العــقل الراهـــــن وقــلق البحــث عن الحقـــيقة/ علي آل طالب

 – السعودية
لاشك ومن الناحية الإبستمولوجية بأن ثمة فرقًا ما بين ‘’الدين (=حقيقة المعرفة)’’ و’’المعرفة أو التدين (=معرفة الحقيقة)’’ على الرغم من صيرورة العلاقة ما بينهما، إذ لا جدال في موقعيّة ‘’النّص الإلهي’’ وما يُشكله من مكانة مركزيّة بالنسبة للمعرفة البشريّة على امتدادها الزمني، لاسيّما وهذه المعرفة لم تكن في أي عصر من العصور تختزن التماميّة ولا النقاء ولا الثبات، بل لم تكن بمنأى عن الانزياح والتحريف، خاصة وقد يشترك في مكوناتها حِزمٌ عديدةٌ من الأشياء واللا أشياء التي نستطيع انتسابها للمعرفة البشرية الأخرى.
بالتالي لا مندوحة من ‘’نسبيّة الفهم البشري’’ إزاء ‘’الحقيقة المطلقة’’ فيما لو أخضعنا الأمر لدراسة ‘’الدين’’ كظاهرة تستلزم المغايرة ما بين ‘’الدين’’ بذاته، و’’الدين كما يبدو لنا كبشر. إذ ليس من السهل تناول ‘’الدين’’ كفهم متمٌّ للحقيقة وكمالها. لا سيّما ومعظم إطلاقيّة الأحكام يعود منشؤها إلى الفهم البشري الذي هو منوط بقبليات مؤثرة على أفهمانا، فإن أي حكم سلبي يصدر عنا - كبشر- هو ما ينعكس من طبيعة رؤيتنا للدين؛ لا الدين نفسه. هذه حقيقة لا تتسق ورح المنطق والعقل فحسب؛ بل لأنها تشتبك مع جوهر الإنسان نفسه وفلسفة وجوده غير متغافلة بتاتا عن مسألة رحلة الإنسان مع نفسه والحياة معًا، ومع هذا الاعتقاد إلا أن أزمة اختطاف الحقيقة تبقى مسألة مرهونة بالعقول المهووسة بالمؤدلجات والمسكونة بمستغلقات الماضي، الماضي الذي يتمثل في وجهة نظر البعض كل الحقيقة، والواقع المعاصر اليوم يشهد تشذرات عظيمة نتيجة هذه النظرة التي ترتطم في معظمها مع جوهر الإنسان كقيمة محورية من منظومة صيرورة الحياة الكريمة، والتي تعير للحظة الإنسانية رهاناتها مع سائر اللحظات التاريخية.
وعلى الرغم من البون الشاسع ما بين ‘’الدين/ وفهم الدين’’. ‘’مطلق الحقيقة / ونسبية فهمها’’ إلا أننا يمكننا القول إن محاولة البحث عن الحقيقة تظل مرهونة بعوامل عدة، ولعلّ من أبرزها مكنزمات (التحليق الحر) والتي لا تتيح للعقل أن يمارس انفتاحه على الحقيقة فحسب، بل لأنه في الاعتبار أداةً لا تعيش دون الحراك المكثف والمتواصل بين قوسي التجاذب (اليقين والشك)، وهذا من شأنه يكفل استثمار تراكم طاقات العقل، الذاتوية من جهة، والجمعوية من جهة أخرى. مما يهيئ الأمر لإطلاق العنان لتعددية المفهومات البشرية، أي القناعة بديناميكيّة الاختلاف. ‘’الاختلاف المُولد للمعنى’’ الذي يُفضي إلى مجردات خالصة من كل المؤثرات، وهذا ما ينبغي أن تقوم عليه (نظرية التلقي) بأبعادها المعرفيّة المستخلصة من الاتجاهين الهرمينوطيقي الفنومنولوجي، إذ يكون العقل قادرًا على لعب أدوار محوريّة في النظر للحاجة البشرية للحقيقة على اعتبار تغاير الزمان والمكان ولو كان ذلك حسب الحسابات النسبية!
