ديانة الصابئة بين الإيمان والتكفير/ صالح الطائي


ثلاثة مواقع مهمة في كتاب الله العزيز القرآن الكريم ورد فيها ذكر ديانة الصابئة مضافا إلى أسماء أديان سماوية معروفة سابقة للإسلام، للتدليل على أنها دين سماوي أيضا، الموضع الأول في قوله تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون [1] والموضع الثاني في قوله تعالى: ( إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم) [2] والموضع الثالث في قوله تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة) [3]
ويتبين من هذه الآيات أن النص القرآني المقدس يؤكد بما لا يقبل الشك على سماوية ديانة الصابئة، وهذا الاعتراف له مكانة خاصة في الفقه الإسلامي ولاسيما في مباحث الذبائح، والزواج، والجهاد، فالشروط الإسلامية الموضوعة في باب الذباحة مثلا توجب أن تذكى الذبيحة وفق صيغ شرعية متعارف عليها لا يحل، أو يكره أكل الذبيحة إلا بموجبها، ومنها مسألة تدين الذابح "القصاب" وهو على أصح الأقوال: أن يكون القصاب مسلما أو صاحب دين سماوي وليس مشركا. نعم هناك مذاهب إسلامية تشددت في هذه الناحية حتى مع الفرق الإسلامية المخالفة لنهجها، لدرجة أنها منعت أتباعها من شراء لحم الذبيحة التي يذبحها المسلم الشيعي مثلا،وحرمت أكل لحمها، ومنعت الشيعي أساسا من الاشتغال بالقصابة [4] لكن المذاهب الإسلامية غير المتشددة لا ترى بأسا في أكل ذبيحة المسلمين الآخرين، والموحدين من أتباع الديانات الأخرى وفق بعض الشروط، مع أن هناك منهم من وضع شروطا للذبح قد لا يوفرها الموحد غير المسلم، فالشيعة مثلا يشترطون أن يكون القصاب مسلما، وان توجه مقاديم الحيوان صوب القبلة عند الذبح، وان يذكر اسم الله بنية الذبح، ، بل وسقي الذبيحة الماء أو عرضه عليها قبل ذبحها، وعدم ذبحها أمام حيوان آخر، وأن تذبح بسكين حاد لا يعذبها، ويجب عدم إظهار السكين أمامها قبل الذبح لكي لا ترتعب، وتطهير المذبح قبل المباشرة بالسلخ [5] لكن ذلك لا يمنع من أكل ذبيحة غير المسلم لأسباب معروفة بينها الشارع. ويستند الشيعة في وضع هذه الشروط إلى حديث عن "شداد بن أوس" قال: قال رسول الله (ص): (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته [6]
أما المالكية أتباع المذهب المالكي فقالوا: يحل أكل ذبيحة الكتابي وصيده بثلاثة شروط، الأول: أن لا يهل بها لغير الله، ولكن لا يشترط أن يذكر اسم الله عليها، ويحل أكل ما يذبحونه ليأكلونه، الثاني: أن يذبح ما يملكه، ولكن يحل أن يذبح للمسلم مع الكراهة، الثالث: أن لا يذبح ما حرم ذبحه شرعا كالخنزير، لكن المالكية لا يحلون أكل ذبيحة المجوسي ويكرهون أكل ذبيحة العربي النصراني[7]
أما الحنفية فيشترطون أن لا يهل الكتابي ذبيحته إلى غير الله، ولا فرق عندهم في النصراني واليهودي أن يكون عربيا أو أجنبيا أو صابئيا إذا كان يقر بعيسى [8] (أنظر هنا أنهم يعتقدون مثل كثير من الناس أن الصابئة من فرق النصرانية!
الشافعية قالوا: تحل ذبيحة الكتابي إذا ذكر أسم الله عليها، أو إذا كانوا يجهلون أنه سمى عليها أم لا، لكن إذا ذبح ذبيحة لكنيسته أو لعيده وسمى عليها أو ذبحها له مسلم فإنها تحل بكراهة [9]
هنا أود الإشارة إلى مسألة تعلق المتطرفين الإرهابيين المزعومة بالدين، فهم مع تحريهم الشديد في موضوع الذباحة ولاسيما عدم ذبح حيوان أبكم أمام حيوان آخر وتشديدهم على أتباعهم بوجوب الالتزام بهذه القاعدة التي تدل على رحمة الإسلام والرفق بالحيوان، تراهم لا يتحرجون أبدا من ذبح الإنسان مسلما كان أم غير مسلم أمام أخيه الإنسان بكل الهمجية التاريخية المقيتة التي يأنف من مجاراتها إنسان الكهوف، أو تفجير البشر أمام بعضهم البعض بروح إفتراسية توحشية لا مثيل لها عند الحيوان.
أما قضية الزواج فللإسلام رأي آخر فيها، حيث يصح للمسلم الزواج بالكتابية الموحدة، ولا يجوز له الزواج بالمشركة غير الموحدة، ولم أجد في النصوص الإسلامية ما يمنع زواج المسلم بالصابئية على اعتبار أنها موحدة، بل وجدت أن الصابئة أنفسهم يرفضون تزويج بناتهم لغير أتباع ديانتهم.!
أما قضية الجهاد فمعروفة وفي الروايات الصحيحة أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أخذ الجزية من الصابئة والمجوس، وجاء عن ابن حزم في حديثة عن الديانة المجوسية: (وممن قال أن المجوس أهل كتاب: علي بن أبي طالب وحذيفة رضي الله عنهما وسعيد بن المسيب وقتادة وأبو ثور وجمهور أصحاب أهل الظاهر ... ويكفي من ذلك صحة أخذ الرسول (ص) الجزية منهم وقد حرم عز وجل في نص القرآن في آخر سورة نزلت منه وهي براءة أن تؤخذ الجزية من غير الكتابي [10]
جانب مهم آخر له مساس بالقاعدة القرآنية في التعامل مع أتباع الديانات الأخرى ربما لم يلتفت إليه القائمون على التنظير الديني وهو توجه القرآن إلى تنمية نوع من ثقافة القبول بالآخر ممن نشترك معهم بخاصية التوحيد النابعة من وحي سماوي، أما سبب عدم التركيز على هذه الناحية المهمة، أو تجاوزها وإغفالها، فقد جاء متأخرا عن عصر البعثة، بعد أن وجدت الحاكميات العربية نفسها بحاجة إلى موارد الفتوحات لتلبية حاجاتها السياسية والمادية والشهوانية، مما أضطرهم إلى خوض حروب شبه مستمرة لإدامة تدفق الأموال والرقيق والنساء، وأخذ الجزية من غير العربي حتى إذا أشهر إسلامه.
قد يقول قائل : إذا كان هذا صحيحا فلماذا أجلى النبي (ص) اليهود من مدنهم ومنازلهم؟ أقول : إن النبي لو كان راغبا بالحرب والإجلاء بداية، أو كان ذلك ضمن حساباته المستقبلية، لما كان قد عقد معهم تلك المعاهدة التي تبيح لهم ما تبيحه للمسلم، لكنهم بخروجهم على قواعد الأدب ونقضهم المعاهدة وضعوا أنفسهم في مواجهة الإسلام، مما أستوجب محاربتهم وإجلائهم بمعنى أن خيانة الجانب الآخر للمواعيد والمواثيق والعهود هي التي عرضه للعقاب، وليس لأنه على دين آخر، أو أن الإسلام يرفض التعايش مع دين آخر، وتأتي المعاهدة التي عقدها الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع نصارى بيت المقدس لتثبت صحة هذا الرأي.
تركيز القرآن على معيارية الميزان المطلوب التعايش بظلاله من حيث الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر، والعمل الصالح في الحياة الدنيا، يثبت صحة النهج الإسلامي بالتعامل مع أتباع الديانات الأخرى. نعم هناك بين المسلمين من ادعى أن أتباع الديانات الأخرى مشمولون بنص الآيات المذكورة منذ بداية ارتباطهم بأديانهم وحتى نزول رسالة الإسلام، وبعد هذا التاريخ وجب عليهم: إما الاعتقاد بالإسلام وإما أن يكونوا مع الكافرين، إلا أن غالبية علماء المسلمين يرون استمرارية حكم الآية إلى يوم القيامة كاعتراف من الإسلام خاتم الرسالات بأحقية أتباع هذه الأديان بالجزاءين الأخرويين الثوابي والعقابي
وهناك من العلماء من قال مستندا إلى الآية 62 / سورة البقرة: نعم ذلك صحيح ولكن أجرهم لا يشبه أجر المسلم فهم برأيه حتى وإن دخلوا الجنة سيكونون أدنى منزلة من المسلمين، وهذا رأي فيه نظر وخلاف لأن أتباع كل دين ينالون الجزاء الذي وعدهم الله به، فإن كان الله قد وعد المسلمين بجزاء يختلف عن جزاء غيرهم فذلك لحكمة هو أدرى بها، كيف وهو العدل المطلق؟
تكاد الآية 17 من سورة الحج أن تكون الدليل الأوفى على صحة رأينا، فالله سبحانه وحده دون سواه من يفصل بين المسلمين واليهود والصابئين والنصارى والمجوس والمشركين يوم الحساب، ويجزي كل منهم حسب عمله.
إن مجرد الاختلاف في تفسير وتأويل الآيات الثلاث الآنفة يدل على أن لفرق ومذاهب الإسلام أكثر من قراءة للنص الواحد، وإن تلون القراءة هو ما لون الاعتقادات حتى ليبدو وكأن هناك "إسلامات" متعددة وليس إسلاما واحدا، أنتجها الاجتهاد الفقهي، وعليه يجب أن لا نحسب فكر التكفيريين الإرهابيين والمتشددين والمتطرفين على الفكر الإسلامي الصحيح، لأن الذي أوحى لهؤلاء بإجتهاداتهم المنحازة المتطرفة المتشددة هو فهمهم للنص القرآني، وهو فهم مهما سما وعلت منزلة يبقى قابلا للوجهين المتضادين الصح والخطأ، وبالتالي ربما يكون صحيحا وربما يكون خطأ، وفي الحالتين يجب أن لا يحسب ويسحب بكلياته على الدين الأول.
ثم تعالوا لنقرأ قوله تعالى: (ربنا أغفر لنا ولأخوتنا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا إنك رؤوف رحيم) [11] ماذا نفهم من هذه الآية؟ ولمن وجه الله سبحانه النداء؟ ومن هو المقصود بقول "لأخوتنا الذين سبقونا"؟
لقد نزلت الآية الشريفة على رسول الله (ص) في زمن البعثة، في وقت لم يكن في مجتمع الجزيرة من عرب الجاهلية من هو مؤمن بالوحدانية باستثناء أتباع الديانات السماوية الأخرى، بمعنى أن أتباع تلك الديانات هم "أخوة" المسلمين الذين سبقوهم بالإقرار بالوحدانية والعبودية لله الواحد، ومنهم بالتأكيد "الصابئة".
فمن هم أخوتنا الصابئة، ومن أين جاءتهم هذه التسمية، ولماذا؟
ديانة الصابئة واحدة من أقدم الديانات المعروفة، إذا لم تكن أقدمها فعلا لأنها قد تتساوق مع الديانة الإيزيدية في هذا الجانب، وقد اختلفت الأقوال بشأنها لأسباب عديدة تبدو منطقية، منها:
• تكتمهم الشديد وعدم تحدثهم عن ديانتهم للآخرين.
• غلقهم باب الانتساب إلى ديانتهم، ومنع دخول الآخرين إليها واعتناقها.
• أنماط عباداتهم وحياتهم الدينية التي تختلف عن حياة وعبادات الديات الأخرى.
• كتابة كتبهم المقدسة بلغتهم الغريبة، وعدم سماحهم لأحد أن يطلع عليها.
• عدم رغبتهم بالحديث عن نبيهم أو أنبيائهم
هذا التكتم أثمر عن أقوال وآراء غريبة عن الديانة وأهلها ولاسيما بين جيرانهم المسلمين، وهي الأقوال التي أخذها المستشرقون عنهم. ومن الأقوال المشهورة قول البعض: "إنهم من عباد الكواكب" وهذا لأنهم يتجهون إلى موقع برج الجدي في السماء، ويتحرون الشمس في أداء بعض طقوسهم.
وقال آخرون: "إنهم فرقة من المجوس" وذلك لاعتقاد الصابئة بتعدد القوى المدبرة للكون وإيمانهم بوجود قوة عظمى تدبر عمل القوى الأدنى، وقال غيرهم: "إنهم فرقة من النصارى أو أنهم عدلوا عن النصرانية وكونوا معتقدا خاصا بهم" لأنهم يشتركون في بعض طقوسهم العبادية مع المسيحيين، وهناك من يقول: " إنهم جمعوا بعض شرائع النصارى واليهود والمجوس واستخلصوا منها ديانة" وذلك أيضا لأن في طقوسهم بعض ما يشبه طقوس هذه الديانات، وهناك من يرى "أنهم يعبدون الملائكة" وذلك لأن الصابئة يعتقدون أن علاقتهم بالملائكة كانت ولا زالت قائمة بسبب تناقل الأرواح والسفن الملائكية التي تنقلها إلى العوالم الأخرى.
ما رشح من طقوس وعبادات وشرائع وسنن وطرائق عيش الصابئة كان السبب المفضي إلى تعدد آراء الباحثين والعلماء بخصوص هذه الديانة التوحيدية الأصيلة، وهو الذي فتح الباب للعلماء المسلمين القدماء ليصفوهم بصفات فيها الكثير من الغرابة لأنها لا تقوم على دليل علمي أو عقلي ولا تعترف بما قالوه عن أنفسهم وعن ديانتهم، ومع أن المسلمين يرددون عبارة (أهل مكة أدرى بشعابها) عند حديث صاحب العلاقة عن معتقده أو دينه أو قصته، لكنهم في موضوع الأديان والفرق ينسون هذه القاعدة ويحاولون فرض آرائهم ودفع الناس للتصديق بها، وهو الأمر الذي ما زال فاشيا عند بعض فرق المسلمين، فهم حينما يحدثهم الشيعي مثلا عن عقيدته لا يعترفون بحديثه ويعتقدون أنه يستخدم مبدأ "التقية" وذلك لأن أحد العلماء السابقين أو أن أحد رجال الشيعة أورد رأيا معينا حول معتقد الشيعة من قبل، وهو ما حدث أيضا مع الأخوة الصابئة، فأنظر لـ "ابن منظور" ماذا يقول في مادة "صبأ" عنهم، يقول: (الصابئون قوم يزعمون أنهم على دين نوح عليه السلام، بكذبهم) [12] وأنظر لـ "الفيومي" ماذا قال عنهم، إنه يقول: (طائفة من الكفار، يقال أنها تعبد الكواكب في الباطن، وتنسب إلى النصرانية في الظاهر .. ويدعون أنهم على دين صابيء بن شيت بن آدم) [13]
ويبدو أن المستشرقين وعلماء الأنثروبلوجيا لا يقلون تخبطا، ولاسيما أنهم أخذوا بعض أقوالهم عما جاء به علماؤنا الأقدمون، فالعالم اللغوي الألماني "جسنيوس" يدعي أن تسمية "صابئين" مشتقة من كلمة "صباؤوث" العبرية، ومعناها: جند السماء، وفي هذا دليل بزعمه على أنهم يعبدون الكواكب، وأسأل: هل كانت هناك علاقة للفئة الشيعية التي خرجت بعد التغيير في 2003 وسمت نفسها باسم "جند السماء" بصباؤوث العبرية؟
ولم يختلف العلماء في أصل الديانة وحده بل واختلفوا في سبب تسميتهم بالصابئة
فأبن منظور يقول: (وكان يقال للرجل إذا أسلم في زمن النبي (ص): قد صبأ، عنوا أنه خرج من دين إلى دين آخر، كما تصبأ النجوم أي تخرج من مطالعها) [14] وهو ما ذهب إليه الفيومي ألذي قال: (وصبأ من دين إلى دين يصبأ مهموز بفتحتين: خرج فهو صابيء، ثم جُعل هذا اللقب علما على طائفة) [15] أما ابن خلدون في تاريخه فيرى أن اسمهم مشتق من "صابي بن لامك" وهو أخو نبي الله نوح عليه السلام. وأما المستشرق "نولده كي" فيرى (أن تسميتهم مشتقة من صب الماء) [16]
الذي أراه أن آراء العلماء بشأن ديانة الصابئة واسمهم فيها الكثير من النظر والمراجعة ولاسيما أنها تختلف غالبا عما قاله أهل الديانة أنفسهم عن ديانتهم وترفض أن تأخذ به، أو أنها تستند إلى كلمة (يقال) في وقت لا ندري من هو هذا القائل؟ وما هي درجة وثاقته؟ وعلام استند في قوله؟ أو تستند إلى قناعة المؤرخ أو العالم بأنهم يكذبون، كما أن هذه الآراء بنيت أساسا على استنتاجات شخصية قابلة للصح والخطأ، نعم قد تكون التسمية التي أطلقها عليهم "جسنيوس" مشتقة من كلمة عبرية، لكن هل ممكن أن نعتبر ذلك دليلا على عبادتهم للكواكب؟فضلا عن أن اسمهم في العربية: الصابئة وقال اللغويون أنه مشتق من "صبأ" أي: خرج من دين إلى دين آخر، ولا دليل على أنهم سموا بهذا الاسم لهذا السبب، فهل هناك من دليل قاطع يثبت أنهم غيروا دينا كانوا يعتنقونه بدين آخر، وما ذلك الدين؟ ما أسمه؟ ما صفته؟ ولماذا غيروه؟
الذي أراه أن تواجد طائفة الصابئة الصغيرة بعاداتهم وطقوسهم التي تبدو مختلفة عن طقوس وعادات الآخرين، في مجتمعات ذات أغلبية دفع الأغلبية لأن يطلقوا عليهم أسماء إما اختاروها لهم بأنفسهم دون أن يأخذوا رأيهم، أو أنهم سمعوها منهم، بدلالة الرأي الذي قاله "نولده كي" : (إن تسميتهم مشتقة من صب الماء) فهو يتحدث هنا عن اشتقاق لغوي عربي من الفعل (صَّبَ) وهو فعل غير موجود في لغة الصابئة ولا يستخدمونه بصيغته العربية لأن لغتهم هي واحدة من لهجات اللغة الآرامية التي تختلف إشتقاقاتها عن العربية كثيرا، والظاهر أن بعض العرب القريبين منهم أنتبه إلى علاقتهم بالمياه الجارية حيث يستوجب أداء الطقوس التعامل مع الماء الجاري والتعميد، ومباركة الزيجات فيه.أما عزيز سباهي فيرى أن تسميتهم مشتقة من كلمة "مصبتا" الآرامية التي تعني: الإرتماس في الماء .. ويبدو أن تسميتهم بالصابئة قد شاعت عنهم حين كانت اللغة الآرامية بلهجاتها شائعة في بلاد ما بين النهرين كلها حتى الفتح الإسلامي) [17]
ثم لا ننسى أن هناك من سماهم أو أنهم سموا أنفسهم نسبة إلى المناطق التي عاشوا فيها، وفي الأقل هناك واقعة تثبت ذلك حيث أنتسب بعضهم إلى منطقة "حران" التي تواجدوا فيها تاريخيا وصاروا يسمون بـ (الحرانيين) أو (الصابئة الحرانيين) لكن هذه التسميات لما ألحقت بهم التعسف والأذى سارعوا إلى تغييرها، والقصة تعود إلى عصر الخليفة العباسي المأمون بن هارون الرشيد الذي لم يكن يعلم أن أباه الرشيد كان يأخذ منهم "الجزية" حالهم حال المجوس واليهود والنصارى ولذا تراه عندما مر بديار "مضر" يريد غزو الروم فتلقاه الناس يدعون له بالنصر وفيهم جماعة من صابئة حران بزيهم الخاص وشعورهم الطويلة، لفتوا نظره، فسألهم: من أنتم؟ من الذمة؟ قالوا: نحن الحرانية. فقال: النصارى؟ قالوا: لا . قال: فيهود؟ قالوا: لا. قال: فمجوس أنتم؟ قالوا: لا. قال: أفلكم كتاب أم نبي؟ فمجمجوا [أي ترددوا في كلامهم ولم يحسنوا الكلام] فقال: أنتم إذن الزنادقة، عبدة الأوثان، حلال دماؤكم! قالوا: نحن نؤدي الجزية، قال: إنما تؤخذ الجزية ممن خالف الإسلام من أهل الأديان! فاختاروا إما الإسلام، أو دينا آخر وإلا قتلتكم عن آخركم، وقد أنظرتكم إلى أن أرجع، وألا أمرت باستئصال شأفتكم! ولخوفهم من تهديده ادعى بعضهم الإسلام وأدعى آخرون النصرانية وذهب القسم الباقي إلى أحد علمائهم الذي نصحهم أن يقولوا للخليفة عند عودته: إنهم (صابئين) فهذا اسم دين قد ذكره الله في القرآن. وكتب الله للمأمون الموت في سفره ذاك فأرتد من تنصر منهم، وخاف من أسلم القتل فلم يرتد [18] ولكنهم عادوا إلى دينهم سرا أو كانوا يرسلون أطفالهم حديثي الولادة إلى قومهم لينشأوا بينهم على دين الصابئة، وبقوا في علنهم من المسلمين. ولا أدري لماذا لم ينتبه المأمون وهو الذي أشتهر بالعلم أن كثيرا من علمائنا أكدوا أن الحرانيين صابئة ومن هؤلاء ابن حزم الذي قال: (إن الحرانيين هم من الصابئة الذين يرد ذكرهم في القرآن) [19]
الذي أراه أننا يجب أن ننظر إلى هذا الدين على أنه دين سماوي توحيدي أعترف به القرآن وقرنه بالأديان السماوية الأخرى المجوسية واليهودية والنصرانية، أما إذا ما كانوا قد حرفوا دينهم أو أدخلوا فيه ما ليس منه، فنحن غير ملزمين بمحاسبتهم عليه لأن الله سبحانه وتعالى قال في محكم كتابه العزيز (إن الله يفصل بينهم يوم القيامة) أما من يعمل على تكفيرهم أو محاربتهم وتهجيرهم فإنه لا يتبع شريعة الإسلام في مسعاه التدميري التخريبي هذا، ولا يمثل الإسلام الحقيقي، ويكفي لإدانته وتبيان خطل نهجه أنه يكفر فرقا كاملة من المسلمين لمجرد أنه يختلف معهم في الرأي!!
الغريب أن الأمم البعيدة الأخرى اهتمت بالصابئة أكثر مما فعلنا نحن جيرانهم التاريخيين فسبقونا في ترجمة كتابهم المقدس، وكانت أولى الترجمات للباحث السويدي "م. نوربيرغ" سنة 1816 وفي سنة 1867 قام "بيترمان" بترجمة الكتاب مرة أخرى، واستمرت الترجمات لغاية سنة 1925 ولكنها كانت غالبا ترجمات زاخرة بالأخطاء، في وقت لم يخرج بيننا من يهتم بهذا الجانب الحساس، ولذا انبرى بعض المتخصصين والمثقفين الصابئيين في أخريات القرن العشرين لترجمة كتابهم المقدس "الكنزا ربا" إلى العربية، ومن حسن الصدف أني حصلت على نسخة منه، من صديقي الفاضل الدكتور رفعت لازم مشعل، الذي أصدر بعد التغيير في 2003 جريدة باسم "المندا" تهتم بشؤون الصابئة، ومن حسن الصدف أيضا أني كنت أول كاتب مسلم يسهم بالكتابة فيها، ولو قدر لهذا الجهد أن يستمر ويتواصل لكان أسهم بشكل فاعل في تعريف هذه الديانة للعالم بأقلام أتباعها ومريديها، ولكن استهدافهم من قبل الإرهابيين على اعتبار أنهم "كفار" حسب رأي هؤلاء المتشددين أفشل كل هذا السعي الثقافي ودفع القائمين عليه إلى ترك العراق موطنهم الأصلي القديم واللجوء إلى دول غربية غريبة طلبا للأمان.
الآن وقد بدأت الأحوال تتغير نحو الأحسن، أو أننا نأمل بأنها ستتغير نحو الأحسن، نتمنى لو عاد هؤلاء الأفاضل إلى وطنهم الذي نزلت فيه رسالتهم السماوية، العراق، لممارسة العمل من جديد في مشروعهم الريادي.

الهوامش

[] القرآن الكريم
[] المعجم المفهرس لآيات القرآن،، محمد فؤاد عبد الباقي
[1] سورة المائدة، الآية 69
[2] سورة البقرة، الآية 62
[3]سورة الحج، الآية 17
[4]تم المنع بموجب إعمام صادر عن وزارة الشؤون البلدية والقروية السعودية، وكالة الوزارة للشؤون الفنية، والإعمام موقع من قبل الوزير إبراهيم بن عبد الله العنقري في 14/2/1409 هجرية، استنادا إلى فتوى الشيخ ابن باز، على أن يشمل القرار المناطق التي يقطنها الشيعة لوحدهم أيضا أي المناطق الشيعية المقفلة، أي أنهم منعوا الشيعة أن يذبحوا حتى لأنفسهم.!
[5]المسائل الإسلامية، السيد صادق الشيرازي، ص 692- 697
[6] بلوغ المرام من أدلة ألحكام، الحافط ابن حجر العسقلاني، ص 403 حديث رقم 1342
[7] كتاب الفقه على المذاهب الأربعة، عبد الرحمن الجزيري،جزء2، ص 21
[8] المصدر نفسه،(ص ج 23 الجزء2)
[9] المصدر نفسه، (ص23)
[10] الفصل في الملل والأهواء والنحل، ابن حزم الأندلسي الظاهري، الجزء1،ص 135- 136 لاحظ أن الشهرستاني في كتاب "الملل والنحل" وضع المجوس في باب "من له شبهة كتاب" لكنه قال عنهم: (يقال لها: الدين الأكبر والملة العظمى، إذ كانت دعوة الأنبياء (ع) بعد إبراهيم الخليل (ع) لم تكن في العموم كالدعوة الحنيفية) ص210
[11] سورة الحشر، الآية 10
[12] لسان العرب، ابن منظور، الجزء1، ص 102
[13] المصباح المنير، الفيومي، ص 509
[14] لسان العرب، الجزء 1ن ص 102
[15] الفيومي، ص 509
[16] الصابئون في حاضرهم وماضيهم، عبد الرزاق الحسني، ص28
[17] أصول الصابئة ومعتقداتهم الدينية، عزيز سباهي، ص 33
[18] الفهرست، ابن النديم، 230-321
[19] الفصل في الملل، مصدر سابق

CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق