نارنين، مدينة رائعة الجمال، يمر في وسطها نهر عظيم، نظراً لعرضه وعمقه وسرعة تدفق مياهه، بني فوقه جسر للعربات والمارة. وكان يعيش في هذه المدينة رجل غني جداً، يعتبر أحد أهم أكابرها، وكان في قصره خدم من جميع الجنسيات والألوان. ومن بين هؤلاء الخدم اختار عبداً نشيطاً وفتياً ليكون في خدمته، أي أن يرافقه أنّى ذهب، وكان يحبّه ويفضّله على باقي الخدم.
وذات يوم، حبلت زوجته، وولدت طفلاً أسود اللون، يشبه العبد تماماً، رغم أن الزوجة كانت عفيفة، طاهرة، متعبّدة بشكل جنوني للسيدة مريم العذراء، ولم يلمسها سوى زوجها.
وما أن رأى الناس لون الطفل، حتى راحوا يرمونها بأبشع الاتهامات، وبأنها خانت زوجها مع ذلك العبد، لا بل أن أقرب الناس إليها، أهلها وأقاربها، راحوا يبتعدون عنها، ويرفضون لقاءها. فأحس زوحها بدوار عظيم، وأزمع على قتلهم معاً: العبد والزوجة والطفل، حتى يمحو العار عن عائلته.
هنا، تدخلت السيدة العذراء، فأعطته الصبر والحكمة، فقرر طرد زوجته من بيته بدلاً من قتلها، وقال لها:
ـ اذهبي أيتها الزانية، ولا تريني وجهك أو وجه ابنك بعد اليوم، فإن لمحتكما فلسوف أقتلكما.
فحملت المسكينة ابنها، والدموع تنهمر من عينيها، وراحت تركض باتجاه إحدى الكنائس، لأن لا أحد من الناس قبلها في بيته، فلقد كانوا يشتمونها، ويبصقون عليها، فأصيبت بانهيار عصبي قاتل، لذلك، ما أن دخلت الكنيسة حتلى ارتمت أمام أيقونة السيدة العذراء، وهي ترفع ابنها عالياً وتصيح:
ـ لماذا فعلت بي هكذا يا أماه، أنا المتعبدة الدائمة لك. إذا كنت غاضبة مني فما ذنب هذا الطفل البريء؟ لقد قررت الانتحار مع طفلي، فلا تغضبي مني، بل افتحي لي ذراعيك في الملكوت السماوي، بعد أن نبذني الجميع هنا.
وفجأة، حملت طفلها، وتوجهت نحو النهر، وصاحت بصوت عظيم، كي يسمعها زوجها وأهلها وجميع من كانوا هناك:
ـ لقد اتهمتوني بالزنا، أنا الشريفة العفيفة، وحكمتم على طفل بريء اختار الله لونه وليس أنا، وفرقتم بيني وبين زوجي الذي لم يلمسني رجل سواه، وها أنا الآن أترك عالمكم الظالم المظلم، لأرتمي في أحضان أم الإله، سيدتي وحبيبتي مريم العذراء.
وما أن أتمت كلامها، حتى رمت نفسها في النهر، وهي تحتضن طفلها الى صدرها، فخاف كل من سمعها من غضب الله، مخافة أن تكون تلك المرأة بريئة، وقد حكموا عليها ظلماً، وراحوا يصلون الأبانا والسلام بصوت عالٍ.
وما أن أنهوا صلاتهم، حتى أذهلهم مشهد الأم والطفل وهما يخرجان سليمين من النهر، وقد أصبح لون الطفل أبيض، ومشعاً بشكل عجائبي، فركضوا نحوها وهم يطلبون مغفرتها، ويسألونها كيف حدثت معها هذه العجيبة؟
فقالت لهم: بعد أن أسأتم الظن بي، واتهمتموني بشرفي، وطردني زوجي، دخلت وطلبت السماح من أمي مريم، كوني قررت الانتحار، وعندما رميت نفسي في النهر، حملتني امرأة جميلة بين ذراعيها، وقالت لي:
ـ لا تخافي يا ابنتي، لقد امتحنت ايمانك، ففزت فوزاً عظيماً، ولهذا سأجعل لون ابنك أبيض، كي يصدق والده انه ابنه، وسوف يكون أجمل من كل أولاد المدينة.
وما أن قالت لي هذا، حتى صعدت الى السماء، وها أنتم تعاينون عجيبتها المقدسة. وبينما هي تتكلم كان زوجها يصغي اليها باكياً، والندم الشديد ظاهر على تقاسيم وجهه، فاقترب منها، وارتمى عند قدميها، طالباً منها الصفح والغفران، وأن تعود الى بيته مكرمة معززة.
التفتت اليه وقالت:
ـ لن أدخل بيتاً طردتني منه ظلماً، هناك بيت وحيد بانتظاري، سيظللني الى آخر يوم من أيام حياتي.. انه الدير. أجل سأصبح راهبة، وسأنذر عمري كله لخدمة الفقراء، وللتعبد لحبيبتي ومخلصتي وأمي مريم العذراء.
**
0 comments:
إرسال تعليق