بهذا لا نخفي حالة القلق من خطر الانزلاق في صناعة الأساطير والتي باتت تدخل في التوظيف السياسي، وهذا ما أشار إليه أرنست كاسيرر حين وصف تلك الصناعة (=القوة الأسطورية) بأنها قوة جديدة مفزعة ظهرت في بعض المذاهب السياسية الحديثة، بعد أن حدد اشتراطات ولادتها جراء عوامل اجتماعية/تاريخية تنتظم مع إيقاع الحقيقة والواقع، بمعنى أن التأريخ الاجتماعي ليس بريئًا من مساهمته في بروز الأساطير بشكل عام، إلا أن كاسيرر قد ألقى الضوء باتجاه التسييس للأسطورة والذي لا يخلو من النظام ووضع الخطط والبرامج لذلك. وهذا الأمر ينذر بتكريس الأصولية واللاعقلانية حتى في المجتمع الرأسمالي الغارق في اللامعنى حسب جان بودريار.
ولأننا وحسب مسار الحديث المتشابك بملغزات عديدة ربما نندفع إلى خطوط متعالية تفرض علينا التطارح الشديد لفلسفة العلاقة بين الحركة (=فلسفة الحياة) وبين هذا الإنسان الذي هو سر الوجود الكبير. لذا كان لزامًا الانفكاك من ذلكم النغم إلى ما هو أدنى طبقة منه لينحصر جوهر البحث في معرفة الحقيقة من خلال فهم النص والواقع معا وكشف العلاقة بين المعرفة والقوة، والذي لا يتم ذلك إلا عبر إحراز المحاولات العديدة والجادة، وهذا ما تضمنه الهرمينوطيقات الفلسفيّة المعاصرة، والتي وإن كان لها اشتراطاتها، فإنها تسهم في إيجاب مساحات شاسعة كفيلة بالعقل أن يُحلق وأن يُبدع!.
هذا لأن مسألة القدسيات لا تختزن في جوهرها (التعالي المطلق) فحسب بقدر ما هي الغاية منها التطوير للواقع وفق مقتضيات اللحظة التاريخية التي تشد من أزر هذا الإنسان لأن يُبدع ويُطور من قدراته مع نفسه ومع الآخر أيضا. تحت ظلال معطيات الحياة الجديدة والمعاصرة، ولأن الدين في مثل هذا التصور ينتظم بعمق مع (الأنثروبولوجيا) العلوم الإنسانية وجعلها كرافعة للانجاز البشري. على اعتبار أن جوهر رحلة البحث عن الحقيقة تظل مرهونة بقوة المعرفة وعوامل التغيير للواقع، فإن أي حكم سواء أكان فقهيًّا أو قانونيًّا هو حكم قيمة لا حكم واقع وامتداد.
حيث يبقى ‘’الفهم’’ المنطقة المهمة بالنسبة للفعل الثقافي، فلقد كان التعاطي مع ‘’النص الديني’’ وتأويلاته مصدرًا لكل مؤشرات التعدد المعرفي في تمظهراته الفقهية والكلامية بل والسياسية أيضا. مع قطعية الثبوت للنص وما يختزن في جوهره من محايثات للحقيقة، والتي وإن اعتقد البعض التقاطع معها فيما يتعلق بالنظرة الذاتيّة (=الطمأنينة) إلا أن الأمر يظل متأرجحًا من حيث المعيار الموضوعي (=البرهاني) لا سيّما ورهان الفهم يبقى مرتبطَا بالتأويل باعتباره جزءًا لا يتجزأ من المسائل التقنية للتفسير أكثر منها المسائل الأعم والأشمل للدلالات وعامل اللغة. وأظنّ أن هذا ما كان يدفع إليه بول ريكور في كتابه ‘’صراع التأويلات’’ الذي وإن أحدث مقاربة بين مفهومي التأويل والهرمينوطيقا إلا أنه أكسب هذا المصطلح الأخير سمة الشمولية.
ولعلّي أجدُ في كتاب بول ريكور ما يختزل الاشتباك بين الدوائر الأيديولوجية والفكرية وما يتأسس عليه تاريخيًّا بواقع مستغلقات عديدة تتمظهر دوائرها في فرقٍ ومذاهبٍ شتى، إذ يتماهى النص وفهم النص عبر مشاكسات كبيرة لم يستطع الزمن (=الحركة) المساهمة في حسمها ولن يستطع كما يبدو!. ولو أن في التعددية من وجهته المثالية الشيء الكثير من المكنزمات الإثرائية إلا أنها ساهمت - بشكل أو بآخر - هذه التعدديات في إطالة أمد الاشتباك الذي يلقي بظلاله على المكونات الثقافية مما يؤدي لحالة من الإرباك إزاء الكثير من مجسات الميتافيزيقيا وهذا ما يعزز النظرة إزاء نسبية الفهم والمعرفة والمفضية إلى تعدد ديني فضلا عنه مذهبي وطائفي، إذ تتغاير ‘’الحقيقة’’ إلى مفاهيم ومعتقدات أنطولوجية، وينزاح التأويل معها إلى مفهوم إبستمولوجي محض، عندها يصبح من الاستحالة ادّعاء الإحاطة بمطلق الحقيقة.
الضرورة تحتم علينا النظر في تطوير العلوم المعرفيّة والدينية كافة وإخضاعها للتجديد الدائم كل ذلك من أجل الانفكاك من تابوات الفهم الأحادي إلى أفهام أخر، خاصة والغاية من كل تلك العلوم هو إثبات حرية الفكر ورحابة التجوال التفاكري الحر الذي يعتد بالثابت، ويتماهى مع المتحول. وهذا من شأنه أن يؤسس لمنهجية عقلانيّة مكافحة للخرافة والجهل، تستعيد للإنسان حريته بأشكالها المتعددة، وتؤمن له مساحات الاتساق لأن يقف عند تاريخه ليعالج اللحظة بكل اقتدار وتمكن.
ومن ناحية أخرى لا بد من اعتماد الحياة باعتبارها ركيزة حيوية للإنسان نفسه، فهو ابن اللحظة الراهنة في المقام المعتبر، خاصة والواقع بوصفه المعاصر يشهد تطورات كبرى على الأصعدة كافة، تتجلى ملامحها من خلال الانشعابات العلميّة والتي برزت بشكل كبير بعد عصر النهضة في أوربا، وفي النصف الثاني من القرن الماضي بالتحديد، وقد شهدت العلوم الإنسانية اليوم كالعلوم التجريبية وغيرها تطورًا مذهلا، الأمر الذي لا يستدعي فحسب التفكير في حيوات الواقع، بقدر ما هو النظر في التفكير البشري ومدى قدرته ولياقته على صياغة الواقع المتحول وفق مقاربات حيوية لا تجانب مطلق اليقينيات كما أنها لا تتجمد عندها.
على هذا الأساس لا يبدو الحديث عن العقل كسلطة وحيدة سواء في اكتشاف الحقيقة أو انتاجها إنما المقصد يتعلق بأننا أمام خزائن كبرى لا توجد لها حدود واضحة أو أكيدة المعالم، إذ لا غرو إن اعتاز هذا العقل - من أجل بلوغ المستطاع من الحقيقة - إلى مرجعية أخرى وإلى عنصر خارجي منفصل عنه، فهو يحتاج إلى التأريخ بأدواته المسموعة والمنقولة، وبحاجة أيضا إلى تراكم التجربة والاختبار، كما هو بحاجة للأخذ بأسباب الإحصاء والاستقراء، والأمر يشمل الغيبيات أيضا التي تعتبر بالوحي والتنزيل. إذ ليس من ضروب العجز أن يكون العقل بحاجة إلى مرادفات مُعينة؛ لا من أجل اكتشاف الحقيقة فحسب بل لإعادة إنتاجها حسب متغيرات الزمان والمكان ومتطلبات الحياة.
