العقل والحجة في الحوار، ابن عباس أنموذجا/ صالح الطائي

من عبر التاريخ نستفيد، ومن قصصه نتعلم، ومن تجاربه نغتني، ومن لا يلتفت إلى حِكَم التاريخ ومواعظه يقع حتما في المحذور والمحظور وتسوءه عاقبة الأمور. ولذا أحلم أن يكون بين صفوف السياسيين العراقيين المعاصرين من تعلم ولو شيئا يسيرا من عِبَر التاريخ، يتعامل بها مع خوارج العصر الذين يحملون سيوفهم على عواتقهم يقطعون بها الرقاب؛ عسى أن يستخلص منهم من يقدر على إنقاذه فهم أولا وأخيرا بشر مثلنا؛ فيعذر إذا ما شن على الباقين حرب إبادة لينقذ البلاد والعباد منهم.
ومن عبر التاريخ الخالدة الحوارية التي جرت بين الصحابي عبد الله بن عباس ممثلا للإمام علي (عليه السلام) وبين الخوارج في معسكر النهروان قبل معركة النهروان، عسى أن تحفز السياسيين فيتعلمون منها آداب الحوار.
بعث الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) عبد الله بن عباس إلى الخوارج الذين تترسوا في معسكرهم في منطقة النهروان ليشنوا الحرب على الإسلام وقيادته الشرعية متعللين بحجج ما أنزل الله بها من سلطان، ولا أصل لها في عقيدة الإيمان. أرسله بعد أن علمه وأوصاه (1) وحدد له سبل إدارة الحوار وآلياته ومنهجيته معتمدا على ألمعية وذكاء ابن عباس الذي استوعب درس مهارات التفاوض من معلمه، لأن الإمام كان يعرف مع من يتعامل، وكيف يتعامل مع من هم بهذا المستوى من الضلال والتيه، وليس لأنه كان يستصعب الحرب، وإلا فالإغارة عليهم وقتلهم جميعا لم تكن أصعب من إقناعهم بالعدول عن آرائهم الشاذة المنحرفة، ولكنه أخر الحسم العسكري ليستخلص من بينهم المخدوعين والمتورطين والجهلاء والأغبياء والذين يرون الحشر مع الناس عيد.  وحينما وصلهم ابن عباس دار بينه وبينهم حوار كان هو البادئ فيه، فأراد أن يحرجهم عن طريق سؤال يبدو في منتهى الصعوبة لأن الناس كانت تجمع على فردانية علي (ع) بين كل أبناء ذلك الجيل، فسألهم :"ماذا تنقمون من عليّ؟ أي ما الذي أزعجكم في علي (عليه السلام) لكي تنقموا عليه وتخرجوا عن طاعته وتريدون قتاله؟
قالوا: ننقم منه ثلاثا:
أولاهنّ: أنه حكّم الرجال في دين الله، والله يقول إنْ الحكم إلا لله.
والثانية: أنه قاتل، ثم لم يأخذ من مقاتليه سبيا ولا غنائم، فلئن كانوا كفارا، فقد حلّت أموالهم، وان كانوا مؤمنين فقد حرّمت عليه دماؤهم.!
والثالثة: رضي عند التحكيم أن يخلع عن نفسه صفة أمير المؤمنين، استجابة لأعدائه، فان لم يكن أمير المؤمنين، فهو أمير الكافرين"
وهنا جاء دور ابن عباس ليلقي عليهم الحجة ويرد على اعتراضاتهم، فقال: "أما قولكم: إنه حكّم الرجال في دين الله، فأيّ بأس؟ إن الله يقول: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ}، فنبؤني بالله: أتحكيم الرجال في حقن دماء المسلمين أحق وأولى، أم تحكيمهم في أرنب ثمنها درهم؟ فتلعثموا تحت وطأة منطقه.
ثم قال: "وأما قولكم: إنه قاتل فلم يسب ولم يغنم. فهل كنتم تريدون أن يأخذ عائشة زوج الرسول (ص) وأم المؤمنين سبيا، ويأخذ أسلابها غنائم؟ فأسقط في أيديهم ولم يحروا جوابا.
فانتقل إلى الثالثة فقال: "وأما قولكم: إنه رضي أن يخلع عن نفسه صفة أمير المؤمنين، حتى يتم التحكيم، فاسمعوا ما فعله الرسول (ص) يوم الحديبية، إذ راح يملي الكتاب (علي بن أبي طالب) الذي يقوم بينه وبين قريش، فقال لعلي: اكتب. هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله. فقال مبعوث قريش: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، فاكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله. فقال لهم الرسول: والله إني لرسول الله وان كذبتم، ثم قال لعلي: أكتب ما يشاءون: أكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله".
ثم ما طرح الخوارج الغاضبين مشكلة ولا رأيا إلا واعترضه ابن عباس وفنده بالحجة والعقل والمنطق القويم السليم، فما كاد النقاش أن ينتهي حتى نهض غالبيتهم، معلنين طاعتهم لأمير المؤمنين علي (عليه السلام) ولم يبق مصرا على عدوانيته إلا من اتبع هواه وأغلق عقله؛ فتحجرت معارفه عند نقطة لا تؤمن إلا بالذبح طريقا وبالموت العبثي سبيلا. وهؤلاء جميعا يستحقون الموت لأنهم خارجون على القانون ويبغون الفساد في الأرض وتعطيل سنن الدين وتغليب لغة الشياطين، فشن عليهم جيش الإسلام غارة موفقة أبيدوا على إثرها ولم ينج منهم سوى تسعة أفراد هربوا وتناسلوا فكرا وجسدا وعقيدة فكان من نتاج ذلك التناسل والزواج السِفاح خوارج القرن الحادي والعشرين الذين ألغوا العقل وأبطلوا المنطق وآمنوا بالسيف طريقا للحوار مع الآخر لأنهم على يقين أن حجتهم التي يقاتلون تحت لوائها لا تصمد أما حجة العقل والمنطق السويين. ولكن بسبب التأثير الذي أحدثوه على عقول وأفئدة بعض الشباب المخدوعين بات من الضروري التحلي بالقيم التي علمنا إياها علي (عليه السلام) لكي نستخلص من بين صفوفهم كل من يرتجى منه حسنا وجميلا ولتحل لعنة الله على الذين صموا عيونهم وحجروا عقولهم وقلوبهم وابتعدوا عن الحق ورفضوا العدل وعادوا السلام وكفروا بالإنسان وكرهوا التلون.

هوامش
النقل عن سعيد بن المسيب: سأل رجل ابن عباس عن الوقائع التي حدثت في البصرة والشام والنهروان, قال: "فغضب ابن عباس .....ثم قال: علي علمني، وكان علمه من رسول الله (ص) ورسول الله علمه الله من فوق عرشه، فعلم النبي من الله, وعلم علي من النبي, وعلمي من علم علي" (أمالي للشيخ الطوسي ج1)

CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق