بنسخته العربية بداية عام 2013 في الأهلية للنشر والتوزيع في عمان / الأردن بواقع 415 صفحة من القطع الوزيري.
وأنا من خلال مراجعتي الفكرية للكتاب وقراءته بتكرار وجدته لفتة نوعية لا يمكن المرور عليها مر الكرام ولاسيما وان المعلومات الواردة فيه على قدر كبير من الأهمية للعاملين في مجال تحليل وحل النزاعات، فهو إضافة جميلة للمكتبة العربية.
صالح الطائي
0 comments:
إرسال تعليق