أعتقد إذا ما أردنا أن نراهن على قراءة موضوعية للواقع ينبغي ألا يغيب عنا طاقة الإنسان الحاضر التي لا تختلف عمن سلف باعتباره صاحب قدرة واحدة بغض النظر عن مديات اقتراب المسافة التاريخية للوحي والتنزيل أو لزمن المثاليات إن جاز التعبير، فإن هذا لا يميّز السلف عن الخلف إلا الصلة والنقل وإلا فالطاقة ذاتها لا تتغير بقدر ما تتماهى مع معظم تفاصيلها الدقيقة، لاسيّما والطبيعة الإنسانيّة بالنسبة لسائر والمخلوقات، هي البؤرة التي عن طريقها تتجلى الأشياء، وهنا لا نعني البعد الميثولوجي الصوفي بقدر ما هي النظرة لدور الإنسان وموقعه داخل الإطاريين الفكري والثقافي، وخاصة وهما لا يستنكفان من تحرر الإنسان نفسه من تابوات الفهم التي تستأثر بالحقيقة بشكل مستديم! وانطلاقاً من هذا الاعتقاد أن العقل المعاصر باعتباره الجهة المسكونة بالحركة والمؤهلة لتحمل أمانة فلسفة الوجود للإنسان بكل حيواته التفصيلية والدقيقة، ولا يعني ذلك التخلي عن اللاهوتيات (=مطلق الحقيقة) من أجل الانصراف للناسوتيات (=نسبة الحقيقة) لما لذلك من الانتهازية الفكرية، ولعلّ من نافلة القول نستذكر أحد رواد الحداثة الغربية رينيه ديكارت والانطلاق من الحقيقة التي أودعت في الإنسان دون أن يكون مصدرها الإنسان نفسه! لتبدأ رحلة الكوجيتو التشكيكيّة لأجل إدراك فلسفة الوجود من الوجهة السامية التي تستحضر الإنسان بوصفه المحور المثير لمجموعة من السواكن، وبالتالي قد تكون الفكرة مساهمة إلى حد ما في إيجاد مساحات كبيرة تمكن تفكير الإنسان نفسه بأن يشتغل خارج نطاق ‘’حقيقة المعرفة’’ الجاهزة، خاصة إذا ما تعلق الأمر بعلوم الأنثروبولوجيا المتجددة، والتي وإن في صيرورتها تأخذ طابعًا رياضيًّا وميكانيكيا هذا لا يعني تمفصلها بشكل أو بآخر عن مآلات الميتافيزيقيا.
ولو أن ‘’فلسفة ديكارت’’ تتجلى في سيادة الإنسان نفسه على الطبيعة، على اعتبار أن ‘’الحقيقة المطلقة’’ ما هي إلا قوانين ونظم لم تقتصر على نصوص معجزة فقط، بل هي منظومة شاملة للكون بأسره بدأت وانتهت مع مؤهلات الإنسان المادية وقدراته المعنوية (=الذهنية والروحية)، ليجيء العقل ويلعب دورًا رئيسا ليس في الانشغال بالنص المُغلز فحسب بل أيضا في محاولته لإنتاج المعرفة وفق متطلبات الواقع ومدى العلاقة ما بينه مع متطلباته وحاجاته. على هذا الأثر ضرورة البحث عن الحقيقة تظل مستمرة بلزام عقل متحرر من كل ما يؤدي به للأحكام المسبقة والجاهزة، بعيدا عن كل المؤدلجات الضاغطة، وهذا يستلزم تعميق الصلة بين الإنسان وحاضره من جهة، وبالأفق التأريخي من جهة أخرى، باعتبارها معطيات أوليّة للفهم وليست معوقات ينبغي تخطيها، وبالتأكيد هذا ما تضمنه الهرمينوطيقا التي تعتبر في هذا المضمار أشبه ما يكون بخارطة طريق للفهم، على أن يبقى الإنسان في راهنيته ومعاصرته دون إهمال للماضي والمستقبل معًا.
ونعني بالإنسان هنا، الهوية الإنسانية بوصفها مزيجاً من تراكيب عدة، تختزن معظم مكتسبات الحضارات البشرية كافة على مر العصور، تنمو وتتطور وتتشكل حسب لزوميات اللحظة واحتياجاتها.
ضرورة الحياة المعاصرة تقتضي التهافت البشري وفق محركات يقظة يقودها العقل الذي بالرغم من طبيعته غير المدركة، فهذا لا يلغي امتيازه الحسي الخاص، ولا وجه للمبالغة إن قلنا إنه محل رهان للمحفزات كافة سواء أكانت أيديولوجية أو عبارة عن غيبيات وثوابت أو حتى لو كانت إبستمولوجية محضة، إذن المآل بالنسبة للعقل هي محاولة البحث عن الحقيقة، والتي تستلزم حصر الأولويات للإنسان ومدى احتياجاته ومتطلباته التاريخية، مما يستوجب أن ذلك لا يتقاطع ومضامين المرويات الكبرى والنصوص الدينية، كما لا يتنافى أيضا مع رهان العقل كونه عنصر امتياز بشرياً على سائر المخلوقات. مع ذلك كله تظل الحقيقة غائبة، ويظل العقل يلهث وراءها. وهنا تكمن ضمانة فلسفة الوجود الحقيقة.

عضو مركز آفاق البحوث والدراسات

CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق